:
تمكنت الجزائر أواخر العهد العثماني من صنع أضخم وأخطر مدفع في
العالم أطلقت عليه تسمية "بابا مرزوق". وقد صادره المحتل الفرنسي سنة 1830 وأخذه
إلى فرنسا أين وضعه كنصب في إحدى ساحات مدينة "بيرست" إلى غاية
اليوم.
فخر البحرية الجزائرية لقرون
متى تسترجع الجزائر مدفع "بابا مرزوق" من فرنسا ؟
عندما نفتح دفتر التاريخ ونتصفح أولى صفحاته، يتأكد لدينا أكثر أن الجزائر كانت قلعة صلبة تمنعت عن الرضوخ لكل المغامرين الذين راهنوا على اغتصاب هدوئها واستقرارها، لكن محاولاتهم الفاشلة ولدت لديهم إصرارا على كسر كبرياء هذه المدينة التي هي بوابة الدنيا وورّثوا هذا الإصرار لأبنائهم وأحفادهم ما جعلها هدفا يستحيل التراجع عن تحقيقه وهكذا توالت الإعتداءات، وحملات الاحتلال قادها أباطرة وجنرالات وجدوا في شعبها قوة لا تقهر ، ولم يدس المحتلون ترابها إلا بعد أن اختل ميزان القوى بين الضفتين.
حسن باشا وضع القنصل الفرنسي في فوهة المدفع وقصف به سفينة فرنسية كان هذا المدفع الذي يعد فخر الصناعة الحربية الجزائرية يحمي خليج الجزائر لغاية الرايس حميدو حاليا (بوانت بيسكاد). ويروي بعض المؤرخين أن أحد دايات الجزائر الذين جاؤوا بعد وفاة حسن باشا غضب من القنصل الفرنسي وهو" الأب فاشر" سفير الملك لويس الرابع عشر بالجزائر الذي ساعد بتقاريره الاستخبارية الاميرال ابراهام دوكاسن في حملته الفاشلة لغزو الجزائر فوضعه أمام فوهة مدفع بابا مرزوق وقصف به السفينة التي تقل قائد الحملة، ومن هنا أصبح الفرنسيون يسمون مدفع بابا مرزوق "لاكونسيلار".
مدفع* بابا* مرزوڤ* السلاح* الذي* استفز* الفرنسيينلقد قاوم الجزائريون وصدّوا هجمات الجيوش القادمة من أوروبا خاصة فرنسا وتفننوا من أجل الدفاع عن مدينتهم في صنع الأسلحة والبناء بحيث توشحت الجزائر بجملة من الحصون التي كانت الحاجز أمام الأساطيل الفرنسية، ودعموا هذه الحصون بمدافع قوية حالت دون سقوط مدينة مزغنة واجهة الجزائر، ولعل من أهم القطع الحربية التي استفزت الفرنسيين، أحد المدافع الذي دخل التاريخ، لأنه وقف في وجه المحتل وكان وسيلة رد بها داي الجزائر على القصف الفرنسي الذي شنه الأميرال دوكين والماريشال دستري والذي سمي مدفع بابا مرزوڤ.
ذكرت مصادر تاريخية أن مدفع بابا مرزوڤ يحمل اسما فرنسيا هو le cousulaire اكتسبه من حادثتين هامتين، حيث قذف منه قنصلان فرنسيان هما الأب لوفاشي le père levacher وبيول Piole ولقد جاءت الحادثة الأولى بعد أن أمطر الأسطول الفرنسي مدينة الجزائر بوابل من القذائف المدفعية في 24 جويلية 1683 واستمر أربعة أيام دون انقطاع، وأمام فشل المفاوضات التي كانت بين داي الجزائر والأميرال الفرنسي بسبب الشروط الفرنسية المهينة للجزائر والمتمثلة في إطلاق الأسرى الأوروبيين ودفع غرامة مالية كبيرة تقدمها الجزائر لفرنسا، الأمر الذي دفع بالداي* الحاج* حسين* ميزومورتو* رئيس* المفاوضين* الجزائريين* للتدخل* للفصل* في* المسألة* التي* بدأت* تأخذ* أبعادا* لدى* ديوان* الجزائر،* حيث* أقدم* على* قتل* بابا* حسن* والإستيلاء* على* الحكم*.
ولم يتوان الداي الجديد في الكشف عن موقفه المتصلب إزء الفرنسيين، حيث أرسل للأميرال دوكين عن طريق ضابط فرنسي تحذيرات تقضي بإعدام المسيحيين برميهم عن طريق المدافع إذا استمر القصف البحري، لكن الأميرال دوكين لم يكترث بهذه التحذيرات معتقدا أن الداي لن يقدم على تنفيذ تهديداته، إلّا أن هذا الأخير نفذ تهديده وقام باقتياد القنصل الفرنسي "لوفاشي" بمعية عشرين أسيرا إلى رصيف الميناء وربطهم على فوهة مدفع بابا مرزوڤ ورماهم، وكان الرد الفرنسي بتكثيف القصف الذي أسفر عن تهديم 60 منزلا وخمسة مساجد وقتل 400 جزائري ماتوا تحت الأنقاض، ومع ذلك استمر الجزائريون في الصمود والمقاومة، رغم تواصل قنبلة مدينتهم ولم يستسلموا للضغوط الفرنسية، مجبرين بذلك الأميرال دوكين على الانسحاب إلى مدينة تولون الفرنسية في 25 أكتوبر 1683 بعد أربعة أشهر من الهجوم الفاشل، ولتدارك هذه النتيجة وافقت فرنسا في* 25* أفريل* 1684،* أي* بعد* سبعة* أشهر* من* الهجوم،* على* توقيع* معاهدة* الصلح* مع* الجزائر* أُقر* فيها* على* ضمان* تجارة* حرة* لهما* دون* قيود* ومعالجة* قضية* الأسرى* التي* بقيت* عالقة* بين* الطرفين*.
عمّرت هذه المعاهدة عامين فقط، بعد أن قام أصحاب السفن المارسيلية والقراصنة الفرنسيون في 1686 بانتهاك بنود المعاهدة ليعود التوتر بين الطرفين أعلن على إثره الملك لويس 14 الحرب على الجزائر فأرسل الماريشال دستري Maréchal déstrée على رأس أسطول بحري إلى الجزائر يوم 26 جوان 1688؛ كانت المعركة تدور بين المدفعية الفرنسية التي أطلقت حوالي عشرة آلاف قنبلة على مدينة الجزائر خلّفت أضرارا جسيمة تمثلت في تهديم المنازل والمساجد وقنوات المياه، وبين المدفعية الجزائرية التي تصدّت للهجوم الهمجي برٌا بإغراق سفن حربية حاولت الاقتراب من الرصيف. الحرب التي استمرت أسبوعين، أوحت للداي الحاج حسين ميزومورتو إعادة الكرّة وإعدام مسيحيين فرنسيين بالطريقة الأولى نفسها، فأمر بربط أربعين مسيحيا على رأسهم الأب بيول على فوهات المدافع وإرسال تحذيرات للماريشال ديستري بإعدامهم إذا لم يتوقف القصف، لكن ذلك لم يجد، وتم تنفيذ الإعدام. لم تتوان فرنسا في الانتقام من ذلك بتقتيل جزائريين بالطريقة نفسها واستمرت المعركة: هجوم فرنسي شرس ومقاومة جزائرية متصلبة ألحقت خسائر كبيرة بالأسطول الفرنسي وكانت وراء إجبار المارشال على الانسحاب من ميدان المعركة، حاملا فشلا* آخر* لفرنسا* وكان* هذا* الفشل* وراء* التخطيط* المحكم* الذي* أدى* إلى* احتلالها* في* سنة* 1830*.
* فرنسا* لا* تزال* تنتقم* من* أسير* عمره* 466* سنة
"بابا مرزوڤ" هو من أقدم المدافع وأشهرها على الإطلاق تم صنعه من مادة البرونز بمصنع دار النحاس في سنة 1542م من طرف مهندس من البندقية وكان ذلك احتفاء بانتهاء أشغال بناء تحصينات الرصيف الذي يربط البنيون بمدينة الجزائر ودار الصناعة وتم وضعه داخل تحصينات الميناء قرب برج القومان حيث بقي حتى سنة 1830، حمل اسم لوكنسولار Le consulaire استولى عليه عند احتلال الجزائر ضمن مجموعة الغنائم التّذكارية لعرضها في متحف "الأنفاليد" بالعاصمة الفرنسية باريس بناء على رغبة الأميرال "دوبيري" الذي راسل وزير البحرية الفرنسية في 6 أوت* 1830* يطلب* السماح* بنقل* هذه* القطعة* الحربية* التي* أهدرت* رغبة* الجيوش* الفرنسية* لسنوات* خلت* إلى* مدينة* بريست* Brest* حيث* تم* نصبها* في* ساحة* الترسانة* في* سنة* 1833* بعد* ثلاث* سنوات* من* احتلال* الجزائر*.
والمدفع "بابا مرزوڤ" يبلغ من العمر الآن 466 سنة قضى منها 291 سنة شامخا بإحدى حصون ميناء الجزائر و175 سنة أسيرا في ساحة الترسانة. يبلغ طول هذه القطعة الحربية النادرة سبعة أمتار ويقدر مدى رميه بـ 4872 م ووزنه الكلي يقدر بحوالي 25 ألف كلغ وعياره يساوي 270 ملم، فيما بلغ وزن قنابله 68 كلغ، ويخلو من أية زخرفة ماعدا النقش باللغة الفرنسية الذي كتب عليه أثناء غنمه. واعترف الفرنسيون بقوة هذا المدفع وجاء في مجلة la france maritime أن هذا المدفع منح حصون رصيف الميناء قوة كبيرة وكانت هذه الفوهة النارية متجهة صوب رأس البيسكاد pointe pescade وهي سهلة الاستعمال رغم طولها المعتبر وخصص لها نخبة من المدفعيين الذين اعتادوا على شحنها وتصويبها وتحديد مدى رميها فيطلقون القذائف بدقة كبيرة تعترض كل سفينة أجنبية تجتاز الرأس البحري.
لم ينس الفرسيون على مر السنين، واختصروا في بابا مرزوڤ صمود الجزائريين ومقاومتهم الباسلة التي صدت هجومين كانا شرسين، وأعادت كم من مارشال وأميرال إلى بلدهم حاملين مرارة الهزيمة والإنكسار، وهاهم حتى الآن ينتقمون منه في ساحة الترسانة حيث يقف "بابا مرزوڤ" ولما أرادوا كسر شموخه وضعوا فوقه الديك رمز الفرنسيين في إشارة منهم إلى قوتهم وانتصارهم، وحتى يورثوا هذا الشعور لم يخطر ببالهم إعادته إلى الجزائر في إطار إعادة ما تم نهبه إبان الإحتلال، وحان الوقت لأن يطالب الجزائريون بهذه التحفة الأسطورية على اعتبار أنها حق لكل* الجزائريين* خاصة* وأنها* كانت* في* أصعب* فترات* التاريخ* رمز* الصمود* والانتصار*.
لقي مدفع بابا مرزوڤ وما زال اهتمام المؤرخين والباحثين في تاريخ الجزائر القديم والحديث، واتفق الجميع على أنه قطعة حربية نادرة في العالم لما كان يمثله من قوة دفاعية تعادل قوة العديد من المحاربين في آن واحد، حتى أن ذلك كان مبعث خوف مستمر لدى قادة الجيوش الفرنسية* بشهادة* هؤلاء* أنفهسم،* ومن* الأساتذة* الباحثين* الجزائريين* كان* بلقاسم* بابا* سي* الكاتب* والباحث* في* التاريخ* واحدا* من* الذين* عكفوا* على* تعرية* حقيقة* هذا* المحارب* الذي* زرع* الهواجس* والرّيبة* في* صدور* المحتلين*.
بابا* مرزوڤ،* محارب* مطلوب* القبض* عليه
كشف بلقاسم باباسي أن مدفع بابا مرزوڤ تم صنعه في دار النحاس التي كانت موجودة بجوار ثانوية الأمير عبد القادر حاليا بالعاصمة سنة 1542، بعد أن جاء الإخوة خير الدين وعروج بربروس إلى الجزائر سنة 1529 لرد خطر الإسبانيين الذين احتلوا قلعة "البنيون"، فكان أول ما قام به خير الدين بربروس هو دعم الصناعة المدفعية وكان مدفع بابا مرزوڤ من أهم ما تم صنعه خلال تلك الفترة وتم وضعه في برج رأس عمار بميناء الجزائر فوق ضريح سيدي ابراهيم السلامي، وكان لقوته الأثر الكبير في دحر خطر الفرنسيين، وأضاف أنه كان لهذا المدفع مميزات جعلته في مصاف الأسلحة المتطورة في ذلك الحين، ذلك أن رميه كان يصل إلى 05 كلم أي من ميناء الجزائر إلى شاطىء تمانفوست، ولم يكتف بنوع واحد من القنابل بل كان يقذف حتى القنابل الرخامية. وعكس ما تم ذكره في المصادر التاريخية التي أشرنا إليها سالفا فإن الباحث باباسي يؤكد* أن* المدفع* بابا* مرزوڤ* كان* يحمل* نقوشات* فنية* راقية* الجمال* وأن* الفرنسيين* كانوا* محتارين* من* أي* موضع* كان* يطلق* قذائفه* لأن* قنابلهم* المتساقطة* على* الميناء* عجزت* عن* الوصول* إليه* وتدميره*.
هذه الآلة الحربية التي حركت جنون القادة الفرنسيين جعلتهم يطلقون عليها لقب المحارب، وكان الأميرال دوبري يأمر جنوده بالوصول إليه والقبض عليه لمسح الألم الذي خلفته حادثتا قتل القنصل لوفاشي وبيول وعشرات المسيحيين، وأكّد المتحدث أن هذا الأميرال الذي ينحدر من منطقة بريست استولى على هذه التحفة الحربية النادرة في العالم وأخذها إلى مدينته ليتباهى بانتصاره ليس على الجزائريين فقط بل انتصاره على بابا مرزوڤ بذاته، فأسره وأذله بوضع الديك رمز الفرنسيين فوقه في المكان المسمى الترسانة حيث مازال منتصبا هناك يلفه التهميش واللامبالاة، وإلى جانب هذه القطعة التي كانت محط اهتمام الكتاب والباحثين الفرنسيين حيث تطرقوا إليه في كتاباتهم على اعتباره رمز انتهاك المسيح من طرف المسيحيين، يوجد الآن في متحف الانفاليد 26 قطعة حربية (مدافع) سرقت من الجزائر ما يفند بالحجة أن الفرنسيين في احتلالهم* للجزائر* لم* يحملوا* حضارة* بل* سرقوا* حضارة* الجزائر* إلى* متاحفهم*.
الفرنسيون يتمسكون به لأنه يفضح عارهم
يحتفظ الفرنسيون بـ
"بابا مرزوق" المدفع العملاق النادر، لأنه لو أعيد إلى الجزائر فسيجلب فضول
الباحثين الذين سيكتبون قصصا حقيقية عن ذكريات سيئة سببها لهم "بابا مرزوق".
فاستيلاؤهم عليه كان بمثابة انتصار نفسي ومحاولة محو عار التصق بهم.
في الربع
الأخير من القرن السابع عشر هاجم الأميرال الفرنسي فرانسوا دوكان مدينة الجزائر دون
جدوى، وبعد عدة محاولات في سنوات متتالية عاد إلى الانتقام بأسطول كبير فدمر جزءا
من المدينة، وعندما فشل حاكم الجزائر العثماني في إقناع الأميرال بوقف العدوان أحضر
أعضاء السلك الدبلوماسي الفرنسي في الجزائر حينها وعددهم 13 وقذفهم من فوهة المدفع
بابا مرزوق الواحد تلو الآخر، وتكررت مأساة الدبلوماسيين الفرنسيين مع هذا المدفع
الذي أطلقوا عليه اسم "القنصلي" ربما انطلاقا من تلك الذكريات السيئة. وعام 1688
ذهب الماريشال الفرنسي "ديستري" إلى الجزائر انتقاما لذكرى الدبلوماسيين، وقيل بأنه
تمكن من تدمير جزء معتبر من المدينة بمدافعه، ولما عجز حاكم الجزائر مرة أخرى عن
وقف العدوان أعاد حكاية الدبلوماسيين فوضع 40 فرنسياً من بينهم قنصل فرنسا "الأب
فاشر" الذي تحدثنا عنه سابقا. ومن ساعتها دخل هذا المدفع الذاكرة الفرنسية
السوداء.