[
من عجائب التاريخ !
= = =
كلما ضاقَ الخناقُ بهذه الأمةِ ، واشتدّ الطوقُ إحكاماً على عنقها ،
وبدا للعالمِ أن الخرقَ قد اتسع على الراقع ، فلم يعد يجدي الترقيع فيه ..!
وكلما بدا للعيون الكليلة أن هذه الأمةَ قد استمرأت الهوان ، وأصبحت تقتات
على الذل ، ومن ثم فهي تهوي إلى الحضيض بقوة ،
كأنها كرة الثلج تكبر كلما تدحرجت !
كلما اتسعت دوائر الانحراف ، وتعددت صوره ، وتنوعت أشكاله ،
حتى أوشكت أن تكون هي الطابع العام ،
مما يجعل كثيرين ممن يريدون الإصلاح أن ينفضوا أيديهم يأسا وإحباطاً .. !!
..
كلما حدث هذا وذاك ونحوه ،
قفزت إلى ذاكرتي قصة جزيرة ( أقريطش ) _ كريت _ وقد هاجمتها زحوف الروم من
كل حدب وصوب ، وبأعداد مهولة مخيفة ، وأحكمت عليها الحصار ،
حتى أوشك المسلمون أن يموتوا داخل الحصون المنيعة جوعا وخوفا وهلعا ..!
ثم تحدث المفاجأة التي لا يكاد يصدقها عقل ,,!!
فما هي القصة . وأين موضع العبرة فيها .؟
أدعك الآن بين يدي الشيخ الجليل علي الطنطاوي رحمه الله يقص عليك نبأ القوم !
..
( … وافى الجزيرة جمع لم يحط بأقريطش مثله أبداً ، ففزعنا إلى غلق الحصن ،
وخرج الروم من المراكب ، ونزلوا البر ، وغلبونا على ميرة البلد _ الطعام _
واشتد الحصار ، وارتفعت الأسعار ، ونفد المأكول ، وزادت المكاره ،
حتى أكل الناس ما مات من البهائم ، وأكلوا كل شيء يؤكل ، حتى نفد الصبر ،
فعزموا على ( التسليم ) !!!
هناك قام شيخ صالح فيهم ، فقال :
..
هل بقي لكم حول تنتصرون به ؟ أو صبر تلجأون إليه ؟
قالوا : لا . وقد أجمعنا على أن نفتح الباب لهم ..
قال : فاقبلوا مني ما أشير به عليكم . اجمعوا الناس كلهم في رحبة الحصن .
فلما اجتمعوا قال :
افصلوا صبيانكم عن رجالكم ، ورجالكم عن نسائكم ، ففعلوا .
فقال :
..
أحضروا الآن قلوبكم وتوبوا إلى الله توبة من لا يجد ملجأ إلا إليه ،
وأخلصوا النية له ، إخلاص من لا يرجو فرجا إلا من عنده ، واعزموا على
أن لا تعودوا إلى ما كنتم فيه من معصية ، وإعراض عن الله تعالى ..
ثم قال : عجّوا بنا إلى الله تعالى .. !
فعجوا عجةً واحدة ، حتى أحسوا أن أصواتهم خرقت حجاب السماء !
ثم صاح فيهم :
عجوا مرة أخرى ..ولا تشغلوا قلوبكم إلا بالله ، ونزهوا خواطركم عما سواه ..واخلعوا
من قلوبكم كل شيء ..!
..
فلما نزهوا قلوبهم من غير الله ، ولم يلتفتوا إلى سواه ، رأوا الدنيا تصغر في
عيونهم ، حتى تغدو كالعدم ، وتهون عليهم مسرات حياتهم ، وتهون عليهم
قوى أعدائهم ، وأحسوا أن قلوبهم قد عاد إليها الأمل ، حين عاد إليها الإيمان
العميق ، وأحسوا أنهم لا يحاربون بقوة سواعدهم ، بل بقوة إيمان قلوبهم ، ووراءهم مدد الملائكة يتتابع !!
..
وكان الناس قد ضجوا البكاء والنحيب ، فرقت قلوبهم ، وشفت ضمائرهم ،
ورفرفت أرواحهم ، عند ذاك صاح فيهم الشيخ بصوت مهيب جليل :
الآن .. الآن أفتحوا الأبواب ، وشدوا عليهم شدة رجل واحد ، يطلب النصر أو الشهادة ..!
..
وبسرعة خاطفة فتحت الأبواب ، وشد الناس جميعهم بقوة ، ووقف التاريخ
مشدوهاً ، يرى كيف اقتلعت هذه الجماعة القليلة الجائعة ، بما تيسر في يدها ،
كيف اقتلعت جيوش الروم المدججة الهائلة ، وكيف أنقذت الجزيرة ،
وأعادت إليها الراية المظفرة التي عقد لواءها محمد صلى الله عليه وسلم .
..
تلك هي القصة باختصار ..
وفي بطون كتب التاريخ الكثير من أمثال هذه القصة العجيبة ، التي تقرر كيف
يصنع الإيمان بأهله ، إذا هم تفانوا فيه ، فتخرج على أيديهم ما يشبه المعجزات ..!
هذه القصة وأمثالها كثير ، تصب في خانة واحدة ، لتقرر قاعدة ضخمة هي :
..
حين يعود الناس إلى رحاب الله بصدق ، وتكون الكثرة الكاثرة فيهم للصالحين
منهم ، والكلمة كلمتهم ، وتجتمع القلوب على هذا الدين ، وحمل همه ،
فما أسرع ما يكون النصر ، وما أسرع ما يأتي الفرج ..
(..وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ
عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ) ..
( وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ )
( إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ
كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ )
والآيات كثيرة ..
..
وفي المقابل : حين يديرون ظهورهم لتعاليم ربهم ، ويؤثرون الانجراف مع شهوات
الحياة ، ويسلمون أنفسهم إلى أيدي أعدائهم ، ويترسمون خطاهم ، ويسيرون في
غبارهم .. عندها لا يلومون إلا أنفسهم .,.
( .. وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلَكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ )
( وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ )
والآيات أيضا كثيرة في تقرير هذه القضية ..