نظرية لــومــبــروزو
أولاً : مضمون نظرية لومبروزو :
مما لا شك فيه أن علم الإجرام الحديث يدين بالفضل للماركيز الإيطالي سيزار لومبروزو César Lombroso (1836-1909) ، الذي وضع أسس الحركة العلمية في مجال الدراسات الإجرامية ، والذي تمثل نظريته حجر الزاوية لكافة المذاهب البيولوجية والتكوينية التي قيلت من بعده حول تفسير السلوك الإجرامي[1] ، كما أن أفكاره تمثل عصب الفلسفة الوضعية La philosophie positive في الفكر العقابي والسياسة الجنائية[2].
ولد لومبروزو في فيرونا Vérone في نوفمبر من عام 1835 ، من أبوين يهوديين ودرس الطب في عدد من الجامعات الإيطالية. وبعد تخرجه عمل أستاذاً للطب الشرعي والعقلي بجامعتي بافيا Pavia وتورينو Torino الإيطاليتين ، كما كان طبيباً للأمراض العقلية في سجون إيطاليا. وقد أتاح له عمله عدة سنوات في الجيش الإيطالي ملاحظة العديد من النماذج المختلفة من الجنود والقادة العسكريين. وقد لاحظ أن بعضهم يتصف بسمات يغلب عليها طابع القسوة والتمرد على النظام ، بينما يتسم البعض الآخر منهم بالطاعة والانضباط. كما أن الجنود الأشرار كان لديهم شذوذاً عضوياً وكانت لديهم وشمات ورسوم قبيحة ، ليست موجود لدى أقرانهم من بقية العسكريين. ولاحظ على أكثرهم استعمال اليد اليسرى بدلاً من اليمنى.
كما أجرى لومبروزو بحوثاً على نحو 383 جمجمة لمجرمين متوفيين من مرتكبي جرائم العنف ، فقد اكتشف تجويف في مؤخرة الدماغ مثل التي توجد عند بعض الثدييات الدنيا. واسترعى انتباهه شذوذ في تكوين الأسنان وشكل الجبهة وحجم الجمجمة ، يشبه الحال الذي كان عليه حال الإنسان الأول. وتأكدت وجهة نظره هذه بتطبيقه للمقاييس الأنثروبولوجية وبالفحص العضوي لعدد 5907 من المجرمين الأحياء.
وقد سجل لومبروزو أسس الحركة العلمية في مجال علم الإجرام ونتائج أبحاثه تلك في كتابه الشهير "الإنسان المجرم" L’homme criminel ، الذي ظهرت طبعته الأولى عام 1876. ثم تبعه بمؤلف آخر في عام 1901 أسماه "الجريمة أسبابها وعلاجها" Crime : ses causes et remèdes. واختتمها بمؤلف عن المرأة المجرمة والدعارة La femme criminelle et la prostituée في عام 1906.
وتقوم نظرية لومبروزو على أساس أن هناك أشخاصاً يتميزون بخصائص جسدية وملامح عضوية خاصة وسمات نفسية معينة ، وأن هؤلاء الأشخاص ينقادون إلى الجريمة بتأثير العوامل الوراثية ويندفعون إلى الإجرام بحكم تكوينهم البيولوجي ، اندفاعاً حتمياً. لا يكون حياله من سبيل للعلاج سوى استئصاله من المجتمع. ولا يخفى تأثر لومبروزو في ذلك بأفكار داروين عن التطور والارتقاء التي عرض لها في كتابه الأشهر "أصل الأنواع" عام 1859 ، والذي يؤكد فيه أن الإنسان هو استمرار لسلفه الحيواني ، أو أن الإنسان هو أخر حلقة من حلقات تطور الخلية الحية الأولى.
وهكذا فلدى لومبروزو أن الإنسان المجرم هو الذي يحتفظ عن طريق الوراثة بالخصائص الأنثروبولوجية والبيولوجية المماثلة للإنسان البدائي ، فتدفعه دفعاً إلى سلوك سبيل الجريمة ، أي أن المجرم مجبر على ارتكاب الجريمة ، فهو مجرم بالميلاد Criminel né أو بالطبع. أي أن السلوك الإجرامي يقوم لديه على فكرة الحتمية البيولوجيةDéterminisme biologique ، التي تعود إلى انحطاط في الأصل Dégénérescence ، أي توافر صفات تشريحية وعقلية ونفسية وعلامات ارتدادية Atavisme في شخص المجرم تطابق ما كان عليه الإنسان في العقود السحيقة ، تؤدي إذا ما توافرت في شخص معين إلى دفعه – بلا اختيار – إلى السقوط في هوة الجريمة.
ولقد كانت نقطة البدء لدى لومبروزو عندما شرع في تشريح جثة قاطع طريق في جنوب إيطاليا يدعى فيليلا Vilella ، إذا اكتشف وجود تجويف في مؤخرة جمجمته Facette Occipitale شبيه بالتجويف الذي يوجد لدى بعض الحيوانات المتوحشة والقردة ولدى بعض الثدييات الدنيا Mammifères inférieurs. وقد استنتج من ذلك أن المجرم يتمتع بشذوذ جسماني يرتد به إلى صفات وخصائص الإنسان الأول وأن هذا الشذوذ هو الذي يفسر إجرامه ، بل ويجعله منقاداً على نحو حتمي إلى سلوك سبيل الجريمة.
ومن بعد تناول لومبروزو بالفحص حالة مجرم خطير يدعى فيرسيني Verseni اتهم بقتل نحو عشرين من النساء بطريقة وحشية ، حيث كان من عادته أن يمثل بجثثهم بعد قتلهم ، ويشرب من دمائهم ثم يقوم بدفنهم في أماكن خصصها لذلك. وقد لاحظ عليه لومبروزو وجود علامات خاصة مثل التي كانت توجد لدى الإنسان البدائي والحيوانات الدنيا والمتوحشة.
ثانياً : سمات الارتداد لدى لومبروزو :
خلص لومبروزو من دراسته لتلك الحالات إلى أن للمجرم الصفات التشريحية والنفسية ومظاهر قسوة التي كانت توجد لدى الإنسان البدائي والحيوانات المتوحشة ، تدفعه إلى الجريمة على نحو حتمي وبحكم تكوينه البيولوجي والعضوي. فالمجرم هو نوع من البشر يتميز بمظاهر جسمانية شاذة وسمات نفسية معيبة يرتد بها إلى الأصول الأولى للإنسان في العصور الغابرة.
وقد عدد لومبروزو مظاهر هذا الارتداد أو الرجعة الإجرامية ، فذكر منها انحدار الجبهة ، وضيق تجويف عظام الرأس ، بروز عظام الوجنتين ، وغزارة في شعر الرأس والجسم ، وقلة شعر اللحية ، وطول مفرط في الذراعين والأصابع ، ضخامة الفكين ، والشذوذ في حجم الأذنين وفرطحتها ، والشذوذ في تركيب الأسنان ، وانعكاف الأنف وفرطحتها ، والبلوغ الجنسي المبكر. وقد اشترط لومبروزو وجود خمس علامات على الأقل من علامات الارتداد كي يصبح الإنسان مجرماً بالفطرة.
وقد وجه لومبروزو بعض أبحاثه محاولاً أن يجمع الصفات العضوية الخاصة التي توجد لدى طوائف المجرمين من السارقين والقتلة ومحترفي الدعارة ومغتصبي النساء.
ولا يقف الأمر لدى لومبروزو عند حد توافر سمات ارتدادية خاصة بالمجرم ، وإنما قرر من واقع بحوث لاحقة أن هناك علاقة وثيقة بين الإجرام وبين التشنجات العصبية أو الصرع. ولقد كان دليله في ذلك حالة الجندي ميسديا Misdea الذي كان مريضا بالصرع. فقد حدث في عام 1884 أن طارد هذا الجندي فجأة – بعد عدة سنوات قضاها في الجيش وكان مسلكه منضبطاً - ثمانية من رؤسائه وزملائه وقتلهم ، ثم سقط فاقد الوعي اثني عشر ساعة لمجرد أن أحدهم سخر من مقاطعة كلابريا التي ينتمي إليها. ولما أفاق من جريمته لم يتذكر شيئا مما حدث. وخلص لومبروزو من ذلك إلى أن هناك صلة بين الإجرام وبين التشنجات العصبية المصاحبة للصرع ، التي من شأنها أن تدفع المجرم إلى ارتكاب أفعال تتسم بالعنف ربما دون أن يدري عنها شيئاً.
بل أن لومبروزو قد كشف في الطبعة الثانية لمؤلفه الإنسان المجرم عام 1897 عن أن هناك عدد من الصفات النفسية والملامح السلوكية الخاصة التي تميز المجرم عن غيره من الأفراد. من تلك الصفات ضعف الإحساس بالألم - الذي كشف عنه كثرة وجود الوشم على أجسام المجرمين - الغرور ، انعدام الشعور بالشفقة ، سهولة الاستثارة والاندفاع ، الكسل واللامبالاة ، الشعور بعدم الاستقرار ، ضعف الوازع الأخلاقي ، عدم الشعور بالذنب.
ثالثاً : تصنيف المجرمين عند لومبروزو :
لقد تعرضت أفكار لومبروزو أبان ظهورها لنقد شديد خاصة فيما يتعلق بفكرة الارتداد ، وتمسكه بالمجرم بالميلاد أو بالفطرة كنمط إجرامي وحيد بين المجرمين ، إذ من الصعب جمع كافة المجرمين تحت نموذج واحد. وقد دفع هذا النقد لومبروزو إلي أن يطور من نظريته ، فقام باستبعاد المجرم بالميلاد وأضاف طوائف أخرى من المجرمين ، وانتهى إلى اعتماد تصنيف سداسي للمجرمين يضم الفئات الآتية :
- المجرم المجنون Criminel fou ou aliéné :
وهو الشخص الذي يرتكب الجريمة تحت تأثير المرض العقلي. وقد أدخل لومبروزو في هذه الطائفة المجرم الهستيري Criminel hystérique ومدمن الخمر والمخدرات.
- المجرم الصرعيCriminel épileptique :
هذا النمط يضم من يرتكب الجريمة تحت تأثير الصرع الوراثي ، الذي ينتقل عادة عند الولادة ، ويؤدي إلى ضمور في بعض العضلات ويؤثر على الأعصاب ويحد من الوظائف النفسية. وقد تتطور حالة المريض بالصرع فتؤثر على حالته العقلية بسبب استعداده الخاص للاضطرابات العقلية فينقلب إلى مجرم مجنون.
- المجرم السيكوباتي (المجنون خلقياً) Criminel psychopathique
وهو الشخص الذي ينعدم لديه القدرة على التكيف مع المجتمع ، فيبدأ بالتصادم معه في صورة خرق القوانين وارتكاب الجرائم.
- المجرم بالعاطفة Criminel par passion :
وهو مجرم يتصف بحدة المزاج وبالحساسية المفرطة وسرعة الانفعال وجموح العاطفة. يندفع إلى تيار الجريمة تحت تأثير حب شديد أو حقد أو غيرة أو استفزاز ...الخ. وغالبا ما تكون جرائمه من نوع الجرائم السياسية وجرائم الاعتداء على الأشخاص. وسرعان ما يندم عقب ارتكاب جريمته ، لذا غالباً ما يسارع إلى تعويض الضرر الناتج عن الجريمة ، أو تغيير محل إقامته كي يبتعد عن مكان الجريمة أو الاتصال بالمجني عليه. وقد يقدم على الانتحار عقب جريمته.
- المجرم المعتاد Criminel d’habitude :
وهو نمط من المجرمين يولد من دون أن تتوافر لديه علامات الارتداد أو صفات وخصائص المجرم المجنون أو بالميلاد ، إلا أنه يندفع إلى ارتكاب الجريمة تحت تأثير ظروف بيئية واجتماعية معينة ، كإدمان الخمر ، البطالة ، الفقر ، أواختلاطه بمحترفي الإجرام منذ الصغر. فهو مجرم بالاكتساب وليس بالميلاد. ويغلب أن تكون جرائمه بسيطة من نوع جرائم الاعتداء على الأموال ، وكثيراً ما ينجح السجن في تهذيبه وتقويمه ويدفعه إلى الإقلاع عنها.
- المجرم بالصدفة Criminel d’occasion :
وهو شخص لا يتوافر فيه الاستعداد الإجرامي وليس لديه صفات المجرم بالميلاد ، ولكنه غالباً ما يرتكب الجريمة تحت ضغط عدد من المؤثرات الخارجية الطارئة التي تؤثر في قدرته على ضبط النفس كإدمان الكحوليات ، أو الحاجة الملحة ، أو حب التقليد وحب الظهور ، أو تحت ضغط الإغراء الشديد. وكثيراً ما يرتكب هذا النمط من المجرمين طائفة الجرائم الشكلية المحضة التي يعتبرها القانون كذلك وإن تجرد سلوك الفاعل من الخطورة الإجرامية (المجرم حكماً أو أشباه المجرمين عند لومبروزو). وسركان ما يقلع المجرم من هذه الطائفة عن إجرامه شريطة ألا يتعرض لعقوبة قاسية قد تفسده وتصنع منه مجرماً بالعادة. لذا تنحى السياسة الجنائية حيال هذا النمط من المجرمين إلى إتباع بدائل عقابية تباعد بينه وبين الاختلاط بالمجرمين المحترفين في المؤسسات العقابية.
رابعاً : تقدير نظرية لومبروزو :
لاشك أنه يعود للعالم الإيطالي لومبروزو الفضل في توجيه الاهتمام إلى شخص المجرم كأساس للظاهرة الإجرامية خاصة من زاوية تكوينه العضوي ، بعد أن كان الاهتمام منصباً على الجريمة كفعل مادي أصم. ولا ينسى العلم لهذا الباحث فضله في الدفع بالدراسات الإجرامية نحو إتباع المنهج العلمي القائم على الملاحظة والتجربة ، ودوره أيضاً في إنشاء وتطور علم الأنثروبولوجيا (علم طبائع الإنسان) ، ووضعه لأول تصنيف علمي للمجرمين قائم على الخصائص البيولوجية والعضوية والنفسية ، محاولاً بيان الرابطة بين تلك الخصائص وبين السلوك الإجرامي.
بيد أنه وجهت لنظرية لومبروزو عدة انتقادات[3] ، يعود بعضها إلى قصور في المنهج ، والبعض الأخر لوجود قصور موضوعي في نظريته. ونوجز هذا القصور فيما يلي :
- فقد قيل أن هناك قصوراً منهجياً قد وقع فيه لومبروزو ، يعود إلى محاولة تعميمه Généralisation للنتائج التي توصل إليها ، من دراسة بعض الحالات الفردية ، على بقية المحرمين. فاستنتاجه نقص الشعور بالألم لدى المجرمين لانتشار عادة الوشم أمر لا يمكن تعميمه على الكافة حتى بين المجرمين أنفسهم ، وذات الأمر يقال بالنسبة لعادة استعمال اليد اليسرى كمظهر إجرامي ودلالة على الاضطراب النفسي. كما أن لومبروزو حينما كان يجري أبحاثه على أكثر من حالة ، لم يراع أن تكون تلك العينة ممثلة تمثيلاً جيداً ، مما يجعل النتائج التي توصل إليها محل شك وتفتقد للموضوعية وللمنهج العلمي السليم.
- ومن ناحية أخرى لم يلجأ لومبروزو إلى المجموعة الضابطة - رغم أن هذا الأسلوب في البحث كان معروفاً في زمنه - حتى يتحقق من مدى انتشار الخصائص العضوية والنفسية التي تميز الرجل المجرم لدى بقية الأفراد من غير المجرمين. كما لم يجري متابعة للحالات التي سبق فحصها من أجل الوقوف على ما قد يكون قد لحقها من تغير ، ويتثبت من صدق ما سبق استخلاصه من نتائج.
- وقد نال اعتقاد لومبروزو فيما يسمى "بالمجرم بالميلاد" حظه الشديد من النقد. فالادعاء بوجود المجرم بالميلاد ، أي المجرم الذي يحتفظ عن طريق الوراثة بالخصائص الأنثروبولوجية الخاصة بالإنسان البدائي ، فتدفعه حتماً إلى الجريمة أياً ما كان المكان والزمان الذي فيه ولد ، لا يستقيم مع نسبية فكرة الجريمة وتغيرها من مكان إلى آخر وفي المكان الواحد من آن إلى آخر. وأن الأمر يتوقف في النهاية على الوصف الذي يخلعه قانون العقوبات على الأفعال الإنسانية.
- كما أخذ على نظرية لومبروزو – خاصة في مراحلها الأولى - قصورها الموضوعي ، إذ بالغ الباحث في إظهار دور الصفات الخلقية والعيوب الجسدية للمجرم ومظاهر التكوين العضوي واعتبارها الدافع إلى سلوك سبيل الإجرام ، مع إنكاره أو إغفاله لدور العوامل البيئية والظروف الاجتماعية كمحرك من محركات الجريمة. فالخصائص الجسدية حالة ساكنة غير ديناميكية وغير قادرة بذاتها على إحداث نتيجة ايجابية ملموسة في العالم الخارجي. وربما كان ذلك هو الذي دفع لومبروزو إلى إبراز دور العوامل الاجتماعية في نشأة الجريمة في الطبعة الخامسة والأخيرة من كتابه العمدة الإنسان المجرم عام 1896.
- وقد عيب على تلك النظرية أيضاً فساد الأساس الذي بنيت عليه بشأن الصفات الخلقية التي تنسب للمجرم بالميلاد – على فرض صحة وجود هذا النمط الإجرامي. فلقد دلل العلامة أنريكو فيري على عدم صحة مقولة لومبروزو بأن جمجمة المجرم تقل عن جمجمة الرجل العادي التي تتراوح بين 1300 و 1450 جرام ، إذ أن بعض العباقرة كانت تقل جماجمهم عن هذا الوزن ولم يثبت سقوطهم في هوة الجريمة. ومن جانب أخر فإن لدى بعض البلهاء يزيد وزن الجمجمة عن 2900 جرام خلافاً لما يقول به لومبروزو من أن ذوي العاهات العقلية تقل أحجام جماجمهم. بل أن لومبروزو ذاته بعد أن كان قد قدر أن الصفات الإجرامية توجد لدى حوالي 70% من المجرمين عاد وأكد أن النسبة لا تزيد على 30%.
- وقد قيل أيضاً أن نظرية لومبروزو لا ترتكن إلى أساس علمي سليم. إذ لم يقدم هذا العالم تفسيراً علمياً للعلاقة بين التكوين العضوي للمجرم وبين الميل الحتمي نحو الإجرام. ففضلاً على أنه لا يتوافر لدينا معلومات كافية عن الصفات العضوية لدى الإنسان الأول ، وثبوت أنه ليس كل رجل بدائي توافرت فيه تلك الصفات - على فرض وجود صفات معينة تميز هذا الإنسان - قد سلك سبيل الجريمة ؛ فمن المؤكد أن العلامات الارتدادية التي قيل بنسبتها إلى المجرم بالميلاد ، والتي تماثل إلى حد كبير خصائص الإنسان البدائي والحيوانات المتوحشة ، تتوافر لدى الكثيرين من غير المجرمين ، الأمر الذي يؤكد خطأ القول بوجود مجموعة من الخصائص التي تميز بها جميع المجرمين. علاوة على أنه لا يمكن تصوير المجتمعات البدائية بالوحشية والدونية ، ذلك أن علماء الأنثروبولوجيا الثقافية يؤكدون على تضائل الجريمة وتلاشيها كلما عدنا بالتاريخ إلى الوراء نظراً لبساطة الإنسان الأول.
* ولقد حاول العالم الإنجليزي شارلز جورنج Charles Goring – الذي كان يعمل طبيباً بالسجون الإنجليزية - التأكيد على صحة هذا النقد الأخير لنظرية لومبروزو فقام في عام 1901 بالمقارنة بين ثلاثة آلاف من المجرمين العائدين وبين عدد مماثل من غير المجرمين. واستمرت تلك الدراسة لمدة ثماني سنوات وضمت المجموعة المقارنة عدداً من طلبة جامعة أكسفورد وجامعة كمبريدج وبعض الجنود والضباط المهندسين في الجيش الإنجليزي. وخلص إلى أنه لا يوجد بين العينة المقارنة فروقاً ذات بال في التكوين العضوي وعلامات الارتداد والشذوذ تؤكد اختلاف المجرمين عن سواهم من غير المجرمين. وقد نشر جورنج نتائج دراساته في مؤلف له بعنوان "المجرم الإنجليزي" Criminel anglais عام 1913[4].
بيد أن جورنج قد خلص إلى أن المجرمين يتميزون على نحو أو أخر بنقص في وزن الجسم وطول القامة ، الأمر الذي يقوم لديه دليلا على انحطاط عام موروث في طبيعة المجرم يتأكد بفحص مستواه العقلي.
وقد حاول هذا الباحث – بعد إنكاره لما جاء بنظرية لومبروزو - أن يقدم تفسيراً للظاهرة الإجرامية من واقع هذا القصور البدني لدى المجرمين. فلديه أن أصحاء البدن والعقل بما أنهم ناجحون في أعمالهم ويتكسبون رزقهم في يسر وناجحون في علاقاتهم الاجتماعية فإنهم لا يرتكبون الجرائم ، خاصة جرائم الاعتداء على الأموال وجرائم العنف وجرائم الاعتداء على العرض (لسهولة تكوينهم لأسر) ، في حين أن الأشخاص الذين يعانون نقصاً بدنياً أو ضعفاً يتعرضون أكثر من غيرهم للسقوط في وهدة الجريمة.
وليس من العسير أن نكتشف المبالغة في هذا الاستخلاص. ذلك أن الكثير من الأفراد – ومنهم العباقرة والعلماء – يتمتعون ببنية جسدية ضعيفة ومع ذلك لم يسلكوا سبيل الإجرام. فالنقص البدني ليس حكراً على المجرمين وحدهم.
وفي رأينا أن نظرية لومبروزو قد لاقت بعض النقد المبالغ فيه[5]. فالحق أن هذا الباحث لم يقصر اهتمامه على الصفات الخلقية والعضوية للمجرمين ، بل تعداها لدراسة الصفات النفسية ، وكذا العوامل الاجتماعية. ويظهر ذلك جلي من مراجعة الطبعات الثلاثة التالية للطبعة الأولى من مؤلفه الإنسان المجرم. وحتى بشأن الصفات العضوية فلم يقل لومبروزو أنها العلامة المميزة للمجرم عن غيره من الأفراد ، وإنما أكد على أن هذه الصفات تشيع أكثر لدى المجرمين عن غيرهم.
كما أن الوراثة الإجرامية وفكرة المجرم بالميلاد لا تعني السقوط الحتمي في طريق الإجرام ، كل ما هنالك أنه يقول بوجود ميل أو استعداد موروث لخرق القوانين ، وأن الأمر لا يفض إلى جريمة إلا إذا اقترنت بهذا الميل عوامل أخرى.
مقتطف من كتاب الـمـدخـل : لدراسة الظاهرة الإجرامية والحق فى العقاب
الجزء الأول : الـظـاهــرة الإجـرامـيـة
دكتور أحـمـد لطـفـى الــســيــد
كلية الحقوق - جامعة المنصورة
قسم القانون الجنائى .
http://www.acofps.com/vb/archive/index.php/t-10685.html