وقد توصلت نتائج البحوث التي أجريت حول تحديد العلاقة بين النضج والتعلم إلى ما يلي :
1 - المهارات التي تعتمد على أنماط السلوك الناضجة يسهل تعلمها أكثر من غيرها
ففي معظم اللغات تجد كلمات تدل على الأم والأب تتألف من أنماط صوتية تشبه با - با , ما- ما . والكلمات التي يكتسبها الطفل أولا هي في العادة كلمات تتناسب مع مناغاته الطبيعية ويمكنه أن يتعلم ماما , بابا , باى باى لأن هذه الكلمات تشبه الأصوات التي يصدرها تلقائيا .
2- يظل معدل النضج موحدا رغم الاختلاف في ظروف التعلم :
يتضح هذا المبدأ من التجربة المشهورة التي قام بها جيزل وطومسون على سلوك صعود الدرج , وقد أجريت على توأمين متطابقين لم يظهر عليهما أية فروق في هذا السلوك في سن 46 أسبوعا , فكل منهما عجز تماما عن ذلك , ثم اختار الباحثان أحد التوأمين ,التوأم التجريبي (ت) وقاما بتدريبه يوميا على صعود الدرج لمدة 6 أسابيع لفترة 10 دقائق يوميا أما التوأم الآخر التوأم الضابط ( ض ) فلم يتلق أى تدريب طوال هذه الفترة على الإطلاق , وفى نهاية مدة التدريب كان التوأم (ت) يمكنه صعود خطوات الدرج الأربع في حوالي 25 ثانية , بينما لم يتقدم التوأم (ض) أكثر من وضع الركبة اليسرى على السلمة الأولى من الدرج , ثم توقف تدريب التوأم (ت) وبعد أسبوع سابع بدأ تدريب التوأم (ض) لمدة أسبوعين , وبعد هذه الفترة القصيرة أمكنه اللحاق بأداء التوأم(ت) والتفوق عليه في نهاية هذين الأسبوعين الإضافيين من التدريب . وبالطبع كان للتوأم (ض) ميزة أنه كان أكبر سنا حين بدأ تدريبه . وبعد أسبوع أى حينما أصبح عمر كل منهما 56 أسبوعا كان اداؤهما في صعود الدرج متماثلا فقد استغرق التوأم (ت) 13.8 ثانية واستغرق (ض) 13.9 ثانية .
وهذا يعنى أن الطفل الذي أتيح له مقدارا من التدريب يبلغ ثلاثة أمثال ما أتيح للطفل الآخر لم يتفوق عليه . بل أن الطفل الآخر أتقن السلوك في مدة وجيزة وبمستوى من الكفاءة والجودة جعلته يتساوى مع أخيه الذي تدرب لفترة أطول منه . وهكذا نجد أن معدل النضج ظل ثابتا وموحدا . بالرغم من إختلاف ظروف التدريب المبكر .
3- كلما كان الكائن العضوي أكثر نضجا أحرز تقدما أكبر في التعلم
أوضحت التجارب أن الأطفال الكبار يحصلون على نتائج أفضل من الصغار مع توافر نفس المقدار من التدريب .
ففي مجال تعلم الكتابة بالآلة الكاتبة وجد الباحثون أن الأطفال الذين تلقوا تدريبا لمدة عامين لم يكونوا أسرع من الأطفال في نفس السن الذين تلقوا عاما واحدا من التدريب . وتوضح نتائج هذه التجربة أنه كلما كان المتعلم أكثر نضجا كان أكثر كفاءة في التعلم , ووجد أن المعدل النهائي للتعلم يعتمد على مستوى النضج أكثر من اعتماده على مقدار الخبرة أو التدريب .
4- التدريب الذي يتلقاه المتعلم قبل النضج قد يحدث آثارا ضارة في السلوك إذا صاحبه الإحباط :
ماهى الآثار التي تترتب على التدريب قبل توافر الاستعداد والنضج ؟ يبدو أن الطفل الذي يتعرض مبكرا للتدريب على القيام بنشاط غير مناسب يعرض الطفل للفشل والإحساس بالإحباط بل والخوف من ممارسة السلوك وقد أمكن التدليل على ذلك من تجربة أجرتها مكجرو حيث كانت تدرب يوميا طفلا عمره عام لمدة 7 أشهر على ركوب الدراجة, ولاحظت بعد عام من التجربة أن الأشهر السبعة كانت جهدا ضائعا , بل إنها ادت إلى تعطيل التعلم بسبب ما تعرض له الطفل من الإحباط أثناء تدريبه المبكر , وأدى هذا الإحباط إلى القضاء على ميل الطفل لهذا العمل فيما بعد بالمقارنة بالحالات التي تلقت تدريبها متأخرة .
5- يؤثر التدريب المبكر في أنماط السلوك التي لاترتبط بالنضج البيولوجي ارتباطا مباشرا :
في تجربة قامت بها مكجرو وجدت أن النشاط الذي يرتبط ارتباطا وثيقا بالنضج يتأثر بدرجة صغيرة جدا بالتدريب المبكر , ومن أمثلة هذا نشاط الحبو والمشى والقبض على الأشياء , أما أنواع السلوك التي لاترتبط ارتباطا مباشرا بالنضج كالسباحة والتسلق والانزلاق والقفز وغيرها فإنها تتأثر تأثرا كبيرا بالتدريب المبكر . ومن أهم نتائج التدريب المبكر في هذه الحالات ما يكتسبه الطفل من إتجاهات إيجابية نحو العمل الذي يتدرب عليه مبكرا نتيجة النجاح فيه على إلا يتعرض الطفل لخبرات إحباطية , تنتقل هذه الاتجاهات إلى المواقف الأخرى التي تؤدى فيها هذه الأعمال .
وتبدو فعالية آثار التدريب المبكر إذا قارنا التحسن في الأنواع البسيطة من النشاط بنمو المهارات الأكثر تعقيدا . فعندما نقارن بين أطفال مجموعة ضابطة لم يتدربوا على تسمية الألوان بأطفال مجموعة تجريبية تدربت على تسمية الألوان نجد أن أطفال المجموعتان متساويين عندما يصلون إلى مستوى النضج الملائم , وقد وجدت نفس النتيجة من تجارب أجريت على التدريب على تقوية قبضة اليد , وهكذا لم يحدث التدريب المبكر أثراً فارقا في تنمية أنواع النشاط الأولية المرتبطة ارتباطا وثيقا بالنضج . أما في حالة التدريب المبكر على الغناء فقد وجد جيرسيلد نتائج مختلفة تماما . فقد درب أطفال المجموعة التجريبية على محاولة غناء نغمات جديدة لمدة ستة أشهر كاملة , وظهر في نهاية المدة أن أطفال المجموعة التدريبية الذين تلقوا هذا التدريب المبكر قد تفوقوا تفوقا واضحا على أطفال المجموعة الضابطة , واحتفظوا بتفوقهم عندما أعيد اختبارهم بعد عدة شهور .
وهكذا تؤكد نتائج هذه البحوث أنه في ظروف معينة يستحسن أن يعطى صغار الأطفال تدريبا مبكرا على المهارات المركبة التي لا تعتمد على النضج وحده , وقد تأكد أن تنمية المهارات الحركية في سن مبكرة تضع الأساس لزيادة الإتقان في الأداء بعد ذلك , بشرط أن يقدم التدريب للطفل متفقا مع مستوى نضج هذه المهارات عنده , وأن يؤدى هذا التدريب إلى توسيع مدى الخبرة عند الطفل , والى تكوين إتجاهات إيجابية مع عدم التعرض لخبرات الإحباط والفشل قدر الامكان فإذا توافرت هذه الشروط يمكن للتدريب المبكر أن يكشف عن الاستعدادات للتعلم عند الطفل والتى ينبغي للبيت والمدرسة والمجتمع رعايتها وتنميتها .
3- الإثراء الثقافي والحرمان الثقافي :
ان من أهم أهداف الدراسة العلمية للنمو تقديم الرعاية اللازمة والتدخل الواجب في جميع مراحل النمو من الطفولة إلى الشيخوخة . وهنا كان علينا معرفة كيف يمكن لظروف التنشئة الإجتماعية وما تتضمنه من تعديل في السلوك أو إثراء وحرمان ثقافيين وبيئيين أن تؤثر في النمو الإنساني ؟ وقد توصلت نتائج الدراسات إلى أنه بالنسبة للحرمان الثقافي أو البيئي أن هذا النوع من الحرمان يؤدى إلى تدهور أداء الحيوانات الذكية بينما لا يؤثر تأثيرا دالا في أداء " الحيوانات الغبية " ومعنى ذلك أن الحرمان الحسي – كنوع من الحرمان البيئي – أشد تأثيرا في أصحاب المستويات العقلية العليا , لأنهم أكثر حاجة إلى الخبرات الحسية لتعلم المهارات الادراكية وغيرها من المهارات التي تيسر التعلم ( في ظروف الاستثارة العادية) .
أما أصحاب المستويات العقلية الدنيا فإنهم لا يستفيدون بالقدر الكافي من الخبرات العادية بحيث تساعدهم على التعلم . وبالتالي فإن الحرمان الحسي ( في الظروف التجريبية ) لا يؤثر فيهم تأثيرا واضحا.
أهتم الباحثون بدراسة النقائص الحسية , ومنها حالات الأطفال ضعاف السمع الذين يعانون بالطبع من حرمان جزئي من المثيرات الصوتية . فقد طبق بنتروليف مجموعة من الإختبارات اللفظية وغير اللفظية على عينة من هؤلاء الأطفال في المستويات العمرية من 11 – 14 سنة , فوجد أنهم يظهرون قدرا ضئيلا من التخلف , وكان هذا التخلف أكبر في الإختبارات اللفظية .
وقد أجريت بعض البحوث على الأطفال الذين ينشأون مع آباء متخلفين عقليا ا وفى ظروف أسرية غير ملائمة من حيث النمو العقلي , وتؤكد النتائج أن طول الفترة التي يقضيها الأطفال مع أمهات من ضعاف العقول يؤدى إلى نقصان نسب ذكائهم . كما لوحظ أن نسب ذكاء الأطفال الذين يأتون من ظروف أسرية غير مواتية تتدهور بانتظام مع التقدم في العمر ( من سن عامين حتى سن 12 سنة ). ودرس العلماء ظروف الحرمان الثقافي أثره في الذكاء في ملاجئ اللقطاء وملاجئ الأيتام , حيث لا يتصل الطفل بأمه الطبيعية , ورعايته يغلب عليها الطابع عير الشخصي .وقد توصلوا إلى بعض النتائج منها أن التدهور العقلي لا يكون خطيرا إذا كان الحرمان مقتصرا على الأشهر الأولى من حياة الطفل ومعنى ذلك أنه من الضروري أن يتوافر للطفل قدرا مناسبا من الاستثارة في هذه الفترة بحيث يمكن لجهازه العصبي التعامل معها .
وتوضح النتائج أيضاً أن معظم التدهور العقلي يمكن ملاحظته إذا وجد الحرمان في الفترة ما بين 3 شهور ونهاية السنة الأولى من حياة الطفل . ويمكن أن يرجع ذلك إلى اثر الحرمان من الاستثارة البيئية في نمو المخ .
وتشير النتائج كذلك إلى أن الاستثارة الإجتماعية في الفترة مابين الأشهر الستة الأولى والأشهر الثمانية الأولى من حياة الطفل لها أهميتها البالغة في نمو الذكاء الإجتماعى للطفل , و أن أى حرمان اجتماعي قبل هذه الفترة لا يؤثر – فيما يبدو – في هذا الجانب من الذكاء وفى نمو الشخصية بوجه عام .ويتزايد التدهور العقلي تزايدا منتظما بتزايد الحرمان الثقافي والبيئي في الطفولة المتأخرة . بل وفى مرحلة المراهقة . ومع ذلك فإن لأثار الحرمان فعالية متناقصة مع تقدم الطفل في العمر أى أن آثاره اللاحقة تتناقص مع النمو.
وإذا كان للحرمان الثقافي آثاره الضارة في النمو العقلي فهل للإثراء الثقافي آثاره النافعة ؟ تؤكد نتائج التجارب التي أجريت على الحيوانات أن هذه الاستثارة تساعد الحيوانات الغبية أكثرمن مساعدة الحيوانات الذكية ومعنى ذلك أنه إذا كانت ظروف الاستثارة "المعتادة" تساعد الحيوانات " الذكية" على النمو الكامل , فإن زيادة الاستثارة تساعد الحيوانات "الغبية "في نموها .
وفى دراسة أجريت على مائة طفل التحقوا بإحدى مؤسسات الإيواء في أعمار تتراوح بين 2-14 سنة , حيث تم تحديد نسب الذكاء عند بداية الإلتحاق وكذلك كل عام تال لمدة 4 سنوات . وجد أنه لم يحدث تحسن له دلاله إحصائية بالنسبة للمجموعة كلها ,ولكن عندما قسمت العينة إلى فئات عمرية عند بداية الإلتحاق وجد أن أطفال سن السادسة أو الأقل منه اظهروا كسبا دالا خلال وجودهم بالمؤسسة . ومن هذا يمكن القول أن أحد المتغيرين الآتيين أو كلاهما يؤثر في تحسين المستوى العقلي لأطفال المؤسسات:
1 - طول الفترة التي قضاها الطفل في البيئة غير الملائمة مع أسرته الطبيعية .
2 – عمر الطفل عند التحاقه بالمؤسسة , ويمكن القول أن العمر الأنسب الذي يمكن المؤسسات ذات الظروف الملائمة أن تحدث آثارها فيه هو أقل من 6 سنوات .
وتوجد شواهد أخرى عن تحسين ذكاء ضعاف العقول نتيجة الإيداع في المؤسسات , فقد وجد أن مجموعة من ضعاف العقول والحالات الهامشية كانوا يظهرون تناقصا مستمرا في نسب الذكاء نتيجة وجودهم مع أسرهم الطبيعية , ولكن بعد إيداعهم في مؤسسات ضعاف العقول لفترة متوسطها 4.4 سنة أظهروا كسبا في درجات الذكاء .
وينتمي إلى هذا النوع من البحوث ما أجري على أطفال الأسر البديلة . فمن المعتاد أن تسعى المؤسسات إلى إعطاء أطفالها إلى أسر تتبناهم من مستويات اقتصادية واجتماعية مرتفعة . إلا أننا يجب أن نؤكد أن الأطفال الأكثر ذكاء هم الأكثر"حظا" في انتقاء أسر التبني لهم , وعادة ما يرسل هؤلاء الأطفال إلى أسر يتوافر في أفرادها مستويات "مماثلة" من الذكاء , ويفسر لنا هذا ماتبينه الدراسات الارتباطية من وجود معاملات ارتباط موجبة دالة بين ذكاء الأطفال وذكاء آبائهم بالتبني .
وقد لاحظ الباحثون أن المستويات التعليمية ونسب ذكاء الآباء الحقيقيين عادة ما تكون أقل منها بالنسبة إلى آباء التبني , ولذلك بذلت الجهود لمعرفة التغيرات المحتملة في ذكاء الطفل نتيجة معيشته مع أسرته البديلة . وقد تمت دراسة 74 طفلا من سن 4 سنوات قبل التبني وبعده بمدة بلغت في المتوسط 4 سنوات فوجد أن متوسط التغير في أفضل الأسر 4 نقاط في نسبة الذكاء وهو فرق لا يختلف كثيرا عما حدث في أسوأ الأسر التي لم يحدث للأطفال أى تغير . ومن المفترض أنه لو حدث التبني في مرحلة عمرية أقل من سن 4 سنوات فربما استفاد أطفال الأسر ذات الظروف الأفضل من هذه الفرص وأدى ذلك إلى إرتفاع في نسب الذكاء .
وهكذا يبدو لنا أن هناك عتبة فارقة " لمستوى النمو" وعتبة فارقة " لمستوى العمر " يكون عندها لكل من الحرمان والإثراء الثقافيين آثره في نمو الإنسان . ولكن ماهى حدود الحرمان والإثراء التي يكون لها أكبر قدر من الإنفعالية في نموالإنسان
يتبع