سوسيولوجية الأديان الرقمية
مستويات العلاقة بالدين كظاهرة سوسيولوجية
-أ- الظاهرة الدينية على المستوى النظري
(1المدرسة الوضعية : علاقة الدين بالحداثة عند إيميل دوركايم
لقد تطرق إيميل دوركايم في كتابه” الأشكال الأولية للحياة الدينية إلى مسألة الإيمان وأدرج أبعادها بين قطبين مختلفين حددهما في مفهومي المقدس والدنيوي حيث قال ” إن جميع أنواع الإيمان الديني المعروفة سواء كانت بسيطة أو معقدة تتمتع بميزة مشتركة، فهي تفرض ترتيب الأمور الحقيقية أو المثالية التي يتصورها الانسان في طبقتين أو نوعين متعاكسين يُعرفان عادة بتسميتين مختلفتين تعبّر عنهما كلمتا مقدس ودنيوي بشكل كاف” (1)
وقد دافع دوركايم عن فرضيته القائلة بشمولية المقدس بالرغم من أن هذين المفهومين /مقدس / دنيوي/قابلان للتبادل وانشغال علم الاجتماع بهما الآن من داخل الواقع الافتراضي يعزز تداخلها وتباعدها ولذلك تمثل الشعائر الدينية “الالكترونية” الجديدة قواعد السلوك التي تحدد كيفية التعامل مع المقدسات.
ويظهر أن تعريف المؤمن عند دوركايم يستند على الناحية الديناميكية في الشعور الديني فقد قال: ” إن المؤمن الذي اتحد مع ربه ليس مجرد انسان يرى حقائق يجهلها غير المؤمن ، بل هو ذو قدرة أكبر على التصرف، فالمؤمن يشعر بمزيد من الطاقة لتحمل مشاق الحياة أو لقهرها، فكما لو أنه يسمو فوق البؤس البشري لأنه يسمو فوق وضعه كإنسان، فيَخال نفسه مُخَلَّصا من الشر مهما كان مفهومه للشر.
إن العامل الأول في أي إيمان هو الاعتقاد بالخلاص من خلال الإيمان”(2).
ومن هنا يمكننا أن نفهم فكرة عدم استطاعة العلم محو الدين ، العلم بما فيه تكنولوجيا الاتصالات الحديثة بل إن ما نلاحظه حاليا هو ما يقوم به العلم من دور في ترسيخ للدين، فللعلم أن يقلل من وظائف الدين الإدراكية لكنه لا يستطيع الحيلولة دون استمرار الأفراد في التحرك نحو تلك الوظائف بدافع من إيمانهم الديني، وهذا ما تحقق على يد الأنترنت حيث أصبح ” الإيمان” حثّا على التصرف، وأصبح المعطى الديني حاضرا في أي زمان ومكان ولم تعد الكنيسة أو المسجد أو المعبد يملكون حق يثِّه والتحكم في كيفية ظهوره إلى المتدينين ولا أين ومتى يبوح الدين بأسراره حتى بات ما نراه عبر الأنترنت يُعد اختراقا لقدسية الرموز الدينية التي اختير لها سابقا متى تظهر لتحدث ذلك التأثير وذلك الشعور بالاطمئنان والراحة النفسية، ولهذا فالنقر على صفحة الأنترنت لكي تظهر المعلومة يحيل بفعل التكرار ماهو شاد لدى القارئ معقولا لدى الأنترنوت، ويتحول العجز بفعل التكرار عاديا وسويا حيث لا يتطلب الواقع الافتراضي استدعاء ما تمثله الرموز الدينية من سلطة المؤسسة الدينية. وبذلك يحقق التعامل مع العوالم الافتراضية على المستوى التعبدي رغبة لا واعية في الخلاص مما ترمز إليه الرموز الدينية أو ما تستدعيه من صور ذهنية مرتبطة بفضاء الكنيسة والمسجد والمعبد وسيطرة المكان كما هو مبثوث في مخيال الشعوب ، وبذلك يكون الأنترنت المنزلي قد جرد الطقوس من معانيها المجردة ، وقرب الفقيه والقسيس والحاخام من جمهوره ومريديه فتصبح الخطب الوعظية والتبشيرية والإفتائية غير ذات مفعول مباشر لمتتبعها عبر الأنترنت نظرا لضعف الانخراط الكلّي للمؤسسات الدينية في العصر الرقمي من حيث استفاذتها من تكنولوجيا الاتصالات بشكل واسع يسمح لها بالوصول إلى المتدين الافتراضي باعتباره منتقدا ومتمردا ومتفتحا على مجمل الخطابات الإيمانية لكل الأديان السماوية وغيرها ويصعب إقناعه لتصبح بذلك مسألة الإيمان مرتبطة بالمُقنِع والمبشر أكان فقيها أو قسيسا أو حاخاما وليس لها علاقة أصلا بجوهر الدين ذاته يقول توم بيودون –عالم كاثوليكي ديني- في كتابه “الإيمان التخيّلي ” الصادر سنة 1998 :” الانترنت دعوة للناس الشكاكة لتلقي كافة الإجابات عن أسئلتها الدينية التي يريدون بها استكشاف جوهر الدين ” ، وتلتحق فئات عديدة كانت مُبعدة عن ممارسة الطقوس الدينية إلى اعتناق ديانة ” الأنترنت ” التي ساهمت في وصول الدين إلى بلدان وفئات عديدة كان الوضع الواقعي للمؤسسات الدينية يمنعها من دخول الكنائس والمساجد والمعابد مثل فئة المثليين الجنسيين والسحاقيات وغيرهم….
* الدين والعلم أية علاقة
لقد حافظ المنظور السوسيولوجي مع إيميل دوركايم على تألقه فيما يتعلق بإشكالية الدين والحداثة ، فقد لاحظ دوركايم أن مختلف أشكال تراجع الدين في المجتمعات الغربية الحديثة ترجع بالأساس إلى عوامل عدة منها :
- فقدان الكنيسة لسلطتها الدنيوية وفصلها عن الدولة.
- تقوقع الجماعات الدينية وانحصارها في جماعات ذات التوجه التطوعي .
- فشل المؤسسات الدينية في جعل المؤسسات المدنية تطبق القواعد الخاصة بالتدابير التدنيسية.
- فشل هذه المؤسسات في مراقبة حياة الأفراد.
- عدم قدرة الكنيسة على إنتاج نخب مثقفة .
واتضح إثر ذلك أن المجتمع في حاجة إلى الدين والدين يحتاج بدوره إلى التطور من أجل مواكبة المجتمع الحديث وبذلك فهو يحتاج لتجديد نسيجه إلى العلم الشيء الذي يجعله في ركاب التغيير الاجتماعي الذي يعمل بدوره على إحداث إمكانية جماعية لخلق مثل عليا جديدة ، فالدين بهذا الاعتبار يخضع للتحويل بسبب الأزمة التي تقع للمجتمع في المُثل العليا التي تعمل على تفكيك الروابط الاجتماعية .
وقد تفهم دوركايم مدى التناقض بين العلم والدين حيث قصور العلم عن الإجابة على الأسئلة الوجودية التي مازال الإنسان يطرحها على وجوده ومكانته في الكون ، واستنتج أن المجتمع الحديث سيصبح عنصرا أساسيا في مجتمع المستقبل . وبذلك نستنتج مع دوركايم أن العلم سيصيب المجتمع بإحباط كينوني وهووي سيعود به بقوة نحو الدين الذي سيستمر متجددا كبديل وظيفي معبِّر عن نفسه داخل بناءاته الوظيفية بكيفية رمزية واستعارية،ولهذا ستصبح ديانة المستقبل كحامل للقيم الانسانية السامية خارج المؤسسة الدينية لا تحتاج لأي فضاء تعبُّدي ولا لأي تنظيم مؤسساتي.
(2المدرسة الفينومينولوجية: الجاذبية الشعبية للدين عند ماكس فيبر.
حدد ماكس فيبر Max weber / مابين 1864.1920/ الدين كنوع خاص من التصرف في المجتمع ، ويتضمن المجال الخاص بالنشاط الديني تنظيما لعلاقات القوى “الخارقة” مع الإنسان . وقد استخلص فيبر نتيجتين في تعريفه السوسيولوجي للظاهرة الدينية على محاولة لتعرية العالم من سحره الخاص :
-النتيجة الأولى:
في كتابه”الاقتصاد والمجتمع” خلص إلى الآراء النظرية المختلفة التي تقترب بشكل كبير من الخطابات الدينية من حيث مزجها للمصالح الدينية مع المصالح الموجهة إلى الحياة الآخرة حيث قال:” ينبغي تحقيق الأعمال التي يوصي بها الدين أو السحر بهدف تحقيق السعادة والعمر المديد على الأرض” (3) ، من خلال هذه المقولة يرى ماكس فيبر أن الدين متعلق بالحياة الدنيا وإن أشار ولو بشكل غير مباشر إلى أي نوع من أنواع الحياة الآخرة
- النتيجة الثانية :
رفض فيبر تعريف الدين باللامعقول في قوله:” إن الأعمال التي يشكل الدين أو السحر حافزا لها هي أعمال منطقية أو منطقية نسبيا” (4).
ولقد شكلت مقاربة المدرسة الفينومينولوجية ومن إعادة النظر في العقيدة الثقافية وتشكيل عقلانيتها انبثاق العصرية التي لعبت فيها عقلنة الدين دورا أساسيا.
إن ماكس فيبر يركز في جل استنتاجاته لمقاربة الظاهرة الدينية على ميزتين أساسيتين متعلقتين بكون الدين ظاهرة اجتماعية على :
- الرابط الاجتماعي الذي يولده الدين .
- نوع السلطة التي يسمح بها .
وقد فرق فيبر بين “الكنيسة” و”الطائفة” باعتبارهما شكلان من أشكال وجود الدين الاجتماعي ، فالأولى تمارس السلطة عبر وظيفة الكاهن حيث يولد الشخص عضوا في كنيسة.
ويعتبر الدين بدعم من الأنترنت حقلا معلوماتيا سيعمل على خلق كيانه الرمزي الخاص، وسينتقل الدين من اعتباره ذو أهمية اجتماعية ثانوية إلى خلخلة المعتقد الفلسفي الذي اطمأن إلى النتيجة التي كانت تؤطر هذا التقليص من دور الدين في المجتمع باختفائه التدريجي أو تصفيته في فترة زمنية محددة متى انبثق المجتمع المعاصر. أما اليوم فقد أتبث العصر الرقمي خطأ توقعات كارل ماركس فيما يخص الحكم بالنهاية الوشيكة للدين باعتباره أفيونا للمجتمع، وقد قال ميشال برتران في هذا الشأن ما يلي :” في حال لم تكن قواعد الشعور الديني كلها ذات جذور اجتماعية فإن فرضية بقاء الدين “كنوع من أنواع الوعي ليست مستبعدة” (5).
أما ألكسيس دو توكفيل فقد اكتشف الحيوية الدينية الكبيرة في المجتمع الأمريكي والتي تخالف القول بتراجع الدين مع انبثاق المجتمع العصري الديمقراطي.
فقد أشار في كتابه “الديمقراطية في أمريكا” إلى العلاقة الوطيدة مابين الدين والسياسة عندما قال:” إنني أشك في أن يقدر الإنسان أبدا احتمال استقلال ديني تام وحرية سياسية كاملة في آن واحد، كما أنني أظن أنه إذا لم يكن الفرد مؤمنا فينبغي عليه أن يخدم وإذا كان حرا ينبغي أن يؤمن” (6)
نموذج لتحليل النسق: السيانتولوجية Scientologie ديانة معاصرة.
أسسها رون هابّرد Ron Habbard /1911-1986/ عام 1954 انطلاقا من الديانتيكية Diantique وهي علم مداواة يسمى “العلم الحديث في الصحة العقلية” ويتناول الأمر علاج نفسي عارضته سنة 1950 جمعية علماء النفس الأمريكيين وتحول إلى دين .
وتستند المفاهيم السيانتولوجية Scientologie على خلفيات فلسفية تقول : قبل خلق الكون كانت هناك أرواح مطلقة المعرفة وخالدة تدعى التيتان THétans /ليس Titansفي الميثولوجية الإغريقية/ وللإنسان أصل روحي فهو تيتان في جسد أو تيتان سبق وعبر خلال ملايين الكينونات الإنسانية، ولهذا فالإنسان عبرها مدعو إلى “التحرر” كي يصبح تيتانا كاملا ، أي أن يستعيد التتيان الذي يسكنه حريته وإبداعه.
وتمزج السيانتولوجية بين نظرية علم النفس /حيث يتم مقارنة النفسية بالكمبيوتر/، وطريقة تطوير ذاتي وتكنولوجيا معينة كاستخدام آلة تدعى ألكترومتر لتحسس الدفعات العاطفية.كما تمزج بين فلسفة دينية تتناول الخوارق أكثر من الإلهام.
ومن مظاهرها أنها تقدَّم على أنها علم ، ومن الممكن التحقق من صوابيته بالتجربة وقد وصفها النقاد ب “البوذية التكنولوجية”
إن للكنيسة السيانتولوجية زبائن أكثر ممّا هم أتباع، وما بثير الاهتمام هنا هو أن ممارسي السيانتولوجية هم أشخاص أثرياء لهم مكانتهم في المجتمع ،تسمح لهم هذه الديانة الالكترونية بانتماء ديني مواكب.
-ب- مستوى العلاقة التفاعلية بالدين رقميا
يسيطر على المشهد الرقمي الإقليمي والجهوي بروز ما يمكن تسميته بالدين الرقمي ، فالدين باعتباره ظاهرة سوسيولوجية لا يمكن إلا أن يتفاعل مع العصر الرقمي لما يحتوي عليه من إمكانيات التحول بحيث عزّز من تغلغله في المجتمع بواسطة الإمكانات المتاحة للأنترنت فأصبحت الشبكة العنكبوتية تحتوي على بث الطمأنينة الافتراضية التي كانت من وظيفة الكنيسة والمسجد والمعبد، فشهد بذلك التدين الرقمي أشكاله الخاصة من الإيمان الافتراضي والجهاد الافتراضي والتعبد الافتراضي ، من أجل الإشباع الحقيقي للسلطة الدينية وهذا ما أكده البابا جون بول الثاني عندما صرح بأن الكنائس ومجموعات الإيمان التي ترفض التكيف مع عصر الاتصالات الالكترونية لن تبقى على قيد الحياة”.
ولهذا يمكن طرح السؤال على ماهية تكنولوجية الأديان أو فحوى الديانة الالكترونية.
والحديث عن الدين لابد أن يقودنا إلى مقاربته على المستوى الاجتماعي ، لمعرفة طبيعته والإمكانات التي تجعله قابلا للتعامل مع وسائل الإعلام- الإعلام السمعي البصري- إعلام الكيبل والفضائيات، وإعلام الويب والأنترنت.
تميزت الظاهرة الدينية على الأنترنت واتسمت بعدة سمات كان مجملها يشير إلى ضعف التأثير المباشر للفضاءات التعبدية وارتفاع المؤشرات التي تجعل من تسويق الدين إحدى الوسائل للانتقال من الوجود الواقعي إلى الوجود الإعلامي والافتراضي حيث يتم تمثل الدين المعاصر وتجسيد حضوره في رموز وقيم خاضعة لمنطق السوق العولمي الذي يشهد اكتساحا منقطع النظير لسلع ذات السلع الإيمانية من كتب وشرائط كاسيط واسطوانات مدمجة وبرامج وفيديو تحتوي على قصص تعليمية لقصص الأنبياء بالإضافة إلى كل ما يحتاجه الإنسان المسلم في حياته اليومية من ألبسة للحجاب والحج والعمرة وما يحتاجه المؤمن من بطاقات دينية رقمية للمعابد ورنات المديح النبوي للهواتف النقالة وأيقونات، الشيء الذي يؤكد بالملموس أن الدين قد عاد بقوة إلى سياق الحياة الاجتماعية وأصبح توظيفه اليومي مباشرا ومواكبا للأجواء الدينية والدنيوية للأسرة حيث يشكل الواقع الخائلي حالة من الاندماج والتفاعل الكامل مع الدين الافتراضي بنفس المنطق من حيث الالتزام بالسلوك التعبدي دون الشعور به كعالم مصنوع ، وذلك راجع لاعتماد العوالم الافتراضية في صدمتها الالكترونية على تفاصيل دقيقة تثير نفس المشاعر كما في الواقع عند الأنترنوت بخلق حالة التواجد الحميمي أمام الحاسوب والتأثر بحقائقه والتشبع بيقينيتها.
لقد رصدنا مستويين للتعامل مع الظاهرة الدينية .
1- المستوى الأول:
هذا المستوى منتشر بالعديد من المواقع ذات الطابع الديني، يحدد الظاهرة الدينية عبر النصوص الدينية المقدسة وهو ما نسميه بالدين النصي الرقمي ، وهذه المعالجة أقرب ما تكون للأعمال الفقهية المعتمدة على الشرح والتأويل.
2- المستوى الثاني:
وهو يقارب الظاهرة الدينية انطلاقا من الممارسات اليومية للمجتمع أفرادا وجماعات سواء على المستوى الطقوسي أو المعاملات الحياتية ، ويرتكز هذا المستوى على التحليل السوسيو- ثقافي ولا يلتفت للأعمال الفقهية، وقد ظهرت معه عدة مفاهيم جديدة كالجهاد الرقمي الذي نُحث في التسعينات من القرن الماضي وهو مفهوم تقليدي ارتبط بالمستوى الأول وبفئة من المسلمين المغتربين بدول الشمال من أجل مساندة مسلمي الشيشان والبوسنة، أما الجهاد الرقمي المرتبط بالمستوى الثاني فظهر سنة 2000 وكان المقصود منه هو القرصنة الالكترونية بين الإسرائيليين والفلسطينيين مع الشروع في المرحلة الثانية للانتفاضة الفلسطينية.
[b]