الاعتراف بالخطأ لا يكفي لوحده
صارت أقرب إلى الموضة. أو إلى شهادة حسن سلوك، التي يعطيها الإنسان لنفسه، بين الفينة والأخرى يطلع علينا مسؤول أميركي أو بريطاني بشكل خاص، ليعترف علناً وصراحة بأن «أخطاء» كثيرة وقعت في العراق وحربه، وغالباً ما يكون صاحب الاعتراف قد ترك منصبه وصار (برّاني)،
وأحياناً يكون جديداً، في طريقه إلى سدة المسؤولية، تسليم الأول بارتكاب الأخطاء يبدو كمحاولة لتبرئة الذمة؛ أو لتصفية حسابات مع بعض الرموز الباقية في الحكم، وتسليم الثاني المسبق، بالأخطاء، يبدو كمحاولة لوضع الملامة على من سبقه؛ وبالتالي إعفاء النفس من الالتزام الصريح بسلوك خطأ آخر واضح ومتناقض مع ما أدى إلى الخطأ.
آخر نموذج كان أمس في كلام المرشح الجديد لزعامة حزب العمل ورئاسة الحكومة في بريطانيا؛ خلفاً لزعيمه الحالي طوني بلير، الذي كشف عن نيته بمغادرة منصبه في 27 يونيو المقبل؛ غوردن براون يقول: إن هناك «أخطاء ارتكبت» في العراق وأن الوقت قد حان، بالتالي، لـ «أفكار جديدة».
كلام لا يجادله أحد فيه وهو يعرف أن أحداً ليس بوسعه مطالبته بتحمل المسؤولية لأنه لم يكن صاحب القرار المباشر؛ يوم حصل ما يعترف به الآن، لكن ذلك لا يعفيه من كل شيء، فهو تأخر كثيراً باعترافه، بالإضافة وهذا هو الأهم، لم يكشف حتى عن الخطوط العريضة «للأفكار الجديدة» التي أشار إليها، وهو بذلك لا يشذ عن من سبقوه.
في هذا الخصوص. وزير الخارجية السابق كولن باول اعترف بارتكاب أخطاء أميركية في العراق. تبعه، بعد مكابرة مديدة، وزير الدفاع دونالد رامسفيلد عشية استقالته، ومؤخراً جاء مدير الاستخبارات المركزية، سي ـ اي ـ ايه، جورج تينيت؛ بكتاب يروي فيه الأخطاء المفتعلة المفبركة التي استندت إليها الإدارة الأميركية لتسويغ الحرب على العراق.
إجمالاً الإدارة بكل رموزها ـ ما عدا تشيني ـ تقرّ بأن المعلومات الاستخباراتية كانت «خاطئة». ولكنه اعتراف تتذرع به للتخفيف من المسؤولية. وهكذا باتت كلمة «أخطاء»(!) على كل شفة ولسان، في واشنطن ولندن. مع أن ما وقع كان خطايا، توصيفه بالخطأ، تزييف.
ومع هذا الاعتراف بالخطأ يستتبع، بل يجب أن يستتبع، المبادرة إلى التصحيح، أو على الأقل البدء بالتحرك في هذا الاتجاه، لا الإصرار على المقاربة ذاتها والسياسة نفسها؛ والتي لم تنتج غير الكوارث، آخر الإحصاءات الحكومية أن 9 ملايين عراقي يعيشون اليوم تحت خط الفقر،
بل داخل دائرة الفاقة والعوز، مليارات الدولارات من العائدات النفطية تبخرت، في ظل الوضع الذي أنتجته الحرب، نيويورك تايمز نسبت إلى تقرير أميركي، من المتوقع أن يكشف عن محتواه بعد أيام، بأنه خلال سنوات الاحتلال الأربع الماضية
كان يتم حرمان العراقيين ـ عن طريق التهريب والتواطؤ ـ من إيرادات مئة إلى ثلاثمئة ألف برميل نفط يومياً!، هذا عدا ما تسبب به، ما يسمى بأنه مجرد «أخطاء»، من نزف بشري وتفكك اجتماعي وسياسي؛ يهدد بالأفظع والأقسى.الاعتراف بالخطأ فضيلة، كما يقال. لكن ليس هنا. فهو متأخر ومنقوص وقبل كل شيء لرفع العتب وللاستهلاك. إذا كان جدياً فلا بد من الرجوع عنه عملياً. وإلا بقي كلاماً بكلام