بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
أيها الإخوة الكرام ، من لوازم المؤمن أنه على علم ، ذلك أن مرتبة الإيمان مرتبة علمية ، ومرتبة أخلاقية ، ومرتبة جمالية ، وما اتخذ الله ولياً جاهلاً ، لذلك منزلة العلم إن لم تصحب السالك من أول قدم يضعه في الطريق إلى آخر قدم ينتهي إليه فسلوكه على غير طريق ، وهو مقطوع عليه طريق الوصول ، مسدود عليه سبل الهدى والفلاح ، مغلقة عنه أبوابها ، وهذا إجماع العلماء .
ولم ينه عن العلم إلا قطاع الطريق ونواب إبليس ، فإذا أردت الدنيا فعليك بالعلم ، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم ، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم .
الطرق كلها مسدودة على الخَلق إلا على من اقتفى أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم .
نقصد بالعلم هنا العلم بالكتاب والسنة ، هذا العلم الذي يحقق للإنسان السلامة والسعادة ، من لم يحفظ القرآن ، ويكتب الحديث لا يقتدى به في هذا الأمر ، لأن علمنا مقيد بالكتاب والسنة .
ويقول عالم آخر : مقيد بأصول الكتاب والسنة .
وقال بعضهم : من لم يزن أفعاله وأحواله في كل وقت بالكتاب والسنة ، ولم يتهم خواطره فلا يعد في ديوان الرجال ، و كل فعل يفعله العبد بغير اقتداء برسول الله e فهو عيش النفس مع هوى نفسه ، والدليل :
[ سورة القصص : الآية 50]
ومن عمل عملاً بلا اتباع سنة فباطل عمله .
وقال بعضهم : الصحبة مع الله بحسن الأدب ، ودوام الهيبة والمراقبة ، والصحبة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم باتباع سنته ، ولزوم ظاهر العلم ، ومع أولياء الله بالاحترام والخدمة ، ومع الأهل بحسن الخلق ، ومع الإخوان بدوام البشر ما لم يكن إثماً ، ومع الجهال بالدعاء لهم والرحمة ، ومع الحافظين أي الملكين بإكرامهما واحترامهما ، وإملائهما ما يحمدانك عليه ، ومع النفس بالمخالفة ، ومع الشيطان بالعدم .
ومن أمّر السنة على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالحكمة ، ومن أمّر الهوى على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالبدعة ، قال تعالى
[ سورة النور : الآية 54]
العلم قائم ، والخوف سائق ، والنفس حرون ، بين ذلك جموح ، خداعة ، رواغة فاحذرها ، وراعها بسياسة العلم ، وسقها بتهذيب الخوف يتم لك ما تريد .
الآن يوجد كلام يقال ، أعتقد الآن هذه الأقوال قلّت ، من هذا الكلام غير الصحيح قولهم : نحن نأخذ علمنا من الحي الذي لا يموت مباشرة ، وأنتم تأخذونه من حي يموت ، هذا كلام باطل .
وقال آخر ، وقد قيل له : ألا ترحل حتى تسمع من عبد الرزاق ؟ فقال : وما يصنع بالسماع من عبد الرزاق من يسمع من الخلاق ؟ هذا ادعاء وكذب أنه يتلقى العلم من الله مباشرة ، هذه للأنبياء فقط عن طريق الوحي ، النبي عليه الصلاة والسلام يقول : (( إنما العلم بالتعلم ، وإنما الكرم بالتكرم ، وإنما الحلم بالتحلم )) .
[الطبراني]
هذا جهل ، وكلام شيطاني ، ولولا عبد الرزاق ـ نقصد علماء الحديث ورواة الحديث ـ لما وصل إلينا هذا الكم الكبير من سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن أحالك على غير أخبرنا وحدثنا فقد أحالك على خيال شاطح ، أو على قياس فلسفي ، أو على رأي نفسي ، فليس بعد القرآن وأخبرنا إلا الشبهات ، ومن فارق الدليل ضلّ عن سواء السبيل ، ولا دليل إلى الله والجنة سوى الكتاب والسنة .
وكل طريق لم يصحبها دليل من القرآن والسنة فهي من طرق الجحيم والشيطان الرجيم .
أيها الإخوة الكرام ، لا علم ينجي الإنسان في الدنيا إلا إذا كان مقتبساً من كتاب الله وسنة رسول الله e ، لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول : (( تركت فيكم شيئين ما إن تمسكتم بهما فلن تضلوا بعدي أبداً ، كتاب الله و سنة رسوله )) .
[النسائي]
الآن : يوجد موازنة بين العلم والحال ، الإنسان أحياناً يشعر بحال طيب ، والحال الطيب مرغوب فيه ومسعد ، لكن هذا الحال العلم حاكم عليه ، كل إنسان يحقق نجاحاً حتى في الدنيا يشعر بحال طيب ، السارق حينما ينجح في سرقة بيت يشعر بحال ، من الذي يُقيم هذا الحال ؟ العلم ، هناك حال شيطاني ، فالعلم حاكم على الحال ، العلم خير من الحال ، نفع الحال لا يتعدى صاحبه ، ونفع العلم كالغيث يقع على الوهاد والآكام ، فرق كبير بين الحال الذي لا يتعدى صاحبه والعلم الذي ينتفع به الناس جميعاً .
دائرة العلم تسع الدنيا والآخرة ، ودائرة الحال تضيق عن غير صاحبها ، وربما ضاقت عليه ، العلم هادٍ ، والحال الصحيح مهتد به ، العلم تركة الأنبياء ، وأهله عصبتهم ، وهو حياة القلوب ، ونور البصائر ، وشفاء الصدور ، ورياض العقول ، ولذة الأرواح ، وأنس المستوحشين ، ودليل المتحيرين ، وهو الميزان الذي به توزن الأقوال والأعمال والأحوال ، وهو الحاكم المفرق بين الشك واليقين ، والغي والرشاد ، والهدى والضلال .
به يعرف الله ويعبد ، ويذكر ويوحد ، ويحمد ويمجد ، وبه اهتدى إليه السابقين ، ومن طريقه وصل إليه الواصلون ، ومن بابه دخل عليه القاصدون ، به تعرف الشرائع والأحكام ، ويتميز الحلال من الحرام ، وبه توصل الأرحام ، وبه تعرف مراضي الحبيب ، وبمعرفتها ومتابعتها يوصل إليه من قريب ، هو إمام ، والعمل مأموم ، هو قائد ، والعمل تابع ، هو الصاحب في الغربة ، والمحدث في الخلوة ، والأنيس في الوحشة ، والكاشف عن الشبهة ، والغنى الذي لا فقر على من ظفر بكنزه ، والكنف الذي لا ضيعة على من آوى إلى حرزه .
مذاكرته تسبيح ، والبحث عنه جهاد ، وطلبه قربى ، وبذله صدقة ، وبذله ومدارسته تعدل الصيام والقيام ، والحاجة إليه أعظم منها إلى الشراب و الطعام .
قال بعض العلماء : الناس إلى العلم أحوج منهم إلى الطعام والشراب ، لأن الرجل يحتاج إلى الطعام والشراب في اليوم مرة أو مرتين ، وحاجته إلى العلم بعدد أنفاسه ، لأنه ما من حركة ولا سكنة إلا و لها حكم شرعي ، إما أنه فرض ، أو واجب ، أو سنة مؤكدة ، أو سنة غير مؤكدة ، أو مستحسن ، أو مباح ، أو مكروه كراهة تنزيهية ، أو مكروه كراهة تحريمية ، أو حرام ، ما من حركة ولا سكنة على وجه الأرض إلا ويغطيها حكم شرعي ، فأنت بحاجة إلى العلم كما تحتاج إلى التنفس .
ويقول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى : طلب العلم أفضل من الصلاة النافلة .
يقول ابن وهب : كنت بين يد مالك رضي الله عنه فوضعت ألواحي ، وقمت لأصلي فقال : ـ طبعاً قام ليصلي النافلة ـ فقال : ما الذي قمت إليه بأفضل مما كنت عنه ؟
واستشهد الله عز وجل بأهل العلم الآية :
[ سورة آل عمران : الآية 18]
وقرن شهادتهم بشهادته وشهادة ملائكته ، لذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام : (( يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ، ينفون عنه تحريف الغالين ، وتأويل المبطلين ، العلم حجة الله في أرضه ، ونوره بين عباده ، وقائدهم ، ودليلهم إلى جنته ، ومدنيهم من كرامته )) .
[أحمد دون زيادة " العلم حجة ...." ]
وقد فضل النبي عليه الصلاة والسلام العلماء على العباد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب ، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :(( مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ )) .
[ مسلم ، الترمذي ، أبو داود ، ابن ماجه ، أحمد ، الدارمي ]
طريق العلم طريق الجنة ، والله عز وجل يقول :
[ سورة طه : الآية 114]
الشيء الدقيق أن العلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك ، فإذا أعطيته بعضك لم يعطك شيئاً ، ويظل المرء عالماً ما طلب العلم ، فإذا ظن أنه قد علم فقد جهل .
طالب العلم يؤثر الآخرة على الدنيا فيربحهما معاً ، والجاهل يؤثر الدنيا على الآخرة فيخسرهما معاً ، هذا الدين دين علم ، أي من ادعى أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبلغه بشيء يخالف سنته ترد الرؤيا ، ويثبت الحديث ، ديننا دين علم ، ودليل ، ومن لم يأت بالدليل ضل سواء السبيل ، لولا الدليل لقال من شاء ما شاء ، وكل البدع التي دخلت على الدين بلا دليل .
لذلك أنت أمام كم كبير من المقولات والتصورات والأطروحات في الدين ما أنزل الله بها من سلطان ، والدين الصافي المأخوذ من كتاب الله وسنة رسوله يتوافق مع الفطرة ، وأية إضافة ، أو أي تحوير ، أو تبديل ، أو حذف نهايته إلى الإخفاق ، لما أضفنا على الدين ما ليس منه تفرقنا ، ولما حذفنا من الدين ما هو منه ضعفنا ، العالم الإسلامي الآن بأسه بينه ، لأنه فرق وطوائف وشيع ، وكل فرقة تكفر الأخرى ، حينما أضفنا على الدين ما ليس منه تفرقنا ، وحينما حذفنا من الدين ما هو منه أصبحنا في مؤخرة الأمم .
هذا الدين لا يقبل الإضافة ، ولا الزيادة ، ولا التعديل ، ولا التغيير ، ولا التطوير ، ولا الحذف ، لأنه دين الله .
إن أردت أن تجدد فيه فالتجديد في الدين أن تنزع عن الدين كل ما علق به مما ليس منه .
و الحمد لله رب العالمين
منقول