ترجمة: د. محمد دراج – جامعة مرمرة*
تعد شخصية المجاهد خير الدين بربروس شخصية أسطورية بكل المقاييس، فقد تحولت حياته إلى نوع من الأسطورة التي تتجاوز الواقع لتحلق في ما ينسجه الذهن من صور متناقضة من البطولة أو الإرهاب بلغة هذه الأيام. إن مجرد ذكر اسم هذا المجاهد البطل حتى تمتزج الأسطورة الخارقة والخيال الجامح بالحقائق التاريخية فهو عند المسلمين محرر نصر المستضعفين في العديد من الدول خاصة في سواحل شمال افريقيا وجنوب اوروبا وهو بالنسبة للأوروبيين قرصان مارد تكبدوا على يديه خسائر فادحة في الأرواح والثروات.
الكتاب الذي سنقوم بترجمته عبارة عن مذكرات أملاها البحار التركي خير الدين بن يعقوب باشا الشهير بلقب " بربروس"(1) على زميله البحار الأديب الشاعر " سيد علي المرادي " بناء على طلب من السلطان العثماني الكبير سليمان القانوني.
وتوجد نسخ مخطوطة للكتاب بمكتبة جامعة إسطنبول، ومكتبة طوب كابي سراي بإسطنبول. كما ترجم الكتاب إلى الفرنسية، والأيطالية، والانجليزية، والإسبانية. وقد نشر ابتداء من القرن التاسع عشر الميلادي ولكن بتعديلات كبيرة. وصدر الكتاب بأسماء مختلفة وبتعديلات كبيرة وبأسماء عديدة ومنسوبا إلى غير ممليه أو كاتبه وإنما إما باسم ( مؤلف مجهول ) أو بأسماء من ترجموه إلى اللغات الأخرى. فبدت النسخ المترجمة إلى تلك اللغات وكأنها لا صلة تربطها بالكتاب الأصلي. كما أجريت حول المذكرات دراسة أدبية في جامعة سلجوق بقونيا ( تركيا ) في قسم الأدب الإسلامي التركي باسم : خير الدين بربوس ومذكراته.
قام الباحث التركي أرتوغرول دوزداغ بتحويل الكتاب إلى قصة ملحمية محتفظا بنفس العنوان (غزوات خير الدين بربروس). كما قامت القيادة العامة للبحرية التركية بنشرالمذكرات باللغة التركية الحديثة مع تعديل بسيط في صياغتها. أما المؤرخ التركي يلماز أوز تونا فقد قام بتهذيبها ونشرها باللغة التركية الحديثة في مجلة الحياة التاريخية عام 1967. قبل أن يعيد نشرها كاملة في كتاب عام 1995.
وقد قمنا باختيار النسخة المهذبة التي نشرها الأستاذ أوز تونا لكونه لم يتدخل في النص الأصلي إلا بشكل بسيط جدا حسبما ذكره هو بنفسه. فحافظ بذلك على روح النص الأصلي بما يسمح للقارئ أن يعيش في الجو الفكري والنفسي الذي كتبت فيه تلك المذكرات.
من جهتنا لم نقم بأي تدخل في أصل المذكرات. بل قمنا بترجمتها كما هي ماعدا بعد التحويرات اللغوية البسيطة للمحافظة على الانسياب اللغوي العربي.
وسأكون سعيدا بأي ملاحظة يتفضل الإخوة القراء بإبدائها، أو استفسار يتعلق ببعض الأسماء، أو الأماكن، أو المصطلحات، أو الحوادث التي ترد في المذكرات لكي أقوم بتوضيح ما يلزم توضيحه.
أما فيما يخص التفاصيل العلمية المتعلقة بالمذكرات، والترجمة الكاملة لخير الدين بربروس فسوف أقوم بنشرها عبر مجلة (المقدمة) إن تيسر لنا ذلك قريبا إن شاء الله.
آمل أن أكون بنشر هذه المذكرات قد ساهمت بإضافة قطرة إلى بحر الجهود المخلصة التي يبذلها الكثير من الجنود المجهولين الذين إذا حضروا لم يعرفوا، وإذا غابوا لم يفتقدوا.
بدأت إملاء مذكراتي بأمر من السلطان سليمان القانوني
في أثناء اتصالي بالسلطان سليمان خان بن سليم خان، ورد عليّ فرمان سلطاني، هذا نصه :
"كيف خرجت أنت وأخوك أروج من جزيرة ميديللي، وفتحتم الجزائر ؟ ما لغزوات التي قمتم بها في البر والبحر حتى الآن ؟. دوّن كل هذه الحوادث بدون زيادة أو نقصان في كتاب. وعندما تنتهي أرسل إليّ نسخة لأحتفظ بها في خزانتي ".
عندما استلمت هذا الأمر، استدعيت أحد أرباب القلم، زميلي في الكثير من غزوات البحر "المرادي"، وأخبرته بفرمان السلطان. فبدأنا على الفور في التدوين. أنا أملي، و" المرادي " يكتب :
استقرار أبي يعقوب آغا في ميديللي وزواجه بأمي
عندما فتح السلطان محمد الفاتح جزيرة ميديللي، أمر الأتراك بالاستيطان في الجزيرة، فكان أبي أحد المستوطنين الأوائل، كما كان ابنا لأحد فرسان السباهية(2)، كما كان هو نفسه سباهيا أيضا. وكانت له في منطقة واردار المجاورة لسلانيك أرض إقطاع وهبت له بأمر من السلطان محمد الفاتح، عندما استقر بالجزيرة.
وهكذا، فعندما انتظمت أمور والدي من جديد، تزوج إحدى بنات أهالي الجزيرة. كان أبي أنيقا شجاعا. أنجبت له أمي أربعة أخوة هم : إسحاق الذي كان أكبر إخوتي، ثم أخي أروج، ثم أنا خضر، ثم إلياس. مدّ الله في عمر الجميع، ورزقهم النصر.
كان أخي إسحاق مقيما في قلعة ميديللي. أما أنا وأخي أروج فقد كنا مولعين بركوب البحر. اقتنى أخي أروج سفينة، وانطلق بها للتجارة في البحر، بينما اتخذت أنا مركبا ذا 18 مقعدا. كنا في البداية نتنقّل بين سلانيك وأغريبوز، نجلب منهما البضاعة، ونبيعها في ميديللي. إلا أن أخي أروج لم يقتنع بهذه الأسفار القريبة. إذ كان يرغب في الذهاب إلى طرابلس الشام. وذات يوم غادر ميديللي مع أخي الصغير إلياس، متوجهين إلى طرابلس.
وقوع أخي عروج أسيرا في أيدي كفار رودس ومكوثه عندهم بضع سنين
مصلى خير الدين بربروس في اسطنبول
لم يتمكن أخي أروج من الوصول إلى طرابلس الشام، فقد صادف في طريقه سفن فرسان جزيرة رودس، واشتبك معهم في معركة كبيرة، سقط على إثرها أخي إلياس شهيدا، رحمه الله. بينما استولى الكفار على السفن، وأخذوا أروج أسيرا بسفينته إلى رودس مقيدا بالسلاسل. عندما وصل الخبر إلى ميديللي، حزنت وبكيت عليه كثيرا. لكنني شرعت في الحال أبحث عن سبيل لإنقاذ أخي.
كان لي صديق كافر يدعى كريغو يقوم بالتجارة مع جزيرة رودس. أخذته معي في سفينتي، وقدمت به إلى بدروم، وقلت له :
- "اليوم تتبين الصداقة. خذ هذه ال: 18.000 أقجة(3)، وأعنِّي على إنقاذ أخي. اذهب إلى رودس، وانظر الأمور هناك. وسوف أنتظرك في بودروم ".
- كريغو: "على الرأس والعين"، قال ذلك، ثم مضى إلى رودس. وهناك قابل أخي أروج رئيس وقال له :
- "أخوك خِضر يسلم عليك، ويدعو لك كثيرا. وهو في غاية الحزن عليك بسبب وقوعك أسيرا في أيدي الكفار. ولا يكاد يكف عن البكاء عليك ليلا أو نهارا. وقد أرسلني إليك. وهو الآن في بودروم ينتظر أخبارا سارة عنك ".
عندما سمع أروج ذلك من كريغو بكى من شدة الفرح، وقال له :
- "سلّم على أخي خضر. يجب أن لا يعلم أحد سبب قدومك إلى الجزيرة، وسنلتقي في أول فرصة تتاح لنا ".
كان أروج رئيس يعرف في رودس رجلا مشهورا يدعى : سانتورلو أوغلو. كان يأتي أحيانا لرؤية أخي أروج، ويتفقد أحواله. قال له أخي يوما :
قطعة فضية تذكارية صنعت في ألمانيا سنة 1533 وعليها صورة المجاهد بربروس
- "إن فرسان رودس لن يبيعوني لأخي خضر، لكنهم ربما يبيعونني لك. فإن هرّبتني من الجزيرة، فإنني سوف أؤدي لك ديْنك في المستقبل".
سانترلوأغلو:
- "بكل سرور، إذا باعوك فإنني سأشتريك، لكني إذا طلبت منهم ذلك مباشرة فإنهم سيشتبهون في الأمر. والأفضل أنك عندما تنزل إلى المدينة ذات يوم تظاهر بمرورك على دكاني، ولكن إيّاك أن تنظر إلى الدكان مباشرة لئلا يعلموا بأني أعرفك. سأتظاهر بأني أراك صدفة عندما تكون مارا، وأعبّر لهم عن إعجابي بك، وأرجو الفرسان أن يبيعوك لي ".
عندما سمع أروج هذه الكلمات سُرّ كما لو صار طليقا. كم كانت حياة الأسر أليمة بالنسبة له.
في أحد الأيام، كان سانتورلو أغلو جالسا أمام الدكان يتبادل أطراف الحديث مع فرسان جزيرة رودس، وإذا به يرى أروج رئيس مارّا أمام الدكان، كأنه يريد الذهاب إلى الخدمة. فقال لمن معه من البحارة :
- "لمن هذا الأسير الذي يغدو ويروح. أراه دائما يمرّ من هنا يخدم بحيوية ونشاط. لو يقبل صاحبه بيعه لاشتريته ". عندئذ قال أحد القباطنة :
- "أنا صاحبه، إذا تريد شراءه أبيعه لك ؟ ".
- "كم تريد ؟ ".
- " أرد ألفا من الذهب ".
- " هذا مبلغ كبير ".
- " حسنا، أتركه لك بثمانمائة ".
وقبل أن تتم عملية البيع، أُلغيت الصفقة. فقد علم الفرسان بأن أروج تاجر معروف. وقالوا :
- " إن أخاه خضر رئيس في بودروم، وهو مستعد لدفع 10.000 ذهبا. وإذا كانت قيمته تساوي :10.000 هل يمكن أن يباع ب: 800 ؟ ".
أعادوا لسانتورلو أوغلو ماله، واستعادوا أروج. لقد علموا قيمته الحقيقية من كريغو، الذي كان قد احتال عليَّ في ال: 18.000 التي دفعتها له، وأعلم الفرسان باستعدادي لإنقاذ أروج.
تمثال بربروس في اسطنبول
وعلى إثر هذه الحادثة، ألقى الرودسيون أروج في زنزانة تحت الأرض، لكي لا أجد أيَّ حيلة تمكنني من إنقاذه. وجعلوا يعذبونه أكثر من ذي قبل. وضعوا الأغلال في يديه ورجليه وعنقه. إلا أنهم كانوا يعطونه من الطعام ما يسدّ به الرمق.
لم يتمكن اروج من تحمّل هذا العناء كثيرا. فطلب مقابلة ضابط الزنزانة التي حُبس فيها. فأذن له في ذلك. وعندما خرج سأله الضابط :
- " لماذا جئت ؟ ".
- " ما لذي تريدونه من وراء هذا الإيذاء الذي تلحقونه بي ؟ ".
- " اعلم أيها التركي : كيف تحاول إنقاذ نفسك بدفع 800 ذهبا. إن أخاك خير الدين رئيس ينتظر إنقاذك بمال الدنيا في بودروم. فهل تظن أنه لا علم لنا بذلك ؟ أم تظن أننا حمقى ؟ ".
- " كم تريدون أن أدفع لكم، لإطلاق سراحي ؟ ".
- " وأنت، كم تدفع ؟ كم تقدر نفسك ؟ ".
- " أنا أقدّر نفسي بجميع محصول الروملي من الشعير، وجميع المصاريف اليومية التي تدفع في الأناضول، بالإضافة إلى 100.000 ذهبا، أدفعها لكم " !!!!.
- " أيها المجنون ؛ استمر في سخريتك وتهكمك. سوف ترى كيف تكون عاقبتك ".
بعد هذه المحاورة، أمر الضابط الحانق رئيس السّجّانين بمعاملة أروج أسوأ مما كان يعامله من قبل. انزعج أروج كثيرا من هذا الوضع. وفي إحدى الليالي كان يبكي، ويدعو في زنزانته وحيدا :
- " يا رب : أنت الذي تهب الفرَج للعاجزين، فأغث عبدك الضعيف بجاه حبيبك صلى الله عليه وسلم، وعجّل إنقاذي من ظلم هؤلاء الكافرين ".
قضى أروج تلك الليلة يدعو في ذِلَّةٍ وانكسار، حتى سقط في الحمأة، وغلبه النوم من شدة التعب. فرأى في منامه شيخا مشرق الوجه يقول له :
- " يا أروج : لا تحزن بسبب ما أصابك من الأذى في سبيل الله ؛ فإن خلاصك قريب ".
استيقظ أروج في غاية السرور لهذه الرؤيا، وقد تلاشت همومه، وانشرح صدره. وفي ذلك الصباح، اجتمع كل قباطنة رودس. كانوا يتحدثون عن أمر أروج.فقال أحدهم :
- " إن أعمال البحر ليست ثابتة. اليوم أروج، وغدا نحن. أرى أن الاستمرار في إيذاء هذا التركي ليس صوبا ".
وعلى هذا فقد قرروا إخراج أروج من الزنزانة، وربطه في إحدى السفن حيث صار أسيرا جذافا بها. ومع هذا فقد كان يقول :
- " إن العمل في الجذف على سطح البحر نعمة بالنسبة لمن رأى الأذى تحت الأرض. يا رب لك الحمد، فقد رأيت وجه العالم ".
الحلقة القادمة: فرار أخي عروج من سفينة فرسان رودس ونجاته