جزيرة كريت " أقريطش "والفتح الإسلامي
دراسة تاريخية
مدخل جغرافي عن جزيرة كريت:
أقريطش أو كريت ، قال ياقوت : أقريطش بفتح الهمزة وتكسر، والقاف ساكنة، والراء مكسورة، وياء ساكنة ، وطاء مكسورة ، وشين معجمة.(1)
هي أكبر الجزر اليونانية وخامس أكبر جزيرة في البحر الأبيض المتوسط. وموقعها تقريباً 35° ش، 24° ق. وهي تطل جنوباً على بحر إيجه ، وعلى رغم أن مساحتها لا تزيد عن 8336 كيلومتراً مربعاً وعدد سكانها أقل من نصف مليون نسمة فهي من أهم جزر اليونان من حيث أهميتها الحضارية.
تنتصب فيها سلسلة جبلية ممتدة من الشرق إلى الغرب وتحدها شواطئ صخرية. وأعلى قمة فيها هي قمة بسيلوريتيس التي يصل ارتفاعها إلى 2456 متراً فوق سطح البحر. وعلى هذه السلسلة تنتشر بساتين الزيتون والكرمة وتزرع فيها الذرة والتبغ. وتشكل جسراً بين بلاد اليونان وأسيا الصغرى وترتفع في وسط الجزيرة سلسلة جبال تبلغ أعلى قمة فيها – وهي جبل " إيد " نحو 8193 قدماً ، تحيط بها سهول ساحلية وبخاصة في الشمال ، وليس بها أنهار كبيرة وأكبرها هو نهر " متروبولو " في السهل الجنوبي وهو لا يزيد عن مجرى مائي صغير يمكن عبوره خوضاً في أي موضع منه.
ويبلغ طول الجزيرة من الشرق إلي الغرب نحو 156ميلاً ويتراوح عرضها من الشمال إلي الجنوب ما بين 7 إلي 30 ميلاً وتربتها خصبة جداً في مناطق عديدة (2) .
وأقريطش تتمتع بموقع استراتيجي ممتاز في وسط حوض البحر المتوسط، فهي تؤلف جسراً يربط بين شبه جزيرة البلوبونيز وشبه جزيرة الأناضول، ولهذا فهي تتحكم بحكم هذا الموقع في الممرات المائية إلى بحر إيجة وسواحل آسيا الصغرى ومقدونيا، ثم تجاور عدداً لا يحصى من جزر بحر إيجة مثل جزيرة رودس وسكربنتو وميلوس وساموس وخيوس ولمنوس وتاسوس وميتيلين التي تشكل جميعاً خطاً دفاعياً أمامياً لسواحل الإمبراطورية البيزنطية المطلة على بحر إيجة وبحر مرمرة. بالإضافة إلى أن الجزيرة غنية بالأشجار التي يمكن أن تُستغل في إنشاء الأساطيل ، وغنية بأرضيها الخصبة الممتدة على السهول الساحلية في شمال الجزيرة (3).
ويصفها الشريف الإدريسي بقوله : "جزيرة إقريطش وهي من أكبر الجزائر البحرية في بحر الشامي ، وفيه من الجزائر الصغار ثمانية وعشرون جزيرة بين عامرة وغامرة ، بل أكرها عامر ، وها نحن واصفون لها حالاً حالاً وفصلاً فصلاً والعون بالله... وجزيرة إقريطش جزيرة كبيرة كما قلناه وفيها من المدن مدينة الخندق وربض الجبن و بها معدن ذهب وأشجار وفواكه ويعمل بها جيد الجبن الذي يتجهز به إلى جميع النواحي ولا يعدله شيء من نوعه. . وفي أجبلها الوعول الكثيرة وطولها من المغرب إلى المشرق اثنا عشر يوماً في ستة أيام وبين آخر جزيرة أقريطش في الشرق إلى جزيرة قبرس أربعة مجار" (4) .
الفتح الإسلامي لجزيرة كريت:
وعن أولى محاولات المسلمين فتحها ، كان ذلك في دولة بني أمية ؛ فقد غزاها جنادة بن أبي أمية الأزدي زمن معاوية ، فلما كان زمن الوليد فتح بعضها ثم أغلق، ولكنها خرجت من السيطرة الإسلامية بعد سنوات قلائل من غزو جنادة ، على إثر الفشل الذي انتهى إليه حصار المسلمين الأول للقسطنطينية في سنة 60هـ ، وغزاها حُميد بن معيوف الهمداني في خلافة الرشيد العباسي ، ففتح بعضها ، لكن لم يلبث أن انحسرت السيطرة الإسلامية برحيل الفاتحين .
ثم غزاها في خلافة المأمون أبو حفص عمر بن عيسى الأندلسي المعروف بالأقريطشي (5) أحد قادة الثورة على الأمير الحكم بن هشام الربضي (180-206هـ) (796-822م) أمير الأندلس الذي ساءت العلاقة بينه وبين الفقهاء ورجال الدين لانغماسه في اللهو، فصاروا يعرضون به في خطبهم على منابر المساجد، ويرمونه بالفسق والفجور ويلقبونه بالمخمور ويحرضون الناس على عزله(6).
ويقول المقري : " كانت له الوقعة الشهيرة مع أهل الربض من قرطبة لأنه في صدر ولايته كان قد انهمك في لذاته فاجتمع أهل العلم والورع بقرطبة أمثال يحيى بن يحيى الليثي صاحب مالك وأحد رواة الموطأ عنه، وطالوت الفقيه وغيرهما ، فثاروا به وخلعوه وبايعوا بعض قرابته ، وكانوا بالربض الغربي من قرطبة ، وكان محلةً متصلةً بقصره ، فقاتلهم الحكم فغلبهم وافترقوا وهدم دورهم ومساجدهم، ولحقوا بفاس من أرض العدوة ، وبالإسكندرية من أرض المشرق ، ونزل بها جمع منهم ، ثم ثاروا بها ، فزحف إليهم عبد الله بن طاهر صاحب مصر للمأمون بن الرشيد، وغلبهم ، وأجازهم إلى جزيرة إقريطش، فلم يزالوا بها إلى أن ملكها الإفرنج من أيديهم بعد مدة"(7).
والفريق من الربضيين الذي اتجه شرقاً وصل إلى شواطئ الإسكندرية ، فنزلوا في ضواحيها في أوائل عصر الخليفة العباسي المأمون سنة 200هـ، وكانت الأحوال في مصر مضطربة ، إذ انتقلت إليها عدوى الخلافات التي نشبت بين الأمين والمأمون؛ فانتهز الأندلسيون المهاجرون فرصة هذه الفتن، واستولوا على الإسكندرية بمعاونة أعراب البحيرة وأسسوا فيها إمارة أندلسية مستقلة عن الخلافة العباسية دامت أكثر من عشر سنوات.
وعندما استتب الأمر للخليفة المأمون، أرسل قائده عبد الله بن طاهر بن الحسين إلى مصر لإعادة الأمور إلى نصابها سنة 212هـ، فأرسل إلى هؤلاء الأندلسيين يهددهم بالحرب إن لم يدخلوا في الطاعة، فأجابوه إلى طلبه حقناً للدماء، واتفقوا معه على مغادرة الديار المصرية ، وعدم النزول في أرض تابعة للعباسيين، ثم اتجهوا بمراكبهم إلى جزيرة كريت وكانت تابعة للدولة البيزنطية ، وتحرك الأندلسيون في أسطول من أربعين سفينة ونزلوا فجأة خليج سودا في كريت فاستولوا عليها بقيادة زعيمهم أبي حفص عمر البلوطي سنة 825م، وهناك أسسوا قاعدة لهم أحاطوها بخندق كبير فعرفت باسم الخندق ثم انتقل هذا الاسم إلى الأوربية على chaodax ثم Candia كانديا أو كندية وهو اسم المدينة الحالية التي تعرف أيضاً بالاسم اليوناني Herakleon. (8) .
وتقع المدينة الجديدة في مركز متوسط، إذ تطل على جزر الأرخبيل، التي تطلع إليها غزاة كريت ، على أنها كانت تفتقر إلى مرفأ طبيعي للسفن ، ولم يلبث هؤلاء الأندلسيون أن فرضوا سيطرتهم على 29 مدينة ، وأخضعوا أهلها. (9) .
وقد ازداد هؤلاء الأندلسيون قوة حين لحق بهم بعض الأندلسيين الآخرين وحين زادوا في بناء المراكب وغزوا الجزر المجاورة حتى أرهبوها ونشأت بذلك دولة أبي حفص الذي عرفه التاريخ البيزنطي باسم Apocapso ، "بُوخابْس".
وتروي المصادر الرومية القصص الخيالية حول الفتح الذي استرق به العرب المسلمون سكان تسع وعشرون بلداً وغزوا فيه الجزر حول كريت عشرات الغزوات. (10) .
ومن الواضح أن المسلمين الأندلسيين لم يجدوا مقاومة من قبل سكان الجزيرة، ولعل ذلك راجع إلى ما يكنه هؤلاء السكان من الكراهية للبيزنطيين بسبب سوء سيرة عمالهم وظلمهم، وبسبب الظلم الضريبي والإداري ، ولما اشتهروا به من الهرطقة المتعلقة باللا أيقونية (11) .
وفوجئ الفاتحون بسكان كريت يرحبون بهم ؛ لأن اليونانيين كانوا يتعالون عليهم ، وأباطرة الرومان يعدُّونهم من مواطني الدرجة الثانية ؛ فأحبُّوا العربالأندلسيين ، حيث رأوهم يحترمون ديانتهم ولا يتحدثون عن عيسى - عليه السلام - إلاّبكل احترام .. ولأنهم أسقطوا عنهم ثلاثة أرباع الضرائب التي كانوا يؤدّونها للرومان،وكانت غالبية العرب الأندلسيين من الشباب ، ولم تكن معهم أُنثى واحدة ، فتزوَّجواجميعا من يونانيات ، وأُقيمت الأعراس باللغتين العربية واليونانية في طول الجزيرةوعرضها .
ولم تلبث جزيرة كريت منذ ذلك الوقت أن صارت قاعدة بحرية إسلامية هامة ومصدر تهديد مستمر لجزر وسواحل الدولة البيزنطية ، إذ أخذ الأسطول الكريتي يغير على سواحل بيزنطة وممتلكاتها وتجاراتها مما تسبب عنه وقوع اضطرابات اقتصادية وسياسية داخل أراضيها .
وقد حاول البيزنطيون استعادة هذه الجزيرة مرات عديدة اشترك في بعضها مئات الجنود الروس، ولكن هذه المحاولات باءت بالفشل ، والسبب في ذلك يرجع إلى الإمدادات العسكرية التي كانت تقدمها مصر والشام إلى هذه الجزيرة المجاهدة باعتبارها حصناً أمامياً لها ضد عدوان البيزنطيين. (12) .
ومنذ أن تمركز الأندلسيون في إقريطش استأنفوا نشاطهم العسكري البحري في ظل الدولة العباسية، فأصبحت إقريطش في التقسيم الإداري للدولة العباسية إقليماً تابعاً لمصر، حتى سقوطها في أيدي البيزنطيين في سنة 350هـ، 961 م ، وكانت مراكب أهل إقريطش " تمير أهل مصر بخيرات جزيرتهم وأطعمتهم، وكانت هداياهم تصل إلى عمال مصر" وكان يحمل من إقريطش العسل والنحل والجبن الكثير لمصر والشام ويسمى بلغة الفرنج كنديا ، نسبة إلى مدينة كندية أو الخندق قاعدة إقريطش.
وكانت مصر تتولى تزويدهم بالسلاح والمعدات، كما كانت دار صناعة دمياط تزودهم بما يلزمهم من السفن التي تنتجها من أخشاب إقريطش (13) .
ونُسب إلى " كريت " أو " أقريطش " بعض الرواة منهم محمد بن عيسى أبو بكر الأقريطشي ، حدث بدمشق عن محمد بن القاسم المالكي؛ روى عنه عبد الله بن محمد النسائي المؤدب ، قاله أبو القاسم (14) .
الحملات البيزنطية المتوالية على كريت:
الإمبراطور البيزنطي ميخائيل الثاني ومن أتى بعده ، أدركوا ما يتهدد الإمبراطورية من الخطر الإسلامي الجاثم بجزيرة كريت، فعين ميخائيل ، قائد ثغر الناطليق، وهو Photeinos، قائداً لثغر كريت، فوصل إلى الجزيرة بعد بضعة شهور من استيلاء العرب على الجزيرة، غير أنه تبين له أن ما لديه من القوات، لا يكفي للقيام بالمحافظة على ممتلكاته بالجزيرة ، فجاء دميانوس بأمداد جديدة، غير أن دميانوس أصابته الجراح، وهرب فوتينوس إلى جزيرة ديوس الصغيرة التي تواجه قنديا.
ثم وجه الإمبراطور ميخائيل حملة بحرية مؤلفة من سبعين سفينة، بقيادة قائد الثغر البحري كيبريوتس ، جنوب آسيا الصغرى ، هذا القائد هو المعروف باسم كراتيروس، استطاع بعد قتال عنيف، أن ينزل عساكره إلى البر، غير أن المسلمين لم يلبثوا أن أجلوهم عن الجزيرة ، وقتلوا منهم عدداً كبيراً، ولم يسلم قائدهم من القتل.
ولم يكن اهتمام الإمبراطور موجهاً فحسب إلى استعادة جزيرة كريت من المسلمين، بل أيضاً إلى حماية سائر جزر بحر الأرخبيل، إذ أن المسلمين لم يكتفوا بمهاجمة الجزر القريبة من كريت، بل امتد نشاطهم وهجماتهم، حتى شملت شاطئ بحر الأرخبيل، فتعرضت جزر عديدة لمهاجمتهم، فأنزلوا بها الخراب وأمعنوا في نهبها . وتوجهت من كريت حملة، عقب وفاة الإمبراطور ميخائيل مباشرة، خربت ونهبت شواطئ كاريا Caria ، وإيوانيا ، ونهبت دير جبل لاتروس ، وترتب على مهاجمتهم لدير جبل لاتروس، أن هجر الرهبان قلاياتهم. ولم تجد نفعاً كل محاولات ميخائيل الثاني وخلفائه لاستعادة جزيرة كريت ، التي ظل يحكمها المسلمون نحو قرن ونصف قرن من الزمان.(15 ) .
وأدرك الإمبراطور البيزنطي ميشيل العموري مدى الخسارة التي أصابت بيزنطة بضياع جزيرة إقريطش ( كريت ) ، وأدى الفشل المتلاحق الذي منيت به الحملات البيزنطية على الجزيرة إلى تخليه نهائياً عن فكرة استردادها ، وما أن كف البيزنطيون عن محاولاتهم لغزو الجزيرة في عهد تيوفيل حتى تفرغ أهلها لجهادهم البحري، وأحرزوا انتصاراً على الأسطول البيزنطي بالقرب من جزيرة تاسوس في سنة 214هـ 829م، ثم عمدوا إلى مهاجمة سواحل الأناضول وخربوا جزر السيكلاد.
وحاول تيوفيل أن يستثير عليهم الأمير الأندلسي عبد الرحمن الأوسط حتى يجليهم عن إقريطش، ولكن الأمير الأندلسي اعتذر بأن مسلمي إقريطش وإن كانوا أندلسيين إلا أنهم ليسوا سوى سفلة أهل الأندلس وفسقتهم، وأنهم ليسوا وقتئذ خاضعين لسلطانه حتى يملي عليهم أوامره.
وواصل مسلمو أقريطش شن غاراتهم المدمرة على الجزر البيزنطية في عهد تيوفيل ( 829- 842م) وميشيل الثالث ( 842-867م) كما أغاروا على جزيرة نيون في سنة 252هـ 866م، واتخذوا فيها قاعدة شبه دائمة ، وظلوا يشكلون خطراً جدياً على الدولة البيزنطية التي عجزت تماماً عن القيام بدفعهم ووضع حد لغاراتهم (16).
وفي مارس عام 843 م ،228 هـ تحركت حملة بحرية بيزنطية ضخمة لمهاجمة جزيرة كريت وقادها الوزير ثيوكتستوس ، ولم يلق صعوبة في الوصول إلى كريت، والنزول بعسكره بها ، غير أن المسلمين بكريت استطاعوا أن يثيروا مخاوف القائد على مركزه ومكانته عند تيودورا، فشاع الخبر بأن الإمبراطورة جعلت أحد منافسيه قسيماً في الحكم ، فلم يسع القائد إلا أن يعجل بالعودة للعاصمة البيزنطية " القسطنطينية " ، وأن يترك جانباً كبيراً من جيشه بكريت، فتعرض ذلك الجيش للهزيمة الساحقة التي أنزلها به المسلمون (17).
وفي السنوات الأخيرة من حكم الإمبراطور البيزنطي ميخائيل الثالث واصل المسلمون بكريت غاراتهم على جزر بحر الأرخبيل، فتعرضت جزيرة لسبوس للنهب والتخريب، وجرى نقل رهبان دير أثوس من مواضعهم.
وقام الإمبراطور ميخائيل الثالث وبارداس بمحاولة أخيرة لاسترداد جزيرة كريت بأن أعدا حملة بحرية كبيرة ، وذلك سنة 866 م،252هـ أقلعت من شواطئ ثغر تراقسيون، حيث اجتمعت سائر الأساطيل والعساكر القادمة من ثغور آسيا الصغرى للاشتراك في الحملة ضد كريت ، على أن هذه الحملة قضى عليها أعداء الإمبراطور، حيث نجحت المؤامرات التي دبرها باسيل ـ الذي صار فيما بعد الإمبراطور باسيل المقدوني ـ لاغتيال بارداس في وقف سير الحملة إلى كريت ، وظلت كريت في أيدي العرب نحو ثلاثين سنة أخرى (18).
وفي سنة 911 م قاد هميريوس أكبر حملة بحرية لمهاجمة جزيرة كريت ، إذ تألفت من 7 آلاف فارس و34 ألف مقاتل بحري وخمسة آلاف من المردة وسبعمائة مرتزق روسي ، على أن الأسطول البيزنطي انسحب بعد قتال فاشل استمر طويلاً دون جدوى، وفي أثناء عودته هاجمه أسطول إسلامي بقيادة ليو الطرابلسي ودميان اليوناني المسلم أمير صور وقائد الأسطول الشامي، وذلك تجاه جزيرة خيوس، فتعرض هيميريوس لهزيمة ساحقة، وبذلك أخفقت الحملة الكبيرة (19).
وفي سنة 949 أعد الإمبراطور قنسطنطين السابع أسطولاً ضخماً يتألف من 137 سفينة كبيرة ، وشحن بهذا الأسطول زهرة ما تحتويه ثغور أوربا وآسيا البيزنطية من قوات، فبلغ عدد البحارة نحو 9707 منهم 629 من الروس، 638 من Talpaches ، و700 أسير من مختلف الأجناس، و 3000 من المردة بالغرب ، 1512 من ثغر كيبريوت والمردة بالشرق، أما القوات البرية فاشتملت على 4743 جندي، منهم خيرة جند الحرس الإمبراطوري، وجند ثغري مقدونيا وتراقيا، وصقالبة الأبسيق، وأرمن من ثغري الناطليق والتراقسيون، وأنفق فيهم نحو 3706 من الليرات الذهبية، ويضاف على ذلك مقادير كبيرة من أدوات البحرية والحصار والقتال.
وأرسل قوات بحرية أخرى لمراقبة المسلمين في أسبانيا وأفريقية، لمنعهم من النهوض لمساعدة المسلمين في كريت، وجعل على رأس هذه القوة الحربية الضخمة قنسطنطين جونجل من أساطين الحكومة البيزنطية، وكان وقتذاك قائداً لثغر ساموس ، غير أنه لم يستطع بعد أن نزل في كريت، أن يقوم بتحصين معسكره، أو يتخذ حراساً له أو يبعث بكشافته، فانقض المسلمون على البيزنطيين، وأمعنوا في القتل والذبح واستولوا على المعسكر، وكاد قنسطنطين يقع في أيدي المسلمين لولا أن حال دون ذلك غلمانه ، وترتب على هذه الهزيمة الساحقة ، أن تعرضت سواحل الإمبراطورية لغارات المسلمين الكريتيين (20).
سقوط جزيرة كريت :
لما صارت السلطة إلى برنجاس، حرص على أن يبذل مجهوداً كبيراً للاستيلاء على كريت، فعين على الحملة التي أعدها لتحقيق هذا الغرض نقفور فوكاس، وهو من كبار القادة البيزنطيين.
وتعتبر هذه الحملة الموجهة ضد كريت من أشهر أحداث التاريخ البيزنطي في الشطر الثاني من القرن العاشر ، حيث حُشد جيش ضخم وأسطول كبير، وتألفت هذه القوات من عساكر الثغور الأوربية، من تراقيا ومقدونيا، الذين اشتهروا بأنهم من خيرة جيوش الإمبراطور، ومن عساكر الثغور الأسيوية ، سكان قبادوقيا وليكونيا وبونطس ، وعدد كبير من الأرمن ، وبحارة من الثغور البحرية، وعدد من المرتزقة الروس ، وعدد كبير من الأسرى من أجناس متعددة ،و4000 من المردة.
وتألف هذا الأسطول الضخم من 2000 سفينة حربية، و1360 سفينة للمؤن والإمداد ، وأرسلت بعض القطع الحربية لتمنع كل مساعدة تأتي إلى كريت من بلاد الشام، وتحول دون نهوض الأساطيل الإسلامية في شرق البحر المتوسط لمساعدتها.
أقلع الأسطول بقيادة نقفور من مراسيه في الأيام الأخيرة من شهر يونيه أو الأيام الأولى من شهر يوليه سنة 956،ربيع الأول 345 هـ ، ثم تفرق الأسطول على سائر الأماكن على ساحل كريت، فأضحى يحاصر المنافذ المؤدية إلى الخندق، ويمنع كل محاولة لمساعدة المسلمين بها ، تجئ من سواحل الشام وقليقية ومصر وأفريقية، ومن الأندلس.
وفي أثناء استعداد الجيش للزحف، تولى باستيلاس قائد ثغر تراقيسيون، وهو من أقدر رجال الحملة وأشجعهم، ومن أبطال الحروب بآسيا ، قيادة قوة الاستطلاع والاستكشاف في داخل الجزيرة، غير أن المسلمين بغتوا هذه القوة وأبادوها عن آخرها ، ولقي باستيلاس مصرعه.
ساء نقفور ما حل بجيشه من هزيمة، فقرر التوجه لحصار الخندق عاصمة جزيرة كريت، وهذه المدينة اشتهرت بمناعتها وتعتبر مفتاح الجزيرة.
تقدم الجيش البيزنطي في إقليم اشتهر بالخصوبة ووفرة المحصولات وأشجار الفواكه، فانحاز إليه سكان الجزيرة من المسيحيين، فأشعلوا الحرائق بالقرى والمحصولات، وقطعوا أشجار النخيل والفاكهة، وبلغ الجيش آخر الأمر الخندق ، واحتل الحصن ( الخندق ) موقعاً خطيراً، فإلى جانب ما حدث من تحصينه من جهة البحر، ارتكز من جهة أخرى إلى صخرة ضخمة ، ارتفع عليها أسوار متينة، والواقع أن المدينة بلغت من المناعة، ما جعل مهاجمتها أمراً يكاد يكون مستحيلاً.
فقرر نقفور إلغاء الحصار على المدينة، وقطع الأسطول طريق الاتصال بالبحر، وأقام البيزنطيون معسكرهم على مسافة غير بعيدة من المدينة، وأحاطوا بأسوارها الضخمة، وخرجت السرايا من الجيش البيزنطي، وأخذت تتوغل داخل الجزيرة، تثير الفزع والرعب في نفوس السكان، وتنهب القرى لتوفير المؤن للجيش، واحتلت القوات البحرية جميع الموانئ كيما يصبح الجيش بمأمن من المفاجأة.
واشتد الجوع بالمسلمين المحاصرين، فأرسل أميرهم عبد العزيز بن عمر بن شعيب ، يلتمس المساعدة من الخلفاء الفاطميين بأفريقية ، والأمراء الأمويين بالأندلس، فأرسل عبد الرحمن الثالث من قبله مبعوثين للجزيرة.
إلا أن السفارات لم تنقطع بين القسطنطينية وبلاط قرطبة في القرن العاشر الميلادي ، ولم يتوقف النشاط البحري بين سائر المسلمين في حوض البحر المتوسط، على الرغم من الصلات المتينة التي تربط بين مسلمي أسبانيا ومسلمي كريت، غير أن ما حل بالمسلمين المحاصرين بالخندق من الشقاء والضيق، واشتداد ضغط البيزنطيين، وتضييقهم الخناق على المدينة، جعل تقديم المساعدة أمراً غير يسير.
استمر الحصار حتى سنة 961، تخلله اشتباكات عديدة بين الفريقين، وحرص نقفور على منع وصول الأمداد من أفريقية وأسيا ، وتغلب نقفور على كل ما صافه من العقبات، وما توافر لديه من الكشافة والجواسيس ، أفاد منهم كثيراً، بفضل قوة نظامهم واستطاع عساكر ثغر تراقيسيون أن يردوا أمير طرسوس على أعقابه ، وحدث بعدئذ أن توجه إلى مهاجمة المعسكر البيزنطي نحو أربعين ألف من الجند المسلمين، كان الفاطميون بشمال أفريقية ، قد أرسلوا جانباً منهم ، بينما كان الجانب الأكبر من داخل الجزيرة ، ونهض نقفور للالتقاء بالجيش الإسلامي الزاحف لنصرة حامية الخندق، فجرت معركة عنيفة انتصر فيها البيزنطيون، واستشهد فيها عدد كبير من العساكر الإسلامية ، وبلغ من همجية البيزنطيين ووحشيتهم أن صاروا يقذفون إلى داخل المدينة بأشلاء الجند المسلمين الذين لقوا مصرعهم.
واستطاع نقفور وجنده، بفضل ما ألقوه من القذائف على أسوار الخندق أن يحدثوا ثغرة كبيرة فيها، بينما تقدم النقابون إلى الأسوار ، وصاروا يحفرون في أسفلها، ثم أشعلوا في هذه الحفائر النيران ، فهوت الأبراج إلى الخندق ، وتدفق العساكر البيزنطيين إلى داخل المدينة، فأجروا مذبحة مريعة، هلك فيها عدد من المسلمين ، ووقع في أيديهم كثير من السبي الأسرى.
على أن ما تعرضت له الخندق من النهب والسلب تجاوز كل الحدود، فاستولى الجند البيزنطيون على كل ما ادخره المسلمون في الجزيرة من الغنائم والثروات، وأمر نقفور بتدمير أسوار الخندق فأرغموا أهل المدينة على القيام بهذا العمل، وشيد نقفور قلعة على مرتفع يجاور موضع الخندق، امتاز بحسن موقعه وبتوافر المياه، لتحل مكان المدينة التي دمرها.
وترتب على سقوط الخندق أن استطاع نقفور أن يخضع سائر الجزيرة ، فقدمت الوفود تطلب منه الأمان.
وأدى سقوط كريت في يد البيزنطيين إلى نتائج بالغة الأهمية، إذ تم نهائياً الاستيلاء على كريت ، وساد بحر الأرخبيل الأمن والهدوء، بعد أن تعرض زمناً طويلاً لغارات المسلمين، وما نشب في العالم الإسلامي وقتذاك من الاضطراب والقلق صرف المسلمين عن استعادة كريت (21).
وبعد سقوط كريت أُخذ آخر أمراء المسلمين على الجزيرة عبد العزيز أسيراً، ومات في القسطنطينية، ودخل في خدمة ملك الروم ابنه أنماس ، وفارق الإسلام هذه الجزيرة ، إذ جلا المسلمون عنها ، ومن اختار البقاء تنصر (22).
وظلت جزيرة كريت في أيدي البيزنطيين بعدئذ نحو قرنين ونصف، ثم صارت من أملاك يونيفاس مونتفرات بعد استيلاء الصليبيين على القسطنطينية سنة 1204، ولما أصبح قائد الحملة الصليبية الرابعة ملكاً على سالونيك، تنازل عن كريت للبندقة، فبقيت في أيديهم إلى أن استولى عليها العثمانيون (23).
وهو ما ذكره ابن الأثير حيث قال: ".. وتكون لدوقس البنادقة الجزائر البحرية مثل جزيرة إقريطش وجزيرة رودس وغيرهما .." (24) .
وظلت كريت دولة عربية إسلامية مدة مئةوأربعين سنة تنشر الحضارة فيما حولها ، حيث كانت الثقافة العربية الإسلامية في قمةازدهارها .. ولم يستطع الرومان إعادة احتلالها إلاّ بعد أن اشتعلت الفتنة بينالعباسيين والفاطميين وانشغل المتطوعون عن إمدادها .
ومن نتائج سقوط كريت أن ساد الاضطهاد الديني للمسلمين بالجزيرة ، وفي القرن السابع الهجري اشترت جمهورية البندقية جزيرة كريت ، وحكم البنادقة الجزيرة حكماً استبدادياً وحاولوا نشر المذهب الكاثوليكي بين سكان الجزيرة وكان أهلها يعتنقون المذهب الأرثوذكسي فهاجر الكثير من أهل الجزيرة إلى البلاد الإسلامية واعتنق الكثير منهم الإسلام .واستنجد أهل الجزيرة بالأتراك العثمانيين لتخليصهم من حكم البنادقة ، فأرسل العثمانيون حملة لفتح كريت في سنة (1080هـ – 1669م ) وعاد الحكم الإسلامي لجزيرة كريت مرة ثانية ، وعاد المذهب الأرثوذكسي للجزيرة ، وساد التسامح الديني في الجزيرة ، وأمام تسامح المسلمين اعتنق نصف سكان جزيرة كريت الإسلام ، وانتشر في جميع أنحاء كريت في ظل الحكم التركي ، ولم يحاول الأتراك تغير لغة الجزيرة أو التدخل في دين أهلها ( 25) .
الحكم العثماني لجزيرة كريت:
فُتحت جزيرة كريت في عهد السلطان إبراهيم خان الأول ، حيث توجهت لها قوة العثمانية ، وألقت مراسيها أمام مدينة خانيه أو كانيه أهم ثغور الجزيرة في 29/ربيع الآخر سنة 1055 ( 24/ يونيه/ سنة 1645) ، وتم افتتاحها بدون حرب تقريباً لعدم وصول الدونانمه البندقية إليها في الوقت المناسب، فانتقم البنادقة بحرق ثغور بتراس وكورون ومودون من بلاد الموره ، وفي سنة 1646 فتح أغلب الجزيرة ، وفي السنة التالية وضع الحصار أمام مدينة ( كنديا) عاصمة الجزيرة، ولكن حال دون إتمامه وفتح المدينة عصيان الجنود في الأستانة العاصمة العثمانية ( 26).
وساندت فرنسا البنادقة في استرداد جزيرة كريت ودفع الحصار عن كانديا من قبل العثمانيين ، فسار الصدر سنة 1667 بنفسه لتتميم فتح المدينة الحصينة التي كادت تعيي الدولة العثمانية. واستمر الحصار والقتال مدة أكثر من سنتين لإمداد فرنسا لها بالمال والرجال والسفن الحربية ، وأخيراً اضطرت الحامية إلى التسليم فسلمها قائدها ( موروزيني ) في 29 ربيع الثاني سنة 1080(26 سبتمبر سنة 1669) (27).
ولما تولى منصب الصدارة علي باشا داماد عام 1713م ( عام 1125هـ) كان ميالاً للحرب فأعلن الحرب على جمهورية البندقية ، وفي قليل من الزمن استرد البحيث والمدن التي كانت باقية للبنادقة بجزيرة كريت (28) .
ولما رأى السلطان محمود ما ألم بجيوشه في هذه الحروب المستمرة والمناوشات الغير منقطعة وثبات اليونانيين أمام الجيوش العثمانية واعتصامهم بالجبال، أحال أمر محاربة اليونانيين لمحمد علي باشا والي مصر ، فصدر فرماناً بتاريخ 5رجب سنة 1239 ( 6مارس سنة 1824) بتعيين محمد علي باشاً والياً على جزيرة كريت وإقليم مورة وهما بؤرتا الثورة اليونانية.
فأعد محمد علي باشا جيشاً من المصريين بقيادة ابنه إبراهيم باشا في 19 ذي القعدة 1239 ( 16 يوليو سنة 1824 ) ،ففتح مدينة ناورين بعد حصار شديد وبعدها فتح مدينة كلاماتا وتلاها بمدينة تريبولتسا، كما فُتحت مدينة آتينا ، وبينما يستعد إبراهيم باشا لفتح ما بقي من بلاد اليونان في أيدي الثائرين إذ تدخلت الدول الأوربية بين الباب العالي ومتبوعيه بحجة حماية اليونانيين في الظاهر ولفتح المسألة الشرقية وتقسيم أملاك الدولة العثمانية بينهم في الباطن ( 29) .
ولكن السلطان العثماني رفض تدخلهم لفصل اليونان فدخلت قوات فرنسا وإنجلترا وروسيا خليج نفارين حيث الأسطول المصري العثماني ( عام 1827م ) وكان ذلك مقدمة للحرب الروسية العثمانية المقبلة، وقد قُتل ما يزيد على ثلاثين ألف مصري في تلك الحملة ، ودمرت السفن العثمانية في عدة ساعات، على إثرها قطعت العلاقات بين الباب العالي والدول الأوربية ، وأصدر السلطان منشوراً عاماً بين فيه نيات الدول الأوربية تجاه المسلمين خاصة روسية ، وقد أوضح أن الباعث لذلك العدوان هو الدين وليس السياسية، وحض المسلمين على القتال دفاعاً عن الدين ، فاغتاظ الروس ، وأعلنوا الحرب على الدولة العثمانية في 11 شوال عام 1243هـ (26 إبريل 1828 م).
فأمر محمد علي ابنه بإخلاء المورة والرجوع لمصر فقد دخلها الفرنسيون ، ثم عُقد مؤتمر لندن في 8 جمادى الأولى عام 1244هـ (الأحد 16 نوفمبر 1828 م) بين الدول الثلاث بشأن اليونان واتفقوا على استقلال المورة وغيرها وتعيين حاكم نصراني عليها ولكن الدولة العثمانية رفضت ، وكانت تستعد لحرب الروس (30).
وفي عام 1877 م ( 1294 هـ ) قامت ثورة سكان كريت المسيحيين ، واستغلوا الأخطار التي تزاحمت على السلطان عبد الحميد إبان الحرب العثمانية الروسية التي نشبت تلك السنة ، وقد طالب الثوار بإدخال تعديلات على" اللائحة الأساسية " Organic Statute الصادرة في عام 1868، وذلك بمنحهم المزيد من الامتيازات ، ولما رفض السلطان عبد الحميد الاستجابة إلى مطالبهم عقد زعماء الثوار اجتماعاً في أثينا وقرروا تحريك ثورة ضد الدولة العثمانية وهبط المتطوعون اليونانيون الجزيرة، وشكل زعماء الثورة جمعية باسم الجمعية العامة للكريتتين طالبت بمنح الجزيرة حكماً ذاتياً كاملاً ، وأن تحكم الجزيرة هيئة تنفيذية يرأسها حاكم ينتخبه الأهالي، وأن تكون الرابطة بين الدولة العثمانية والجزيرة مقصورة على جزية سنوية حددت بنصف مليون قرش ، وأن تضمن الدول الأوربية الكبرى هذا الوضع السياسي الجديد للجزيرة.
ولما أبطأ عليهم عبد الحميد أعلنوا قطع العلاقات مع الدولة العثمانية وإعلان الحرب عليها ، وتصاعدت موجة الحركة الهيلينية – وهي تهدف إلى ضم جميع الأقاليم التي يسكنها يونانيين إلى المملكة اليونانية باعتبارها المملكة الأم – وكان يحلو لرجال الحركة الهيلينية أن يطلقوا على جزيرة كريت " الجزيرة اليونانية الكبرى " وكان بعضهم من أنصار ضمها إلى المملكة الأم ، بينما كان البعض الآخر من أنصار اتحادها ، وكانوا على استعداد دائماً لمساعدة الجزيرة حربياً بل ومحاربة الدولة العثمانية في تحقيق هدفهم.
وقد أعلنت الحكومة اليونانية أن المستقبل السياسي لجزيرة كريت يهمها أكثر من أي دولة أخرى. ومع ذلك لم يمضي وقت طويل على نشوب الثورة حتى أعلنت الهدنة لسببين: أولهما أن الدولة العثمانية كانت قد سحبت أجزاء من قواتها من الجزيرة ووجهتها لمحاربة الجيوش الروسية ، وثانيهما : أن الثوار كانت تعوزهم الذخائر والأسلحة والأطعمة.
ولكن لما أرسل السلطان تعزيزات عسكرية إلى الجزيرة من جديد ضد الثوار وبدأت كفة العثمانيين ترجح كفة الثوار ، وتدخلت الحكومة البريطانية نيابة عن مسيحيي الجزيرة لدى الباب العالي الذي وعد بأنه " سيعمل بالاتفاق مع الحكومة البريطانية على إدخال ترتيبات لنوع جديد من الحكومة في الجزيرة طبقاً للمطالب الشرعية واحتياجات الجزيرة " وشكلت حكومة مؤقتاً تتكون من سبعة أعضاء وافقت في اليوم السادس والعشرين من شهر مايو – أيار- عام 1877 ( 1294هـ )على قبول الوساطة البريطانية ، وإبرام هدنة على أساس القاعدة المعمول بها في بعض الأحوال، والتي يُطلق عليها القانون الدولي العام Uti possidetis وبذلك عاد السلام مؤقتاً إلى جزيرة كريت ، ولكن سرعان ما تجدد نشوب الثورات تباعاً في السنوات المتبقية من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين بتحريض من مملكة اليونان والدول الأوربية الكبرى عسكرياً ، وكان من بين هذه الدول روسيا ، والنمسا والمجر وبريطانيا، وفرنسا وإيطاليا ، لتصعيد الأزمات والأخطار في وجه السلطان عبد الحميد (31).
زوال الحكم الإسلامي من الجزيرة:
واستمر الصراع العثماني الأوربي حتى سنة ( 1316هـ -1898 م ) عندما " دولت " كريت ؛ ومنحت بعد ذلك لليونان في سنة (1332 هـ - 1913 م) ونتيجة للاضطهاد الديني هاجر حوالي 450 ألف مسلم من جزيرة كريت ، حيث قلص التعليم الديني إلى ساعتين في الأسبوع ، ولم يسمح للمسلمين بناء مدارس جديدة لتعليم أبنائهم ، وحرم عليهم بناء أو إصلاح المساجد ، ولقد خلف المسلمون وراءهم العديد من المساجد والمدارس الدينية ، ومن أبرز ٍمساجد كريت مسجد السلطان إبراهيم في مدينة الخندق عاصمة الجزيرة وقد حول المسجد إلى كنيسة ( سانت نيكولاس )( 32) .
وعن الحكم العثماني قال السير توماس أرنولد في كتابه الدعوة إلى الإسلام : " ... إن المعاملة التي أظهرها الأباطرة العثمانيون للرعايا المسلمين ... على الأقل بعد أن غزوا بلاد اليونان بقرنين لتدل على تسامح لم يكن مثله حتى ذلك الوقت معروفاً في أوربا وإن أصحاب ( كالفن ) في المجر وترانسلفانيا طالما آثروا الخضوع للأتراك على الوقوع في أيدي أسرة هابسبورغ المتعصبة ونظر البروتستانت إلى تركيا بعين الرغبة ... كذلك نرى القوزق الذين ينتمون إلى فرقة المؤمنين القدماء الذين اضطهدتهم كنيسة الدولة الروسية قد وجدوا من التسامح في ممالك السلطان ما أنكره عليهم إخوانهم في المسيحية ..." (33) .
خير ختام قول الحق جل وعلا:
قال الله تعالى: " قد كان لكم آيةٌ في فئتين التقتا فئةٌ تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرةٌ يرونهم رأي العينِ والله يؤيدُ بنصرهِ من يشاءُ إن في ذلك لعبرةً لأولي الأبصار" آل عمران – آية 13.
وقال الله تعالى: " إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرحٌ مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداءَ والله لا يحب الظالمين " آل عمران – آية 140.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ