[تحرير] ما قبل الفتح
غزا العرب صقلية في عام 652 ، لكن هذا الغزو كان قصير العمر و سرعان ما غادروها بعد ذلك بوقت قصير . بيد ان هذا شكل أول اتصال مع العرب الذين انشاءوا لاحقا مراكز تجارية على السواحل الغربية للجزيرة .
حوالى عام 700 فتح العرب جزيرة قوصرة Pantelleria ، و بقيت صقلية ذات الأهمية الإستراتيجية في السيطرة على المتوسط بيد البيزنطيين . و عقدت العرب معهم اتفاقيات تجارية و استقر التجار العرب في موانئ صقلية .
و كان تفتت الإمبراطورية البيزنطية و ضعفها عزز الشعر بالسخط عليها من قبل الصقليين سياسيا و ثقافيا فهم يعتبرون أنفسهم أقرب لروما التي تحكمها الإمبراطورية الغربية من القسطنطينية التي تحكمها الإمبراطورية الشرقية .
بين عامي (803-820) بدأ تاثير البيزنطيين في الإنحدار في منطقة وسط البحر الأبيض بشكل واضح في حقبة حكم الإمبراطور إريني و زادت حاثة تومازو السلافي الطين بلة .
وسط ذلك انقلب ضد البيزنطيين يوفيميوس قائد الأسطول البيزنطي و هو مالك أراضي ثري ، و استولى على حكم صقلية بمساعدة نبلاء صقليين اعلن نفسه إمبراطورا عام 823 في سيراقوسة ، و طلب المساعدة من العرب عام 825 للحفاظ على سيطرته على الجزيرة ، فرد البيزنطيون بقسوة بقيادة فوتينو ، و بعد هزيمته في سيراقوسة فر يوفيميوس إلى إفريقية لاجئا و طالبا العون من أمير الأغالبة زيادة الله بن الاغلب في القيروان للإبحار و طرد البيزنطيين مقابل ترك علماء المسلمين نشرون الاسلام بصقلية .
و رغم أنهم خرجوا لتوهم من هزة التمرد الذي قاده ضدهم منصور بن نصر الطنبذي كان ردهم بإعداد أسطول من مائة سفينة مع عشرة آلاف مقاتل أغبهم من المتطوعيت للجهاد و سبعمائه فارس بخيولهم .
الفتح الإسلامي
بدأ الفتح 17 يونيو عام 827 تحت قيادة الفقيه المالكي و القاضي أسد بن الفرات مؤلف "الأسدية" و تألف الجيش أساسا من العرب و البربر من شمال افريقيا و الأندلس . اكتسب المسلمون موطئ قدم في مازارا دل فالو و مارسالا فتم تحصينهما و استخدموهما كرأس حربة للفتح و كقواعد لرسو السفن .
كان هدف الحملة التعمق قدر الإمكان في الجزيرة ، و لا ينخدعوا بقدرتهم على تخطي الدفاعات الهائلة لعاصمة البيزنطيين الصقلية سيراقوسة ، و لكن ضعف البيزنطيين الخارجين لتوهم من صراع مع تومازو السلافي أظهر لأسد بن الفرات إمكانية ملموسة لتغير الهدف الإستراتيجي للحملة إلى حملة فتح حقيقي وكامل .
و لكنه بعد فتح جزء كبير من الجزيرة أصيب بالمرض يعتقد أنه وباء الكوليرا و توفي و قد جاوز السبعين عاما سنة 213 هـ الموافق 828 للميلاد ، و عين خافا له محمد بن أبي الجواري بناءا على رغبة الجنود . و في 830 عام تلقى المسلمون تعزيزات جزء منها من إفريقية (المشغولة آنذاك لصد هجوم دوق لوكا بونيفاتشو الثاني) و الجزء الأكبر أتى من الأندلس ، و هكذا استطاع (و كانوا فتحوا أغريجنتو) المسلمون فتح باليرمو بين أغسطس و سبتمبر من عام 831 بعد حصار طويل واتخذت عاصمة للجزيرة ، و من ثم لحقها فتح مسينا عام 843 ، و موديكا و راغوزا عام 848 ، و قصريانة (إنا حاليا) عام 859 بقيادة عباس بن الفضل و كان قد ألحق هزيمة نكراء بأسطول بنـزنطي قرب سيراقوسة و اعتبر المؤرخون الأوروبيون عباس بن الفضل من أمهر و ألمع القادة المسلمين الذين واجهتهم الجيوش الأوروبية . و لكن سيراقوسة المعتمدة على الدعم من مالطا فضلا عن دعم دوقات كالابريا و أوترانتو و نابولي صمدت ، و تجاوزت الحصار الذي فرضه خفاجة بن سفيان بين عامي 872 و 873 وسقطت في 21 مايو 878 بعد حوالي من نصف قرن من بداية حملة أسد بن الفرات بعد حصار خانق .
و في 1 أغسطس عام 902 سقطت طيرمينة Taormina آخر معاقل بيزنطة المهمة التي فتحها إبراهيم الثاني الأغلبي الذي استطاع أن يجعل كل صقلية تحت السيطرة الإسلامية ، و كانت آخر بؤر البيزنطيين كانت روميتا و سقطت عام 963 .
و كان إبراهيم الثاني قد تخلى عن الملك لابنه عبد الله بعد أن عزله الخليفة العباسي المعتضد في بغداد سنة 289 هـ ، فجاء إلى صقلية مجاهداً ، و كان يرمي إلى مواصلة التقدم في إيطاليا شمالاً والوصول إلى روما و القسطنطينية لفتحها مصداقاً للحديث الشريف ، فقطع مضيق ميسينا متجها شمالا عبر قلورية (كالابريا) و لم يواجه مقاومة تذكر إلا أن ميسرته توقفت عند على مشارف كوزنسا و لعلها كانت أول مدينة تقاومه ، يعتقد أن سبب توقف العمليات العسكرية كان قلة التنظيم و قصور الإمتدادات و النتائج الملموسة و أصيب إبراهيم بالزحار و لم يمهله كثيرا فقضى نحبه و على حافة التشتت انسحب الجيش ، و انتهى بذلك طموح فتح "الأرض الكبيرة" . و أصبحت باليرمو واحدة من أكبر المدن في العالم .
إمارة صقلية
حكمت صقلية من قبل لسلالة الأغالبة من أهل السنة و الجماعة في إفريقية ، و لما قضى الفاطميون الإسماعيليون على دولة الأغالبة عام (297 هـ/ 909 م) ، ورثوا أسطولها و ممتلكاتها و دخلت صقلية في فلك الدولة الفاطمية ، و صار يحكمها ولاة من قبل الخلفاء الفاطميين سواء في المهدية أو في القاهرة لاحقا ، إلا أن هذه التبعية كانت اسمية في غالب الأحيان خصوصاً في عهد أسرة الكلبيين (948- 1052 م) التي تمتعت باستقلال ذاتي في حكم الجزيرة .
فبعد قمع تمرد عين الخليفة الفاطمي حسن الكلبي أميرا على صقلية (948-964). بعد نجاحه في صد البيزنطيين أسس سلالة الكالبيين في صقلية . استمرت الغارات على جنوب إيطاليا تحت حكم الكلبيين إلى القرن الحادي عشر ، و هزم جيش ألماني في عام 982 بقيادة أوتو الثاني بالقرب من كروتوني في قلورية (كالابريا) . شهدت فترة الامير يوسف الكلبي(990-998) بداية عصر الإنحطاط . و تحت حكم الأخال (1017-1037) احتدم الصراع بين الفصائل داخل الأسرة الحاكمة نفسها بأشكال مختلفة من التحالف مع البيزنطيين و الزيريين . وبحلول عهد الامير حسن السمسم (1040-1053) تجزءت الجزيرة إلى اقطاعيات صغيرة متعددة كانت في حكم الإمارات مستقلة ، لعبت صقلية دورا متميزا كجسر بين افريقيا و أوروبا . و ازدهرت التجارة و الضرائب منخفضة . اتسم نظام الحكم بالتسامح ، و بالرغم من حرية العبادة فقد اعتناق النصارى الاسلام فوجد مئات من المساجد في باليرمو وحدها .
بدأ العرب اصلاح الاراضي الذي أدى إلى زيادة الانتاجية و تشجيع نمو الحيازات الصغيرة إلى عقارات أراضبة كبيرة . و واصل العرب تحسين نظم الري . و قد وصف ابن حوقل باليرمو و هو تاجر من بغداد زار صقلية في 950 . لا تزال حي مسور يسمى Kasr (قصر) وسط باليرمو حتى اليوم ، مع المسجد الجامع في موقع الكاتدرائية الرومانية المتاخرة . و حي الخالصة (Kalsa) الذي يحوي قصر السلطان و حمامات و مسجد و مكاتب حكومية و سجن خاص . و أحصى ابن حوقل 7،000 جزار يتاجرون في 150 محل .
بالاضافة إلى الاندلسيون العرب و العرب الأخرين كان هناك البربر و الافارقة السود و الفرس و اليونانيين و اليهود و السلافيين و اللومبارديون . ازدهر غربى صقلية خاصة مع استقرار البربر في المنطقة أغريجنتو مقرونا مع البدو و العرب المصريين و السوريين في باليرمو .
و لم تنعم صقلية بالهدوء والاستقرار مدة طويلة خصوصاً بعد انقراض دولة الكلبيين (1052)، إذ دبت فيها النزاعات الداخلية مما أدي إلى قيام فترة شبيهة بفترة ملوك الطوائف بالأندلس ومن ثم كان من السهل على أي فاتح أن بغزو الجزيرة من الشمال أو الجنوب.
حكم المسلمين في صقلية انتهى ببطئ بناء بعد دعوة من امراء كاتانيا و سيراكوزا لغزو النورمان . فهجموا على صقلية إبان حكم روجر الأول في عام 1061 ، مفحتتحا ثلاثين عاما من الصراع ضد المسلمين . في عام 1068 هزم روجر و رجاله العرب في ميزيلميري و لكن أهم المعارك كانت حصار باليرمو في 1072 و الهزيمة النهائية لأمير نوتو في عام 1091. عقب غزو النورمان ظلت تأثير العرب مستمرا فخلق ثقافة هجينة في الجزيرة ساهمت كثيرا في تحديد الطابع الحديث لصقلية .
سيطرة العرب على كامل جزيرة صقلية فترة زمنية قصيرة نسبيا ، الا ان التغييرات التي تعرضت لها الجزيرة بعيدة الاثر و طويلة الامد و ايجابية من الناحية الاقتصادية . فأعمالهم في تحسين نظام العمليات الزراعية (مثل الري) و العلوم و التجارة و الفنون . جزء كبير من قاعدة الجزيرة الزراعية القائمة حتى يومنا هذا تتكون من النباتات التي ادخلها المسلمون إليها ، بما في ذلك البرتقال والليمون و الفستق و قصب السكر . بقيت حوالى 300 كلمة من أصل العربية لا تزال موجودة في اللغة الصقلية أغلبها مصطلحات الزراعية . في أواسط القرن الحادي عشر كانت صقلية على وشك دخول الفترة الاكثر ازدهارا في تاريخها كله بينما كان الغزاة من الشمال على وشك إدخال نظم حكم و قانون و دين ، فورثوا اقتصادا مزدهرا يستند على التجارة و العمليات الزراعية كفوؤة.
و استفاد ملوك النورمان في القرن الحادي عشر من منجزات العلماء المسلمين فيها وشجعوهم على مواصلة البحث العلمي ودراسة الظواهر المختلفة فكانت بذلك معبرًا للحضارة الإسلامية إلى أوروبا . لم ينتهى الوجود العربى في صقلية بخروج العرب فهم لم يخرجوا جميعا بل بقي منهم الكثير بتشجيع النورمان - الذين لم يحاولوا اجتثاث العرب كما فعل الإسبان - على البقاء ؛ فبقيت تأثيرات العرب واضحة في الفنون والعمارة. ولا تزال الكثير من تلك الاثار موجودة خاصة في النقوش الموجودة على القصور والكنائس التى ترجع إلى العصر العربى وما بعدة،بل إن سكان صقلية الاصليين يختلفون في ملامحهم عن سائر الإيطاليين ويحتفظون ببعض التقاليد التى ترجع لفترة الوجود العربى كالثأر والإنتماء إلى العائلة . كانت صقلية رافدا مهما لانسياب الحضارة والمؤثرات العربية إلى أوروبا ، و يمكن تمييز الملامح والدماء العربية الواضحة في السكان الأصليين لصقلية حتى اليوم ، بل أن كثيرا من أسماء المدن الصقلية هي في الأصل أسماء عربية مثل مارسالا والتي أصلها مرسى الله أو مرسى على ، و قد دخلت مفردات عربية كثيرة في اللغة الإيطالية عبر اللهجة الصقلية مثل : كلمة Meschino مسكينو والتي تعني المسكين أو الفقير بالعربية .
[عزيزي الزائر يتوجب عليك التسجيل للمشاهدة الرابطللتسجيل اضغط هنا]
: سقوط صقلية الإسلامية
بعد قرنين من فتح المسلمين لصقلية على يد الفقيه
أسد بن الفرات سنة 212 هـ كان كل شيء يؤذن بالأفول .. كانت الأندلس تعيش حالة
ملوك الطوائف الذينتداعوا تداعي البيت المفكك أمام زحف المرابطين بقيادة رجلهم
المؤمن رجل العقيدةوالدولة يوسف بن تاشفين .
وكانت الجزائر وتونس تعانيان من هجمة القبائل العربية الهمجيةالزاحفة تدمر كل شيء
دون تعقل .
وكانت مصر قد ذهبت نضارتها على يد الفاطميين الذين كانوا قد فقدوانضارتهم كذلك ،
بل كانت مصر التي يحكمها الخليفة المستنصر تعاني من مجاعات غريبةلعلها لم تحدث في
تاريخها بالمرة لدرجة أن الناس أكلوا بعضهم بعضا وبيعت لحومالكلاب في الأسواق . كان هذا هو الجو المحيط
بصقلية الأغلبية الإسلامية .. الجو الذييطلق عليه مؤرخونا عبارة "
الحالة الإسلامية في النصف الثاني من القرن الخامسالهجري"!!!
لكن كل هذا كان أقل من أن يقتطع غصن صقلية من شجرة الإسلام إلىاليوم .. لقد
كان ثمة سبب آخر أشد وأقوى . كان هناك الهزيمة الداخلية التي هي الباب الوحيد
التي تدلف منه كلالهزائم الواردة .. كان هناك لصوص المناصب وهواة الزعامات
والمتمسحون فيأمجادهم العائلية .
كانت صقلية قد فقدت أمثال فاتحها العظيم أسد بن الفرات القاضيوالفقيه والقائد
والشهيد الذي استحق عن جدارة بطولة فتح صقلية . وحل جيل جديد تتنازعه التقاليد الوثنية
النورمانية وينظر بإعجاب إلىالجنوب الأوروبي ، وإلى تقاليد العدو الواقف بالباب
.. وعندما حلت الهزيمةالداخلية على هذا النحو .. كان من السهل أن يدخل
روجار بجيوشه ، وأن تتحولصقلية إلى اليوم قلعة صليبية تكيد للإسلام .
كان روجار قائد النورمان المستوطنين بالغرب الفرنسي والإيطالي يترقبفرصة الوثوب
على الجزائر وتونس .. فضلا عن صقلية ، وكما هي العادة في تاريخنالم يستطع
روجار أن يدخل إلى صقلية إلا من خلال أهلها ، من خلال الهزيمة الداخلية..
فمبدأ الجهاد قد وقانا شر الأعداء الخارجيين ، أما حين تتفتت العقيدة وتنحلإرادة
القتال يبدأ العدو في الولوج ممتطيا أحد الأصنام الباحثين عن الملك تحت أيشعار .
وفي معركة من المعارك الداخلية بين لصوص الحكم هزم أحدهم ..ويسمى ابن الثمنة
.. ولم يجد هذا الرجل غضاضة في أن يطلب الوصول إلى الحكم عنطريق الاستعانة
بالنورمان المتحينين للفرصة فذهب إليهم يستعين بهم ويطلعهم علىخفايا الجزيرة ،
ويمدهم بالعون إذا هم حاولوا الاستيلاء عليها .
وبدأ من يومها الغزو النورماني لصقلية .. ولم تكن القوىالإسلامية المفككة
المحيطة بصقلية بقادرة قدرة حقيقية على عمل شيء .. بالرغم منأن تونس قد حاولت
تقديم المساعدة .
وتساقطت كأوراق الشجر في الخريف مدن الإسلام الزاهرة في هذه الجزيرةالتي قدمت
للإسلام والحضارة الإسلامية عديدا من الأبطال في كل المجالات .
سقطت " مسنة " .. وسقطت " بلرم " العاصمة .
" وماذر" .
وبعد جهاد طويل من أحد شباب الإسلام الذين يظهرون كوهجة الشمس قبلالمغيب "
ابن عباد " سقطت سرقوسة ، ثم خرجت ولحقت بها ضريانة فنوطس ، وسجلت سنة 484
هـ 1091 م
السقوط الكبير لصقلية في يد عصابات النورمان..
وكما تمثلت الهزيمة الأولى ـ في بداية الهزيمة ـ .. كما قدمتهاـ في شخص ابن
الثمنة ـ كذلك تمثلت الهزيمة هنا في صورتين :
في صورة ابن حمود حاكم قصريانة إحدى المدن الصقلية التي سقطت وكانهذا
الرجل يزعم النسب إلى العلويين .. لدرجة جعلت أحد المؤرخين الأوروبيين يصفه(
بالعلوي الدنيء الرخيص ) مسلما بقضية علويته ، ولربما كانت صحيحة ، فكثير مندعاة
العلوية كانوا خونة !!
وقد تواطأ الرجل مع روجار لدرجة جلبت عليه سخط المسلمين في الجزيرةكلها.
ولم ينته أمر هذا الخائن لأمته إلا بالنهاية الطبيعية ، إلا أنهحرصا على مزيد من
الجاه لدى روجار أعلن نصرانيته وطلب من روجار أن ينقله إلىإيطاليا ليقضي بقية
حياته هادئا آمنا ، وذهب الخائن ، ومع ذهاب الإسلام من أعماقهوأعماق أمثاله من
المنهارين ذهبت صقلية .. والصورة الثانية .. تقدمها لناصفحات التاريخ في
شكل رسالة بعث بها المسمى الخليفة الفاطمي في مصر إلى روجار تحملتشفيا وتهنئة
بالنصر المسيحي ، وبعد أن يوافق خليفة المسلمين العظيم روجار على كلأوصافه للزعماء
المسلمين في الجزيرة ، تلك التي وردت في رسالته وكيف أنهم جانبواطريق الخبرات
واجترءوا في الطغيان ، واستعملوا الظلم، وتمادوا في الغي . بعد ذلك ينهي رسالته بأن من كانت هذه حاله حقيق
بأن تكون الرحمةنائية عنه ، خليق بأن يأخذه الله من مأمنه أخذة رابية . وهذا الكلام .. صحيح
. بيد أنه لن يغفر للخليفة المنهار فيمصر المتمسح ـ كذبا ـ في شرف النبوة أن
يسقط ركن من أركان دولة الإسلام ـ تابعالحكمه ـ دون أن يحرك ساكنا .. ثم يخرج
علينا بشعارات منمقة لا قيمة لها . ولن يغفر له التاريخ كذلك أنه نفسه كان لعبة
هزيلة في قصره بيدالوزراء العظام، وفي ظل أحط مجاعات عرفتها مصر الإسلامية ، وإنه
بدوره كان حلقة فيسلسلة مصائبنا الكثيرة .
وقد زار ابن جبير الرحالة المسلم ـ صقلية ـ بعد سقوطها ـ فوصف أحوالأهلها تحت
الحكم النصراني ، بما يجعلها قريبة من أحوال أهل الأندلس ، فقد ضربواعليهم إتاوة
يؤدونها في فصلين من العام ، وحالوا بينهم وبين سعة الأرض ، ولا جمعةلهم يؤدونها
بسبب الخطبة المحظورة عليهم ، ويصلون الأعياد بخطبة يدعون فيها للعباس، ولهم بها
قاض وجامع ..
ثم يختم ابن جبير حديثه عن أحوال المسلمين في صقلية بقوله :
" وبالجملة فهم غرباء عن إخوانهم المسلمين تحت ذمة الكفار ، ولاأمن لهم في
أموالهم ولا في حريمهم ولا في أبنائهم .. " .
وكان هذا جزاء ما قدم زعماؤهم الخونة ، وسادتهم الفاطميون المارقون.
والمهم :
سقطت صقلية الإسلامية !!
الوجود الإسلامي في صقلية في عهد
النورمان بين التسامح والاضطهاد
444 – 591هـ / 1052 – 1194م
د. علي محمد الزهراني
الأستاذ المساعد بقسم الحضارة والنظم الإسلامية
كلية الشريعة - بجامعة أم القرى
ملخص البحث
بذل المسلمون محاولات عدة لفتح جزيرة صقلية الواقعة في البحر المتوسط ، واستمرت تلك المحاولات حتى تحقق لها النجاح في بداية القرن الثالث الهجري . ولأهمية موقع الجزيرة الاستراتيجي فقد بُذلت محاولات عدة لاستعادتها حتى سقطت في أيدي النورمان سنة 444هـ / 1052م ، وخرج منها عدد كبير من المسلمين ، واستقروا في البلدان الإسلامية الأخرى ، وبقي فيها عدد آخر لا بأس به . وكان بين من بقي فيها علماء وأدباء وشعراء فضلاً عن بعض العامة . والحالة تلك نجد أن النورمان انتهجوا طريقتين متناقضتين في التعامل مع المسلمين فهـم يتسامحون معهم في الوقت الذي يرون فيه أن المسامحة تحقق لهم مصالحهم . وهذه الطريقة أخذت مظاهر شتى تمثلت في رعاية العلماء والأدباء والشعراء ، واتخاذ الأعوان من المسلمين كما حدث في قصور الحكام النورمان . وفي المقابل انتهج النورمان طريقة أخرى في التعامل مع المسلمين ، من أهم مظاهرها محاولات التنصير ، وتضييق الخناق عليهم في أداء بعض شعائرهم الدينية كمنعهم من صلاة الجمعة مثلاً ، وفرض الجزية عليهم ، واتخاذهم عبيداً يعملون في الأرض .
كما أنه ومن خلال هذا الوجود الإسلامي في جزيرة صقلية حاول النورمان الاستفادة من حضارة وعلوم ومعارف المسلمين ، وقد اتخذ ذلك مظاهر شتى .
وهذه الطريقة وتلك وذلك الوجود والاستفادة منه هو ما بحثته هذه الدراسة وذلك على ضوء المصادر المتخصصة واستقراء معلوماتها .
• • •
مقدمة :
لا يعرف الجيل الصاعد عن صقلية اليوم إلا أنها مركزٌ من مراكز نشاط المجرمين والخارجين عن القانون لكثــرة ما يتردد اسمها من خلال وسائل الإعلام المختلفة المرئية والمسموعة والمقروءة باعتبارها مقراً لما يعرف اليوم في عالم الجريمة باسم " المافيا "
ولا يعرف عنها أولئك شيئاً مما كان للمسلمين فيها من نشاط فكري وعلمي جعلها مركزاً مهما من مراكز الحضارة الإسلامية لمدة تقرب من خمسمائة سنة ، أكثر من نصفها كانت تحت السيادة الإسلامية ، إذ أصبحت بذلك من أهم معابر الحضارة الإسلامية إلى أوربا في عصورها الوسطى المظلمة .
وقد كنت كتبت قبل هذا البحث بحثاً يؤرخ للحياة العلمية في صقلية الإسلامية مدة سيطرة المسلمين عليها والتي استمرت من الفتح في سنة 212هـ / 826م ، إلى بداية استيلاء النورمان عليها سنة 444هـ / 1052م وبالتالي سقوط آخر معاقلها سنة 484هـ / 1091 (1) ، وقد رأيــت هنا ومن خلال هـذا البحث أن أبيــن ما كان عليــه حال المسلمين بعد سقــوط صقلية ، في عهد النورمان الذي استمـر من سنة 444 هـ / 1052م إلى سنة 591هـ / 1194م ، لأن دينا كالدين الإسلامي ، وحضارة كحضارة المسلمين لا يمكن أن تزول من أي بلد وصلت إليه بمجرد استيلاء غير المسلمين عليه ، وذلك لأن هذا الدين بجميع مبادئه وأهدافه وسلوكياته ، وتلك الحضارة الرائعة بجميع خصائصها ومميزاتها، ولّد قناعةً لدى أولئك المستعمرين بالاستفادة من كل ذلك ، مع ملاحظة أن ذلك البقاء لأولئك المسلمين لابد وأن يمر بحالتي التسامح والاضطهاد ، وهـــذا ما أثبتته هذه الدراسة إلى جانب ما أثبتته من استفادة ذلك الغير من حضارة وعلوم ومعارف المسلمين .
وقبل الشروع في الحديث عن الوجود الإسلامي في صقلية خلال العصر النورماني كان لا بد من الحديث بإيجاز عن الفتح الإسلامي لصقلية وسقوطها من خلال هذه المقدمة المختصرة حتى يمكن لنا أن ندرك مدى المعاناة التي لقيها المسلمون أثناء عملية الفتح التي استمرت مدة طويلة من الزمن ، فاقت المدة التي أمضاها المسلمون في عملية فتح الأندلس .
ثم الحديث بعد ذلك عن هوانها على القادة المسلمين في فترة الفوضى والاضطراب وبالتالي سقوطها في أيدي النورمان ، واستغلال أولئك للفرصة المتاحة أمامهم التي كانوا ينتظرونها والقضاء على السيطرة الإسلامية عليها .
وإذا اتضحت تلك الصورة في الأذهان كان الدخول في الحديث عن مظاهر الوجود الإسلامي في صقلية بعد سقوطها أمراً يبدو مهماً يتضح من خلاله تفوق الحضارة الإسلامية إذ أثبتت وجودها رغم عدم استمرارية سيطرة المسلمين على تلك البقاع ، وعلى الرغم من عدم تيسر الأوضاع التي يمكن أن يبدع فيها المسلمون ، اللهم إلا في بعض حالات سنذكرها من خلال هذه الدراسة .
وصقلية الإسلامية ليست إلا نموذجاً من كثير من النماذج الإسلامية التي لم يبق فيها للمسلمين إلا إشارات تدل على أنهم كانوا هنالك .
وتعد صقلية أكبر جزر البحر الأبيض المتوسط الذي يعرف في المصادر القديمة ببحر الروم(2)، إلى الجنوب من إيطاليا ، ولا يفصلها عنها إلا مضيق صغير . وتبعد عن شمال أفريقية بحوالي 165 كيلا ، وهي مثلثة الأضلاع ، وتبلغ مساحتها حوالي ( 25815 ) كم2 (3) .
ومن أهم مدنها : ( بلرم ) والتي كانت تعرف بالمدينة الكبرى ، ومدينة (الخالصة) التي بناها المسلمون بعد الفتح لتكون مقراً للحكم ، ومدينة (مسيني) ، ومدينة (طبرمين) ومدينة ( سرقوسه ) ومدينة ( مازر ) (4).
وجزيرة صقلية تتميز بموقع استراتيجي مهم ، جعل الدول تتسابق على امتلاكها حيث حكمها الرومان والبيزنطيون والمسلمون ، فالنورمان ، ثم أصبحت بعد ذلك ضمن أملاك الإمبراطورية الرومانية المقدسة .
فقد كانت صقلية خاضعة للحكم الروماني مدة طويلة من الزمن ، إلى أن تمكن القوط الشرقيون من الاستيلاء علهيا في سنة 493م ، ثم أعيدت إلى حوزة الدولة الرومانية في عهد جستنيان ( 527 – 565م ) (5).
وقد حاول المسلمون فتحها ، وارتبطت تلك المحاولات بنمو البحرية الإسلامية الذي بدأ في عهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه ، وتحديداً في موقعة ذات الصواري سنة ( 31هـ / 651م ) (6).
وقد استمرت المحاولات الإسلامية لفتحها ما يقرب من قرنين من الزمان ، حيث ورد أول ذكر لغزو صقلية في المصادر الإسلامية في حوادث سنة (32هـ / 652م) (7)
ولم ييأس المسلمون من محاولات الفتح ، فقد ذكرت المصادر ما يقرب من عشرين محاولة لفتح جزيرة صقلية وقعت بين عامي ( 32 – 212هـ / 652 – 827م ) (8).
وأخيراً تمكن الأغالبة في عهد أميرهم زيادة الله الأول (9) الذي حكم بين سنتي(201–223هـ/816–837 م) من فتح جزيرة صقلية فعلياً بواسطة القائد أسد ابن الفرات (10) وذلك في سنة ( 212هـ / 827م )(11) .
واستمر جهاد الأغالبة وحكمهم في صقلية إلى سنة ( 296هـ / 908م ) ، حيث تمكن الفاطميون بواسطة داعيتهم أبي عبد الله الشيعي (12) من هزيمة آخر أمراء الدولة الأغلبية زيادة الله الثالث (13) ، ودخول عاصمتهم مدينة " رقاده " (14) ، حيث أصبحت صقلية تحت السيطرة الفاطمية ، إلا أنهم منحوا الولاة الكلبين (15) حكم صقلية بداية من سنة ( 336هـ / 947م ) ، حيث توارث الكلبيون الحكم بها خلفاً عن سلف(16)، إلى أن بدأت فترة الفوضى واستقلال كل والٍ بما لديه ، وبالتالي التمهيد لسقوطها في أيدي النورمان ، سنة 444هـ وذلك عندما احتدم الخلاف بين حكام صقلية من الأسرة الكلبية ، واستغلالهم للصراع العنصري الموجود بين سكان الجزيرة ، فهذا جعفر بن يوسف حاكم صقلية (388-410هـ / 988-1109م ) يختلف مع أخيه علي بن يوسف . فيستغل الأخير الصراع العنصري الموجود في الجزيرة لمصلحته ، ويستميل العبيد ، والبربر (17) إلى جـانبه ، مما اضطر معه الأمير تاج الدولة جعفر إلى مقاتلتهم ، فقتل منهم خلقاً كثيراً ، وأسر أخاه علي ثم قتله ، بل تعدى الأمر ذلك فأمر بنفي البربر من الجزيرة وقتل العبيد (18) .
أما حاكم صقلية أحمد بن يوسف المعروف " بتأييد الدولة " ( 410-427هـ / 1109 – 1035م ) فقد اتبع سياسة التفرقة بين أهل صقلية ، وأهل أفريقية ، حيث درج على تأليب أحد الفريقين على الآخر والعكس (19) ، ظناً منه أن ذلك يمكنه من السيطرة عليهم ، فكان العكس هو النتيجة .
ذلك أن تلك السياسة جعلت أهل الجزيرة يستنجدون بالمعز بن باديس الزيري(20) (406-453هـ / 1015-1061م ) مما آل إليه حالهم مع حكامهم من الأسرة الكلبية، قائلين له : ( نحب أن نكون في طاعتك وإلا سلمنا الجزيرة للروم ) (21).
واستجاب الزيريون لطلب أهل صقلية ، فدخلها عبد الله بن المعز بن باديس الزبري على رأس جيش كبيــــــر، ، والنتيجة ، قتل أمير صقلية ، ثم بعد ذلك يثور الصـقليون على الأمـير الزيري ويخرجونه من صقلية ، حيث تقاسمها الولاة بعد ذلك (22) .
فهذا القائــد عبد الله بن منكود يستقل بمدينتي ( مازر وطرابنش ) ؛ وعلي بن نعمة المعروف بابن الحواس ينفرد ( بقصريانة وجرجنت ) وغيرهما ، أما ابن الثمنه والذي لقب نفسه ( بالقادر بالله ) فقد سيطر على مدينتي ( سرقوسة وقطانية ) (23)إلا أن الأخير كانت له السيادة والريادة بصفة عامة على جزيرة صقلية (24) .
وتأتي الفرصة المناسبــة لبداية سيطرة النورمــان على صقلية أثر الخلاف الذي حدث بين ابن الثمنة ، وابن الحواس (25) ، حيث هانت البلاد على ابن الثمنة ليستنجد بالنورمان على ابن الحواس سنة ( 444هـ / 1052م ) قائلاً لهم : ( أنا أملككم الجزيرة )(26).
ويستغل النورمان تلك الفرصة ، ويتحرك روجر النورماني من مدينة ( مليطو ) في إيطاليا الجنوبية ، ومعه ابن الثمنه ، ليسيطر النورمان على ما مروا عليه في طريقهم دون مقاومة تذكر (27) .
ويحاول الزيريون مجدداً إنقاذ صقلية ، فيرسلون إليها أسطولاً ضخماً ، مشحوناً بالرجال والعتاد ، فتستقبله الريح في البحر وتغرقه (28) ، لتستمر بذلك الفرصة متاحة للنورمان في الاستيلاء على مدن ومعاقل صقلية ، واحدة تلو الأخرى .
وتسقط جميع مدن صقلية بآخر معاقلها سنة 484هـ / 1091م ، ويملكها روجر النورماني ، ويسكنها الروم والفرنج مع من بقي من المسلمين (29) .
وبذلك سيطر المسيحيون على البحر المتوسط كأكبر نتيجة ترتبت على سقوط جزيرة صقلية ، ولم نعد نرى الوقت الذي وصف فيه ابن خلدون النصارى بأنهم لا يستطيعون أن يطفوا لوحاً من الخشب في هذا البحر (30) .
ويستمر حكم النورمان لصقلية – على خلاف بين المؤرخين – من سنة (444هـ / 1052م ) إلى تولي هنري السادس وزوجته كونستانس عرش صقلية سنة ( 591هـ / 1194م ) ، حيث أصبحت ضمن أملاك الإمبراطورية الرومانية .
مظاهر الوجود الإسلامي في صقلية
في عهد النورمان
يجـدر بنا أن نشير هنا قبل الدخول في الحديث عن تلك المظاهر إلى الحديث عن مجتمع صقلية ، فقد كان يتكون من المسلمين بعناصرهم المختلفة من العرب ، والبربر ، والفرس، ومن النصارى ، واليهود (31) .
وهذا التعدد في الطوائف السكانية ، وما يتبعه من اختلاف في العقائد والمذاهب ، والتوجهات ، والطموحات ، كان لابد معه من تفكير ملي من جانب حكام صقلية الجـدد لمحاولة السيطرة على الجزيرة والخروج بها بعيداً عن الصراعات الدينية والعرقية ، والعنصرية.
وما يهمنا هنا بداية هو حال المسلمين مع أولئك الحكام النورمان ، فقد خرج روجر الأول وهو أول حكام صقلية بعد سيطرة النورمان عليها ، بفكرة وسياسة بقاء المسلمين في صقلية .
وأسباب تلك السياسة لا تغيب عن أذهان المنصفين ، ذلك أن الإسلام بعقيدته ومبادئه وأهدافه وسلوكه … هو دين الحياة بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى ، فهو الدين الذي يدعو إلى التسامح ، وإلى العلم ، والعمل ، والإخلاص والدقة فيهما .
والمسلمون هم الفئة المنتجة البناءة المخلصة في أي مجتمع يعيشون فيه ؛ كما أنهم الأكثرية في المجتمع الصقلي هذا من جانب وفي الجانب الآخـر فإن المسيطر الجديد ( المستعمر ) هم أقليه ، وليست لهم حضارة كحضارة المسلمين في ذلك العصر والتي شملت كل مجالات الحياة .
إذاً التسامح مع المسلمين هو الأفضل ، على الأقل في تلك الفترة الأولى بعد خروجها من أيدي المسلمين ، ولكنه ليس تسامحاً مطلقاً بل اعتراه بعض صنوف الاضطهاد .
وقـد اتخذ ذلك التسامـح والاضطهاد ، مظـاهر شـتى من قبل روجر الاول ( 463- 495هـ / 1071 – 1101م ) الذي وضع ما يمكن أن نسميه بالخطوط العريضة لسياسة النورمان تجاه المسلمين في صقلية .
وتبدو لنا المعلومات بداية فيها نوع من التناقض ، ففي الوقت الذي تشير فيه إلى أنه ترك للمسلمين حريتهم الدينية ، ولم يعترض على إقامة تلك الشعائر ، ولم يعمد إلى القتل والتعذيب (32) ، تذكر أيضاً أن من ضمن الإجراءات التي عملها هي تلك التي عمـد فيها إلى تحويل المسـاجد إلى كنائس ، وتعيين رئيس أساقفة عليها ، وكان يونانياً (33)
إما الإدريسي (34) وهو ممن عاش في البلاط النورماني – مما سنتحدث عنه لاحقاً – فيقول عن روجر الأول ممتدحاً : ( ولما صار أمرها – أي صقلية – إليه واستقر بها سرير ملكه ، نشر العدل في أهلها ، وأقرهم على أديانهم وشرائعهم ، وأمنهم في أنفسهم وأموالهم وأهليهم وذراريهم ، ثم أقام على ذلك مدة حياته إلى أن وافاه الأجل المحتوم ) (35).
ومن أهم ما أقدم على عمله روجر الأول لإثبات حسن نواياه تجاه المسلمين ، أنه سك عملة نقدية ، كتب على أحد وجهي تلك العـملة ( لا إله إلا الله محمد رسول الله )(36). وقد يبدو الهدف من ذلك هو ملاطفة عواطف المسلمين المغلوبين بعبارة هي رمز عزتهم ، وعماد دينهم ، فالإبقاء عليها من خلال العملة يوحي لهم بأن لهم مكانة بين شعوب الجزيرة من الأديان الأخرى ، وبالتالي يجب على الفئات الأخرى أن تحترمهم ، أو على الأقل تكف عن إيذائهم .
وإذا عدنا إلى قول الإدريسي ، وهو ممن عاش في البلاط النورماني ، ففي رأيي أن كثيراً مما قاله لا يخلو من المجاملة لأرباب نعمته إذ أن ما ذكره ليس على الدوام وهو يكتب ذلك بعد انتهاء فترة حكم روجر الأول وأثناء حكم روجر الثاني . وهنا ابن الأثير ، لا يوافق قوله معظم ما قال به الأدريسي ، لأن ابن الأثير يرى أن المسلمين حرموا من كثير من ممتلكاتهم وأموالهم ، وعقاراتهم ، فيقول عن روجر الأول : " وملك روجر جميع الجزيرة وأسكنها الروم والفرنج مع المسلمين ، ولم يترك لأحد من أهلها حماما ، ولا دكاناً، ولا طاحونا " (37) .
وهنا يجب أن لا ننسى أنه بالأمس القريب وأثناء فترة الغزو النورماني على مدن ومعاقل جزيرة صقلية ، كان جيش روجر الأول وبأمر منه ، يضيق الخناق على المسلمين في مدنهم وحصونهم ، حتى أكلوا لحم الميتة ، كما حدث عند حصارهم لمدينتي قصر يانه وجرجنت إذ بلغ شدة الحال بالمسلمين من جراء ذلك الحصار أن : ( ضاق الأمر على أهلها، حتى أكلوا لحم الميتة ، ولم يبق عندهم ما يأكلونه ) (38).
أما عن حالات التسامح التي دعت روجر الأول إلى القيام بها مع المسلمين في البداية فترجع بعض أسبابها إلى انبهاره بحضارة المسلمين كما كان يريد أن يتخذ من صقلية نقطة انطلاق إلى شواطئ أفريقية الشمالية الخاضعة لحكم المسلمين ، وذلك لن يتم إلا بمصادقة المسلمين الموجودين في الجزيرة ، وبالتالي يتحقق له ما يريد ، وعلى الأقل في الناحية الاقتصادية (39) . ولعل ما ذهب إليه روجر الأول هنا هو ما يعرف اليوم في علم السياسـة بتأمين الجبهة الداخلية ، وهي من أهم أسباب الاستقرار أو ضده . وطـرق ذلك متعدده ومن أهمها سياسة التسامح في بعض الحالات ولفترة مؤقتة .
وهنا يجب أن لا يغيب عن البال أن روجر الأول جاء معه إلى صقلية بنظام الإقطاع الذي يطبق في أوربا ، والذي يقضي على حرية المالك الصغير ، ويصنف الناس إلى طبقات أعلاها الطبقة الحاكمة وأدناها رقيق الأرض (40) ، وهذا النظام لم يعهده المسلمون الباقون في صقلية بعد سقوطها ، لأن دين الإسلام له مبادئه وضوابطه الخاصة فيما يتعلق بالملكية والعمل والأجرة وخلاف ذلك .
ولتأكيد ما يريد أن يطبقه روجر في صقلية فقد عقد اجتماعاً في مدينة ( مازر ) سنة 486هـ / 1093م بحضور أصحابه وخاصته ، وسلم كل واحد منهم صحيفة مكتوبة بالعربية واليونانية ، فيها وصف للأرض التي تخصه وبيان بعدد الفلاحين والأرقاء في أملاكه (41) .
وهذه الأراضي التي تم توزيعها على خاصته إنما هي لأناس مسلمين تم الاستيلاء عليها بالقوة أثناء غزو النورمان لصقلية .
ومما يعزز نظرة روجر الأول تجاه المسلمين وأنها غير سليمة على الإطلاق ما عمله في مدينة ( قطانيه ) حين استولى عليها ، فقد جعل أهلها المسلمين أرقاء ، ومنحهم اقطاعاً للأسقف (42) .
وإذا عدنا إلى ابن الأثير وآرائه فيما يتعلق بسقوط صقلية ومعاملة حكامها للمسلمين فإنه يبدي الامتعاض الشديد لما آل إليه حال المسلمين من الاستعانة بالكفار وانعكاسات ذلك على حياة المسلمين في صقلية وخاصة في عهد روجر الأول (43) .
ومن مظاهر معاملة روجر الأول لمسلمي صقلية ، أن معظم الأسرى الذي وقعوا في يده أثناء غزو صقلية ، قد أرسلوا إلى إيطاليا وبيعوا عبيداً هناك (44) .
وهناك وثيقة مكتوبة بالعربية ، واليونانية ، مؤرخة بسنة 488هـ / 1095م تشير إلى ذكر أسماء ثلاثين عبداً مسلماً تابعين لكنيسة قطانية (45).
أما ما يعرف في صقلية باسم " رجال الجرائد " فهم أولئك المسلمون الكادحون في الأرض ، والذين يشبه وضعهم وضع الرقيق ، ويرثه الأبناء عن الآباء ، وكان هذا النوع من الإسترقاق موجوداً في عهد روجر الأول ، وقد ضمت تلك القوائم أسماء أعلام مسلمين مثل : محمد ، وعلي ، وعبد الله ، كما ضمت أسماء أعلام يونانية ولاتينية (46) .
كما دفع المسلمون الجزية لروجر الأول إلى جانب اليونان ، حيث نقل احسان عباس ذلك عن أماري في تاريخ المسلمين في صقلية إذ يقول : " وليس في صقلية من يدفع الجزية السنوية إلا المسلمون واليونان ، وهم وحدهم الذين يلحقهم اسم الأرقاء أي رجال الجرائد " (47) .
ورجال الجرائد هؤلاء لم يكونوا يتمتعون بالحرية الشخصية بل مطلوب منهم تأدية الخدمة العسكرية متى ما طلب منهم ذلك ، كما كانوا يخضعون لنظام السخرة في العمل(48) .
وفي مقابل رجال الجرائد ، كان هناك الأفاضل ، وهم الأحرار من المسلمين يحق لهم امتلاك الأراضي مع حرية التصرف بممتلكاتهم ، " ومن بينهم موظفون مدنيون يختصـون بشئون الهبات والـوصـايا والبيع والعـقود … وكانوا يساعدون القضاة والموثقين ، كما كانوا في بعض الأحيان يتولون التحكيم بين الأطراف المتخاصمة " (49) .
وفي عهد روجر الثاني ( 494 – 549 هـ / 1101 – 1154م ) تتخذ سياسة التعامل مع المسلمين وضعاً أفضل مما كانت عليه في عهد روجر الأول ، وذلك لشغف روجر الثاني بمدنية المسلمين وعلومهم وفنونهم وتراثهم فقـد كان من أشد الحكام النورمان تعلقاً بالمسلمين وتراثهم ، وفي ذلك يقول ابن الأثير عنه (50) :
( سلك طريق المسلمين من الجنائب (51) ، والحجاب (52) ، والسلاحية (53) والجاندارية (54) ، وغير ذلك وخالف عادة الفرنج فإنهم لا يعرفون شيئاً منه ) .
ولك أن تتصور حاكماً غير مسلم جنائبه وحجابه والمسؤلون عن سلاحه وملابسه كلهم من المسلمين ، إن ذلك أمر له دلالته ، ولو لم نخرج منه إلا بما يدلنا على عدل الإسلام وسماحته وعالمية مبادئه ونزعاته لكفى .
وتـزداد العلاقة الحسنة بين المسلمين وحاكم الجزيرة روجر الثاني النورماني ، فيسمح بإنشاء ديوان المظالم ترفـع إليه شكوى المظلومين ، فيطلع على تلك الشكاوي ، وينصف المسلمين ولو كان المخطئ ولده ، ويرى إبن الأثير أن ذلك في غاية الكرم إذ يقول : ( وجعل له ديوان للمظالم ترفع إليه شكوى المظلومين فينصفهم ولو من ولده وأكرم المسلمين ، وفر بهم ومنع عنهم الفرنج ) (55)فكانت نتيجة ذلك التعامل مع المسلمين ، أن المسلمـين ( أحبوا ) (56)روجر النورماني .
ومن مظاهر العلاقة الحسنة بين المسلمين والنورمان في عهد روجر الثاني ، أن الأساطيل الحربية في البحر كانـت مشحونة بالمسلمين والفرنج على حد السواء (57) .
ولعل السبب الذي جعل روجر ينهج هذا النهج في سياسته العسكرية ، هو الاستفادة من النظام المتقن عند المسلمين فيما يتعلق بالجندية ، إضافة إلى تفاني المسلمين وإخلاصهم ودقتهم في الأعمال الموكلة إليهم .
ولم يقتصر روجر على الاستفادة من المسلمين في الأساطيل الحربية البحرية ، وإنما عمد إلى اتخاذ المشاة والرماة منهم ، وفرسان الخيول في الحروب ، وخاصة في حروبه في إيطاليا (58) .
كما نجد أن التأثيرات الإسلامية بلغت حداً كبيراً ، لدى النورمان في عـهد روجر الثاني ، إذ تـأثر بألـقاب الخلـفاء والسـلاطين المسلمين ، فلقب نفسه بـ ( المعتز بالله )(59). ونتيجة لذلك ولتلك الرعاية التي حظي بها المسلمون من روجر الثاني ، فإنه أتهم من بعض معاصريه بأنه أعتنق الإسلام (60) .
بل نجد أن الأمر زاد على ذلك فضرب نقوداً ذهبية يتداولها الناس ، اتبع فيها الصيغة الإسلامية في الوزن والطراز ورسم فيها اسمه وألقابه وشارته الخاصة .
فقد كتب على دائرة الوجه الأول : ( الحمد لله حق حمده وكما هو أهله ومستحقه ) . وفي دائرة القفا : ( ضرب بأمر الملك المعظم رجار المعتز بالله بمدينة المهدية سنة ثلث وأربعين وخمسمائة ) . وكتب في وسط الوجه : ( المعتز بالله ) . وفي وسط القفا : ( الملك روجار ) (61).
وضرب مثل هذه الدنانير بمدينة المهدية في شمال إفريقيا يدل على رغبة ملوك صقلية النورمان في إتباع سياسة اللين والتسامح التـي ترمي في الواقع إلى تهدئة خواطر سكان البلاد التونسية واستمالتهم إلى قبول الاستيلاء الإفرنجي (62) .
كما أستخدم روجر وأتباعه المظلة ، التي اختص بها بنو عبيد الله ، وهي شبه درقه في رأس رمح ، محكمة الصنعة ، يمسكها فارس من الفرسان ، يعرف بها ، فيقال له : صاحب المظلة ، فيحاذي بها الملك من حيث كانت الشمس ليقيه حرها (63) .
شخصيات علمية وأدبية في بلاط النورمان :
يعد الأدريسي من أعظم الشخصيات العلمية المسلمة التي مثلت الوجود الإسلامي في صقلية بعد سقوطها ، وذلك لشهرته الجغرافية ، فهو أعظم الجغرافيين المسلمين في العصور الوسطى .
واحتضن بلاط روجر الثاني الشريف الأدريسي . والمصادر لم تمدنا بمعلومات عن كيفية وصـوله إلى بلاط روجر وكل ما أفادتنا به أنه استدعاه ليصنع له صورة الأرض ، ويؤلف له كتاباً في شرحها .
ولا نعلم كيف سمع به روجر ، فإن الإدريسي لم يشتهر بالجغرافية قبل أن يستدعيه روجر ، فهو لم يؤلف فيها قبل ذلك كتاباً ، ولا سمع أحد في بلاد المسلمين نفسها أنه متضلع فيها ، وكل الذي نعرفه من خلال المصادر أنه رحل إلى الشرق ، وعاد إلى المغرب ، ودخل الأندلس ودرس في قرطبة ، ثم ظهر في صقلية لدى حاكمها روجر الثاني النورماني (64) .
ولعل المخرج من هذا أن روجر قد عرف الأدريسي معرفة شخصية من خلال البيت العربي المسلم الذي يرجع إلى الأدارسة العلويين ، والمقيم في صقلية ؛ وهذا البيت يعرف أفراده بالحموديين ، وهم من نفس بيت بني حمود الذي ينتسب إليه الشريف الادريسي(65) .
والحموديون هم الذين كان لهم سلطان كبير على بعض مدن صقلية مثل ( جرجنت ) و ( قصريانه ) ؛ وهم أيضاً الذين قاوموا النورمان في اللحظات الأخيرة قبل استيلائهم على جزيرة صقلية (66) .
وقد اهتم روجر الثاني بالشريف الإدريسي اهتماماً كبيراً ، فأكرم نزله ، وبالغ في تعظيمه ، ورغبة في المقام عند قائلاً له : ( أنت من بيت الخلافة ، ومتى كنت عندي أمنت على نفسك ، ومتى كنت عند المسلمين عمل ملوكهم على قتلك ) (67).
وقد أجابه الادريسي إلى ذلك ، ( ورتب له كفاية لا تكون إلا للملوك ) (68)بل تعدى الأمر ذلك فيجلس الادريسي مكان روجر ، حيث يتنـحى عنه الأخير له ( فيأتي الادريسي إلى روجر راكباً بغلة ، فإذا صار عنده تنحى له عن مجلسه ) (69).
وباستقرار الادريسي في بلاط روجر يبدأ في تحقيق رغباته ، فيصنع له خريطة كروية للأرض من الفضة .
وتذكر المصادر ، أن روجر الثاني النورماني كان قد أعطى للادريسي وزن أربع مائة ألف درهم من الفضة ليضـع له دوائر فلكية ؛ فلما أتم صنعها الادريسي أعجب بها روجر . ولما كان صنعها لم يأخذ إلا ثلث تلك الفضة أو أكثر بقليل ، فقد منح روجر الباقي كله للادريسي ، بل أضاف إلى ذلك حمولة مركب جاء من برشلونة ببضائع ملكــية (70) .
وتلك الخريطة الضخمة الكروية للأرض التي صنعها الادريسي ، هي ما حدت بروجر الثاني ، أن يستدعى الصناع المهرة لينقشوا عليها صور الأقاليم السبعة ببلادها وأقطارها ، وريفها ، وخلجانها ، وبحارها ، ومجاري مياهها ومواقـع أنهارها ، وعامرها ، وغامرها ، وما بين كل بلد وبلد من الطرقات المطروقة ، والأميال المحدودة والمسافات المشهودة ، والمراسي المشهورة …. .(71)
أما خير مثال للوجود الثقافي الإسلامي في عهد روجر الثاني ، فهو ذلك العمل الضخم، الذي قام به الادريسي بتأليف كتابه ( نزهة المشتاق في اختراق الآفاق ) .
والكتاب إلى جانب أنه تحقيق لإحدى رغبات روجر الثاني ، فهو نتيجة من نتائج تلك الخريطة الضخمة الكروية للأرض التي صنعها الادريسي كما نص على ذلك الادريسي في مقدمته إذ أنه ( كتاب مطابق لما في أشكالها وصورها ويزيد عليها بوصف أحوال البلاد والأرضين في خلقها وبقاعها ، وأماكنها ، وصورها ، وبحارها ، وجبالها ومسافاتها ومزروعاتها وغلاتها ، وأجناس بنائها وخواصها ، والاستعمالات التي تستعمل بها ، والصناعات التي تنفق بها والتجارات التي تجلب إليها …. ) (72).
وبتألف الأدريسي لكتابه ( نزهة المشتاق ) تتحقق رغبة روجر النورماني منه ، وهي ما أشار إليها الادريسي من أنه كان يريد معرفة حقيقة البلاد التي تحت سيطرته وحدودها وكل ما يتعلق بها إضافة إلى معرفة غيرها من البلدان والأقطار ، إذ يقول : (لما اتسعت أعمال مملكته ، وتزايدت همم دولته ، وأطاعته البلاد الرومية … أحب أن يعرف كيفيات بلاده حقيقة ، ويقتلها يقينا وخبرة ، ويعلم حدودها ومسالكها براً وبحراً … مع معرفة غيرها من البلاد والأقطار في الأقاليم السبعة …. ) (73).
وقد مجد الادريسي في مقدمته ، روجر الثاني النورمندي ، ووصفه بأوصاف ولقبه بألقاب لا تكون إلا لخلفاء الإسلام ، وقد ظهرت فيها المبالغة واضحة جلية ، ومن ذلك قوله : ( فإن أقل ما عني به الناظر ، وأشعل الأفكار والخواطر ، ما سبق إليه الملك المعظم رجار المعتز بالله ، المقتدر بقدرته ، ملك صقلية … الناصر للملة النصرانية ، إذ هو خير من ملك الروم بسطاً وقبضاً …. ) (74). وقوله : ( فمن بعض معارفه السنيه ، ونزعاته الشريفة العلوية أنه لما أتسعت أعمال مملكته … ) (75).
وكتاب ( نزهة المشتاق ) الذي جعلناه خير مثال للوجود الثقافي الإسلامي في صقلية في عهد روجر الثاني ، هو بحق أفضل مؤلف جغرافي تلتقي فيه الجغرافيا القديمة بالجغرافيا الحديثة ، فمعلومات الإدريسي فيه دقيقة جداً لدرجة تدعوا إلى الإعجاب ، ولذلك لم يكن غريباً ، أن يطلق عليه اسم ( استرابون العرب ) (76).
كما أن هذا الكتاب القيّم ظل ولعدة قرون هو المصدر الأساسي للكثير من المعلومات الجغرافية ، وذلك لأنه تضمن وصفاً لمناطق كان هو الرائد فيها بين كتب الجغرافيين المسلمين ، وعليه اعتمد اللاحقون فيما كتبوا .
وهو أعظم موسوعة جغرافية خرجت من صقلية في القرون الوسطى ، وأوفى كتاب جغرافي تركه لنا المسلمون لاشتماله على ما وصل إليه علم الأقدمين ، إضافة إلى ما أطلع عليه الادريسي بنفسه ، أو ما وصل إليه من دراسات ومشاهدات وخبرات ، وما رواه السياح (77) .
جاء في دائرة المعارف الفرنسية عن كتاب الادريسي أنه : ( أو فى كتاب جغرافي تركه لنا العرب ، وأن ما يحتويه من تحديد المسافات والوصف الدقيق ، يجعله أعظم وثيقة علمية جغرافية في القرون الوسطى ) (78).
يقول روم لاندو : ( إن ما يعتقده الغربيون اليوم ، أن ما يتعلق بكروية الأرض ، وبعض الأمور الجغرافية الأخرى كاكتشاف منابع النيل ، هو من اكتشاف الغرب ، فذلك ليس صحيح ، فقد سبقهم إلى ذلك الادريسي في العصور الوسطـى ) (79).
ونستمر في ذكر شهـادات الغرب عـن كتاب الادريسي حيث يقول سيديو : ( على مدى ثلاثمائة وخمسين عاماً ظل رساموا الخرائط الأوربيون لا يفعلون شيئاً سوى إعادة نسخ هذا الكتاب مع بعض التغييرات الطفيفة ) (80).
والغرب لم يعرف الجغرافيا المؤسسة على المراقبة والتجربة ، فالأرض عندهم ترسم على أنها قطعة من الأرض يحيط بها بحر عالمي ، وفي وسطها تقع الجنة ، كما تمليها عليهم خرائط الأديرة ، إلى أن خرج معلم الغرب من قصور ملوك صقلية ، فأصبح نموذجاً يهتدي به (81) .
ولولا الخبرات الملاحية التي ورثتها الغرب عن العرب ، ومفهوم كروية الأرض ، لما استطاع كولمبس المخاطرة في حوض الأطلنطي ، أو خطر له مجرد تصور فكرة هذه الرحلة (82) .
ونحن عندما نذكر تلك المقولات عن كتاب الادريسي فإننا نؤكد أن ذلك كان عملاً ضخماً من ثمار الوجود الإسلامي في صقلية في العهد النورماني ، ونتيجة من نتائج تبني البلاط النورماني للعلماء المسلمين ، وإكرامهم وتمكينهم من إظهار علومهم ومعارفهم .
ونختم الحديث عن الادريسي بالإشارة إلى أنه لم يكن جغرافيا فحسب ، بل ألف وهو في ظل الحكم النورماني كتاباً في النبات والأعشاب ، سماه ، ( جامع الصفات لأشتات النبات ) (83)، وهو كتاب درس فيه كثيراً من النبات