[size=18]السلام عليكم ورحمة ألله وبركاته
قصة الخلافة العثمانية
تاريخ الإضافة:17-7-2008ظهور العثمانيين
(699 – 1342هـ= 1300 – 1924م)
تقف الدولة العثمانية وسط تاريخ البشرية شامخةً؛ إذ حملت لواء الإسلام طوال ما يزيد على ستة قرون، وفتحت به أرجاء أوروبا وآسيا، وأقامت للإسلام دولة عظيمة، ظلَّت أوروبا الصليبية تخشاها وترهبها قرونًا عِدَّة، وظلَّت أوروبا كذلك تُعِدُّ العُدَّة للقضاء عليها، وتتحين الفرصة تلو الفرصة، لكن الدولة العثمانية وقادتها كانوا يكيلون لهم الضربات تلو الضربات حتى إذا أخلد العثمانيون إلى الأرض، وتخلَّوا عن الحكم الإسلامي الصحيح، والأخذ بأسباب القوة؛ انقضت عليهم أوروبا الصليبية فمزقتها، وأشاعت الماسونية بين شبابها وقادتها، حتى سقطت الخلافة التركية، وأُلغِيَت على يد مصطفى كمال أتاتورك.
ظهور العثمانيين
تعودُ نشأة العثمانيين إلى قبيلة من قبائل "الغز" التركية هي قبيلة "قابي"، وقد خرجت هذه القبيلة من أواسط آسيا متجهة إلى الغرب تحت قيادة أرطغرل، ووقفت هذه القبيلة إلى جانب السلطانعلاء الدين الأول، سلطان دولة الروم السلاجقة، إذ انضمت إلى جيشه ضد جيش أعدائه؛ مما أدَّى إلى انتصاره (630 هـ/ 1232م)، فما كان منه إلا أن أعطى تلك القبيلة التركية منطقة تابعة له في شمال غرب الأناضول يُطلق عليها "سكود" على الحدود البيزنطية السلجوقية، مكافأة لها على هذا الصنيع، وحصل رئيس القبيلة (أرطغرل) على لقب "محافظ الحدود".
ولكن "أرطغرل" لم يقنع بمهمة المحافظة على الحدود، بل شرع يهاجم باسم السلطان علاء الأول ممتلكات الدولة البيزنطية في الأناضول، وضم إلى المدينة التي يحكمها مدينة "أسكي شهر"، ولما مات "أرطغرل" عام (687هـ/1288م) خلفه في حكم الإمارة ابنه "عثمان" الذي سميت الدولة باسمه[1].
* نشأة عثمان بن أرطغرل
وُلِدَ عثمان بن أرطغرل عام (656 هـ/ 1258م)، وهو العام الذي هجم فيه التتار على العالم الإسلامي، وقد تولَّى الإمارة بعد وفاة والده "أرطغرل"، وص@ددً
* نشأة عثمان بن أرطغرل
وُلِدَ عثمان بن أرطغرل عام (656 هـ/ 1258م)، وهو العام الذي هجم فيه التتار على العالم الإسلامي، وقد تولَّى الإمارة بعد وفاة والده "أرطغرل"، وصحب السلطان السلجوقي علاء الدين، وساعده في فتح مدن منيعة، وقلاع حصينة، ولما قُتِل السلطان السلجوقي، وسقطت دولته على أيدي التتار، التفَّ الناس حول "عثمان"، وبايعوه حاكمًا عليهم، وذلك عام (699 هـ/ 1300م)، وقد حكم بين الناس بالعدل، وحقَّق انتصارات متتالية على البيزنطيين، وأصبحت الدولة العثمانية في عهده مستقلة استقلالاً تامًّا.
وكانت حياته جهادًا ودعوةً في سبيل الله، وكان علماء الدين يحيطون به، ويشيرون عليه، ولقد حفظ لنا التاريخ وصية عثمان لابنه "أورخان" وهو على فراش الموت، وكانت تلك الوصية فيها دلالة حضارية، ومنهجية شرعية سارت عليها الدولة العثمانية فيما بعد[2]؛ إذ فيها حثٌّ على تقريب أهل الشريعة من العلماء المخلصين، والعدل التام بين الرعية، وعدم الغرور بالجاه أو السلطان، والحرص على رضا الله، والحثِّ على الجهاد لرفع راية الإسلام، وأيضًا الزهد في الدنيا، والاستعداد للقاء الله تعالى[3].
وكانت تلك الوصايا الرائعة دستورًا سار عليه العثمانيون في سياستهم في استكمال التأسيس والبناء للدولة العثمانية، ثم الانتشار والتوسع.
[1] إسماعيل أحمد ياغي: الدولة العثمانية في التاريخ الإسلامي الحديث ص10.
[2] علي الصلابي: الدولة العثمانية ص42، 43.
[3] انظر علي الصلابي: الدولة العثمانية ص43، 44.
عصر القوة في الدولة العثمانية
(699 - 974هـ/ 1300 - 1566م)
نستطيع أن نسمِّي عهد "أرطغرل" وابنه "عثمان" عصر ظهور وبداية للدولة العثمانية، على أن وَضْعَ الأسس لهذا البنيان الشاهق، الذي امتدَّ زمانًا ومكانًا، كان في عهد السلطان "أورخان غازي بن عثمان" والذي استمرَّ عهده خمسًا وثلاثين سنة (726 – 762هـ) استطاع خلالها وبمساعدة خيرة القادة والأعوان أن يضع القوانين ويسنَّ الأنظمةَ التي سارت عليها الدولة بعد ذلك، كما قام بتقوية الجيش وترتيبه وإعادة بنائه، وجعله دائمًا وليس استثنائيًّا أو وقت الحرب فحسب، كما كان قبل ذلك، وقد كانت النشأة وما تلاها لمدة ثلاثة قرون تمثل عصر القوة في الدولة العثمانية، ويمتد عصر القوة من هذا السلطان حتى نهاية حكم سليمان القانوني سنة (974هـ/1566م).
وقد امتاز هذا العصر بإنجازات رائعة حققها العثمانيون، ومن أهم هذه الإنجازات التوسع في الفتوحات الإسلامية ورفع راية الجهاد مرة أخرى، وتنظيم الدولة وتقويتها والانتقال بها من مرحلة الدولة إلى مرحلة الخلافة، وقد ساعد على هذا مجموعة من العوامل التي بدونها لم يكن ليتحقق شيء من هذا كله، وهذه العوامل هي:
أولاً: قوة الإيمان:
من السمات المميزة لمؤسسي الدولة العثمانية وولاتها في عهد قوتها، قوة الإيمان بالله تعالى، والحرص على طاعته، وتنفيذ أوامره، ويظهر هذا الأمر واضحًا جليًّا في سلوكهم وتصرفاتهم، بل ويوصون به أبناءهم وشعوبهم، فهذا "عثمان بن أرطغرل" المؤسس للدولة يقول في وصيته الشهيرة لابنه: "غايتنا هي إرضاء الله رب العالمين". وفي موضع آخر من الوصية: "إياك أن تفعل أمرًا لا يُرضِي الله U". ويقول: "واعلم يا بُني أنَّ طريقنا الوحيد هو طريق الله"[1].
وهذا السلطان مراد الأول (761 - 791هـ/1360 - 1389م) يقول في دعائه قبل معركة "قوصوه" مناجيًا ربه سائلاً إياه الشهادة في سبيله – وقد نالها –: "يا إلهي، إنني أقسم بعزتك وجلالك أنني لا أبتغي من جهادي هذه الدنيا الفانية، ولكنني أبتغي رضاك، ولا شيء غير رضاك يا إلهي، إنني أقسم بعزتك وجلالك أنني في سبيلك فزدني تشريفًا بالموت في سبيلك"[2].
وهذا مراد الثاني (824 - 855هـ/ 1421- 1451م) كان معروفًا لدى جميع رعيته بالتقوى، والعدالة والشفقة، ومن أقواله: "تعالوا نذكر الله؛ لأننا لسنا بدائمين في الدنيا". وقال عنه يوسف آصاف: "كان تقيًّا صالحًا وبطلاً صنديدًا محبًّا للخير، ميَّالاً للرأفة والإحسان"[3].
أما ابنه محمد الملقب بالفاتح، فقد كان من الإيمان بمكان، ولقد أسهمت في تربيته تلك البيئة الإيمانية التي وفَّرها له والده السلطان مراد الثاني، ومن ثَمَّ نشأ على حب الإسلام، والعمل بالقرآن وسنة النبي r، وقد اتصف بالتُّقى والورع، وممن أشرف على تلك التربية الإيمانية للفاتح العالم الرباني أحمد بن إسماعيل الكوراني والشيخ "آق شمس الدين"، وهما ممن شُهد لهم بالفضيلة التامَّة.
وهذه التربية الإيمانية كانت عاملاً أساسيًّا من عوامل فتح القسطنطينية، فقد أصَّل الشيخ "آق شمس الدين"[4]r عن فتح القسطنطينية "لَتُفْتَحَنَّ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ، وَلَنِعْمَ الأَمِيرُ أَمِيرُهَا، وَلَنِعْمَ الْجَيْشُ ذَلِكَ الْجَيْشُr، وقد رافق الشيخ "آق شمس الدين" السلطان "الفاتح" في أرض المعركة، وكان معه كالوقود الإيماني الذي يغذي السلطان والجيش حتى تحقق وعد الله، وتم فتح المدينة."[5]. وكان هذا قوة إيمانية دفعت هذا الجيش المؤمن لتحقيق النصر ونيل هذه الصفة التي وصفهم بها الرسول في تلميذه السلطان محمد الفاتح أنه المعني بحديث رسول الله
ويظهر كذلك إيمان "الفاتح" وحرصه على رعيته، وتحمُّله للمسئولية، من خلال تلك الوصية الرائعة التي أوصى بها ولده، والسلطان من بعده (بايزيد الثاني)، ومما جاء في هذه الوصية قوله: "قدِّم الاهتمام بأمر الدين على كل شيء، ولا تفتر في المواظبة عليه". وقوله أيضًا: "وإياك أن تميل إلى أي عمل يخالف أحكام الشريعة؛ فإن الدين غايتنا، والهداية منهجنا". وأيضًا أوصاه بقوله: "واعمل على تعزيز هذا الدين وتوقير أهله"[6].
وإذا نظرنا إلى السلطان بايزيد الثاني (856 - 918هـ/ 1452 - 1512م) وجدنا من صفاته أنه كان ورعًا تقيًّا، يقضي العشر الأخيرة من شهر رمضان في العبادة والذكر والطاعة، وكان يتصف بعمق الإحساس بعظمة الله تعالى، وله أشعار في الحكمة، توصي بالاستيقاظ من نوم الغفلة، والنظر في جمال الطبيعة التي أبدعها الله U، وكلماته الرائعة تعكس ما فيه من قربٍ إلى الله تعالى، وإيمان عميق به؛ من هذه الأشعار:
استيقظ من نوم الغفلة وانظر إلى الزينة في الأشجار
انظر إلى قدرة الله الحق .. انظر إلى رونق الأزهـار
وافتح عينيك لتشـاهد حياة الأرض بعد الممـات[7]
ومما أُثِر عنه أيضًا أنه كان يجمع في كل منزل حلَّ فيه من غزواته ما على ثيابه من الغبار ويحفظه، ولما دنا أجله، أمر بذلك الغبار فضُرِب منه لبنة صغيرة، وأمر أن تُوضع معه في القبر تحت خده الأيمن[8]U؛ وهذا مما يدل على عمق إيمانه، وقوة يقينه بالأجر والثواب من الله تعالى.؛ ليتشفَّع بها إلى الله
إن هذه السمة (قوة الإيمان) والتي تكاد تنطبق على أكثر ولاة الدولة العثمانية في عهد قوتها، كانت سببًا رئيسيًّا في علو شأن هذه الدولة، وعظمة مكانتها، فإن الإيمان بالله تعالى طاقة عظيمة تدفع إلى الرقي والتقدُّم في كافة مجالات الحياة، ومما لا شك فيه أن الشعوب الإسلامية في تلك الآونة كانت قوية الإيمان بالله تعالى، عظيمة التعلُّق به؛ وذلك لاهتمام الولاة بهذا الأمر، ولأن استقامة الحاكم سبب أساسي في استقامة المحكومين.
ثانيًا: الاهتمام بالجهاد وفتح البلدان:
إذا نظرنا إلى تأسيس الدولة العثمانية وجدنا أنها قد نشأت نشأة جهادية، بل إن حِرْص مؤسسي هذه الدولة على الجهاد هو أحد الأسباب الرئيسية لنشأتها، فلا ننسى وقوفهم بجانب سلطان السلاجقة المسلم ضد أعدائه، مما كان سببًا في انتصاره، وحينها منحهم أرضًا، كانت تلك الأرض هي بؤرة المملكة الشاسعة التي امتدت شرقًا وغربًا، وشمالاً وجنوبًا.
وقد ساعد هذا المكان الذي نشأت فيه الدولة العثمانية على تَبَنِّي سياسة الجهاد في سبيل الله، فقد كانت في الشمال الغربي للأناضول، على حافَّة العالم المسيحي، وعلى حافة العالم الإسلامي؛ مما جعلها مقدمة الجهات التي يطمع العالم المسيحي في احتلالها عند الحرب مع المسلمين، وقد استطاع الأمير عثمان أن يحرز انتصاراتٍ عسكريةً على البيزنطيين، وكانت التحرُّكات الحربية التي قام بها العثمانيون في هذه المرحلة الأولى من تاريخهم نتاج عدة عوامل أهمها الروح الدينية الجياشة، والطبيعة العسكرية الصارمة، والموقع الجغرافي للإمارة العثمانية، ثم الأوضاع السياسية في المنطقة المحيطة بالأتراك العثمانيين[9].
ومنذ بداية تأسيس الدولة العثمانية أُطلق على زعيمها لقب الغازي – أي المجاهد في سبيل الله – وظل هذا اللقب الرفيع يتقدم كل الألقاب والنعوت بالنسبة للسلاطين العظماء، وكانت غاية الدولة العثمانية (الدفاع عن الإسلام ورفع رايته على الأنام)[10].
لقد كان اهتمام السلاطين العثمانيين بالجهاد أمرًا واضحًا للغاية، فقد كانت حياتهم كلها جهادًا في سبيل الله، وتوسيعًا لرقعة الدولة الإسلامية، وقد بدأت هذه الدولة بداية حقيقية بهذا الرجل العظيم "عثمان بن أرطغرل"، والذي ورث أباه في صفة الجهاد هذه، وقد اتَّسم بوضوح الهدف والغاية، فلم تكن فتوحاته من أجل مصالح اقتصادية أو عسكرية، أو غير ذلك، بل كانت فرصة لتبليغ دعوة الله ونشر دينه، ولذلك وصفه المؤرخ أحمد رفيق في موسوعته "التاريخ العام الكبير" بأنه كان متدينًا للغاية، وكان يعلم أن نشر الإسلام وتعليمه واجب مقدَّس، وكان مالكًا لفكر سياسي واسع متين، ولم يؤسس "عثمان" دولته حبًّا في السلطة، وإنما حبًّا في نشر الإسلام.
ويقول "مصر أوغلو": لقد كان "عثمان بن أرطغرل" يؤمن إيمانًا عميقًا بأن وظيفته الوحيدة في الحياة هي الجهاد لإعلاء كلمة الله، وقد كان مندفعًا بكل حواسه وقواه نحو تحقيق هذا الهدف[11].
وقد ترك عثمان الأول الدول العثمانية ومساحتها تبلغ 16000كم2، واستطاع أن يجد لدولته الناشئة منفذًا على بحر مرمرة، واستطاع بجيشه أن يهدد أهم مدينتين بيزنطيتين في ذلك الزمان وهي أزنيق وبورصة[12].
أمّا "أورخان بن عثمان" فقد كان حب الجهاد لا يفارقه على الإطلاق، وقد حاول تحقيق بشرى رسول الله r بفتح القسطنطينية، واتخذ في ذلك خطوات عملية، وذلك من خلال وضع خطة إستراتيجية تستهدف محاصرة العاصمة البيزنطية من الغرب والشرق في آنٍ واحد، وأرسل ابنه سليمان لعبور مضيق الدردنيل والاستيلاء على بعض المواقع في الناحية الغربية، وقد استفاد من جاء بعده بهذه الإنجازات في فتح القسطنطينية[13].
تأسيس الجيش العثماني الإسلامي
كان من أهم أعمال "أورخان" تأسيسه للجيش الإسلامي، وقد حرص على إدخال نظام جديد للجيش وتطويره وتحديثه حتى يؤدي دوره على أحس وجه؛ فقام بتقسيم الجيش إلى وحدات، كل وحدة تتكون من عشرة أشخاص، أو مائة، أو ألف، وخَصَّصَ خُمُسَ الغنائم للإنفاق منها على الجيش، وجعله جيشًا دائمًا وليس استثنائيًّا، فقد كان قبلُ لا يجتمع إلا وقت الحرب، كما أنشأ كذلك مراكز خاصة يتم فيها تدريب الجيش والارتقاء بالجنود، وتعليمهم مهارات القتال[14].
لقد احتلَّ الجيش مكانة بالغة الأهمية في حياة الدولة العثمانية، فهو أداة للحكم والحرب معًا، إذ كانت الحكومة العثمانية جيشًا قبل أي شيء آخر، وكان كبار موظفي الدولة هم في نفس الوقت قادة الجيش، ومن هنا جاء القول الشائع بأن الحكومة العثمانية والجيش العثماني وجهان لعملة واحدة[15].
لقد استطاع "أورخان" أن يؤسس جيشًا إسلاميًّا نظاميًّا دائم الاستعداد للجهاد، وقد كان هذا الجيش يتكون من فرسان عشيرته، ومن مجاهدي النفير الذين كانوا يسارعون لإجابة داعي الجهاد، ومن أمراء الروم وعساكرهم الذين دخل الإسلام في قلوبهم، وحسن إسلامهم[16].
وقد عمل "أورخان" كذلك على زيادة عدد جيشه الجديد بعد أن ازدادت تبعات الجهاد ومناجزة البيزنطيين، فاختار عددًا من شباب الأتراك، وعددًا من شباب البيزنطيين الذين أسلموا وحسن إسلامهم، فضمهم إلى الجيش واهتم بهم اهتمامًا كبيرًا، وربّاهم تربية إسلامية جهادية، ولم يلبث الجيش الجديد أن تزايد عدده، وأصبح يضم آلافًا من المجاهدين في سبيل الله[17].
لقد كان هذا الجيش الذي أسسه ونظَّمه وطوَّره "أورخان بن عثمان" أول جيش نظامي في تاريخ العالم[18].
وقد اتسعت رقعة الدولة العثمانية في نهاية عهده إلى 95.000 كم2، وكان قد تسلمها من والده وهي لا تزيد على 16.000 كم2، كما ذكرنا سابقًا.
أمَّا السلطان مراد الأول (726 - 791هـ/ 1326 - 1389م) فقد كان محاربًا قديرًا، شغوفًا بالجهاد، وقد جمع إلى جواره مجموعة من خيرة القادة والخبراء العسكريين، واستطاع أن يمضي في عملياته الحربية في أوروبا وآسيا الصغرى في وقت واحد.
ففي أوروبا هاجم الجيش العثماني أملاك الدولة البيزنطية، ثمَّ استولى عام (762 هـ/ 1360م) على مدينة أدرنة ذات الأهمية الإستراتيجية في البلقان، وكانت ثاني مدينة في الإمبراطورية البيزنطية بعد القسطنطينية، وقد اتخذها السلطان مراد عاصمة للدولة العثمانية منذ عام (768 هـ/ 1366م)، وبذلك انتقلت عاصمة الدولة من آسيا إلى أوروبا، وسرعان ما تركزت في هذه العاصمة الجديدة جميع المقومات اللازمة للنهوض بالدولة وأصول الحكم، فتكوَّنت فيها فئات من الموظفين وفرق الجيش، وطوائف رجال القانون، وعلماء الدين، وأقيمت دور المحاكم، كما تَمَّ تشييد المعاهد المدنية والعسكرية، وقد ظلت "أدرنة" على هذا الوضع السياسي والعسكري والإداري والثقافي والديني، حتى تم فتح القسطنطينية بعد ذلك، فاتخذوها عاصمة لدولتهم[19].
لقد قاد السلطان مراد الشعب العثماني ثلاثين سنة بكل حكمة ومهارة لا يضاهيه فيها أحد من ساسة عصره؛ قال المؤرخ البيزنطي "هالكونديلاس" عن مراد الأول: قام مراد بأعمال مهمة كثيرة، دخل سبعًا وثلاثين معركة، سواءً في الأناضول أو في البلقان، وخرج منها جميعًا ظافرًا.
الإنكشاريون:
في عهد "أورخان" ظهرت فرقة الإنكشارية، وكانوا فرقة من المشاة المحترفين، لها امتيازاتها الخاصة، وقد تلقوا تدريبًا وتعليمًا خاصًّا، حتى أصبحوا من أهم فرق الجيش العثماني، وكانوا يقومون بخدمة السلطان بغيرة وحماس[20].
وقد اكتسبت هذه الفرقة صفة الدوام والاستمرار في عهد السلطان مراد الأول سنة (761هـ/ 1360م)، وكانت قبل ذلك تُسرَّح بمجرد الانتهاء من عملها.
وامتاز الجنود الإنكشاريون بالشجاعة الفائقة، والصبر في القتال، والولاء التام للسلطان العثماني باعتباره إمام المسلمين، وكان هؤلاء الجنود يُختارون في سن صغيرة من أبناء المسلمين الذين تربوا تربية صوفية جهادية، أو من أولاد الذين أُسِروا في الحروب أوِ اشْتُرُوا بالمال.
وكان هؤلاء الصغار يُرَبَّون في معسكرات خاصة بهم، يتعلمون اللغة والعادات والتقاليد التركية، ومبادئ الدين الإسلامي، وفي أثناء تعليمهم يُقسَّمون إلى ثلاث مجموعات: الأولى تُعَد للعمل في القصور السلطانية، والثانية تُعد لشغل الوظائف المدنية الكبرى في الدولة، والثالثة تعد لتشكيل فرق المشاة في الجيش العثماني، ويطلق على أفرادها الإنكشارية، أي الجنود الجدد، وكانت هذه المجموعة هي أكبر المجموعات الثلاث وأكثرها عددًا[21].
وقد ازدادت مكانة الإنكشاريين في عهد السلطان "محمد الفاتح"، فقد جعل لقائدها حق التقدم على بقية القواد، فهو يتلقَّى أوامره من الصدر الأعظم، الذي جعل له السلطان القيادة العليا للجيش[22].
وقد تميز عصر السلطان محمد الفاتح – بجانب قوة الجيش البشرية وتفوقه العددي – بإنشاءات عسكرية كثيرة ومتنوعة، فأقام دور الصناعة العسكرية لسدِّ احتياجات الجيش من الملابس والسروج والدروع ومصانع الذخيرة والأسلحة، وأقام القلاع والحصون في المواقع ذات الأهمية العسكرية، وكانت هناك تشكيلات عسكرية متنوعة في تمام الدقة وحسن التنظيم من فرسان ومشاة ومدفعية وفرق مساعدة، تمد القوات المحاربة بما تحتاجه من وقود وغذاء وعلف للحيوان وإعداد صناديق الذخيرة حتى ميدان القتال، وكان هناك صنف من الجنود يُسمَّى "لغمجية" وظيفته الحفر للألغام، وحفر الأنفاق تحت الأرض أثناء محاصرة القلعة المراد فتحها، وكذلك السقاءون كان عليهم تزويد الجنود بالماء، ولقد تطورت الجامعة العسكرية في زمن الفاتح، وأصبحت تخرَّج الدفعات المتتالية من المهندسين والأطباء والبيطريين وعلماء الطبيعيات والمساحات، وكانت تمد الجيش بالفنيين المتخصصين، وقد أكسب هؤلاء العثمانيين شهرة عريضة في الدقة والنظام[23].
كما اهتم العثمانيون كذلك بالمدفعية منذ أيامهم الأولى، وأنشئوا فرقة خاصة بالمدفعية (طوبجي) بلغ عددها ألف رجل في عهد "بايزيد الثاني" (886- 918هـ/ 1481- 1512م)، وفي عهد سليمان القانوني (926- 974هـ/1520- 1566م) تشكلت فرقة أخرى من المدفعية الثقيلة، كما اهتم العثمانيون أيضًا ببناء أسطول قوي بعد توسُّعِ دولتهم، بحيث يستطيع التصدِّي لأسطول البنادقة، ووصل عدد سفنه إلى 300 سفينة في عهد سليمان القانوني، واستطاع قائده "خير الدين بربروسا" أن ينشر الفزع والرعب في نفوس الأوروبيين[24].
ثالثًا: الاهتمام بالعلم وتقريب العلماء:
كان من عوامل قوة الدولة العثمانية كذلك اهتمامها بالعلم والعلماء، ومعرفتهم بأهمية العلم في نهضة الدولة والارتقاء بها بشكل دائم، فكانوا أشدَّ ما يكونون حرصًا على احترام العلماء؛ فهذا "عثمان" مؤسس الدولة يقول في وصيته لابنه "أورخان": "يا بُني أوصك بعلماء الأمة، أدم رعايتهم، وأكثر من تبجيلهم، وانزل على مشورتهم، فإنهم لا يأمرون إلا بخير"[25]. وقد عمل "أورخان بن عثمان" بوصية والده فكان أول من أقام جامعة إسلامية في الدولة العثمانية[26].
وهكذا كان ولاة وسلاطين العثمانيين حال قوة دولتهم، بل كانوا هم أنفسُهم حريصين على تعلُّم العلم، وتربية أبنائهم وشعبهم على العلم؛ وذلك من خلال إنشاء المعاهد المتخصصة في العلوم المختلفة، وقد ذكرنا منها سلفًا المعاهد المتخصصة في الجوانب العسكرية، فقد كان إلى جوارها معاهد أخرى متخصصة في العلوم الشرعية والحياتية، مما أضفى على الدولة في تلك الآونة المكانة العلمية الكبيرة.
وكلَّما ازداد الاهتمام بالعلم وتوقير العلماء حققت الدولة مزيدًا من التقدُّم والرقي في كافة مجالات الحياة، فهذا محمد الفاتح كان للعلماء عنده مكانة خاصة، فرفع قدرهم، وشجعهم على العمل والإنتاج، وبذل لهم الأموال، ووسَّع لهم في العطايا والمنح والهدايا؛ ليتفرغوا للعلم والتعلُّم، وكان يكرمهم غاية الإكرام، ولو كانوا من خصومه، فبعد أن ضمَّ إمارة القرمان إلى الدولة، أمر بنقل العمال والصُنَّاع إلى القسطنطينية غير أن وزيره "روم محمد باشا" ظلم الناس، ومن بينهم بعض العلماء وأهل الفضل، ومن بينهم العالم أحمد جلبي ابن السلطان أمير علي، فلما علم السلطان محمد الفاتح بأمره اعتذر إليه، وأعاده إلى وطنه مع رفقائه معزَّزًا مكرمًا[27].
وكان كذلك لا يسمع عن عالم في مكانه أصابه عوز وإملاق إلا بادر إلى مساعدته، وبَذَلَ له ما يستعين به على أمور دنياه.
وكان من عادته في شهر رمضان أن يأتي إلى قصره بعد صلاة الظهر بجماعة من العلماء المتبحرين في تفسير القرآن الكريم، يقوم في كل مرة واحد منهم بتفسير آيات من القرآن الكريم، ثم تبدأ النقاشات حولها، وكان يشارك في هذه النقاشات بنفسه، كما كان يشجعهم بالعطايا والهدايا والمكافآت المالية الجزيلة[28].
رابعًا: العدل بين الرعية:
من أهم مقوِّمات قيام الدولة العثمانية وقوتها واستمرارها لمدة طويلة، توفُّرُ العدل فيها، وحِرْصُ حكامها على إرساء مبادئه بين الشعوب التي حكموها، يظهر ذلك جليًّا واضحًا من المواقف العملية التي اتخذها هؤلاء الحكام في عهد قوة الدولة، كما يظهر كذلك واضحًا من خلال وصية الولاة والسلاطين لأبنائهم بالعدل بين الرعية.
ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة. ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظلم والإسلام. وقد قال النبي r: "لَيْسَ ذَنْبٌ أَسْرَعُ عُقُوبَةً مِنَ البَغْي وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ[29]"[30].
وتروي معظم المراجع التركية التي أرَّخت للعثمانيين أن "أرطغرل" عَهِدَ لابنه "عثمان" مؤسس الدولة العثمانية بولاية القضاء في مدينة "قره جه حصار" بعد الاستيلاء عليها من البيزنطيين في عام (684 هـ/ 1285م)، وأن عثمان حَكَمَ لبيزنطي نصراني ضد مسلم تركي، فاستغرب البيزنطي وسأل عثمان: كيف تحكم لصالحي وأنا على غير دينك؟! فأجابه عثمان: بل كيف لا أحكم لصالحك، والله الذي نعبده يقول لنا: "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا" [31]. وكان هذا العدل الكريم سببًا في اهتداء الرجل وقومه إلى الإسلام[32].
ثم هو أيضًا يقول لابنه "أورخان" في وصية طويلة: "اعدل في جميع شئونك..."[33]. وكذلك من جاء بعده من الولاة والسلاطين كانوا يأمرون بالعدل ويحثُّون عليه، وينهون عن الظلم، ويعاقبون من يرتكبه؛ وهذا مما ساعد على استقرار دولتهم وتعاون شعوبهم معهم في أمور الجهاد، وكذلك في الارتقاء بالدولة الإسلامية وتوسيع رقعتها، وعدم وجود انشقاقات أو خلافات حول الحكام طوال فترة قوة الدولة العثمانية.
تلك كانت أهم عوامل قوة الدولة العثمانية، وهذه العوامل كفيلة إن وُجدت في أي أمة من الأمم أن ترتقي وتسمو على ما حولها من الأمم، إنها قوة الإيمان، والحرص على الجهاد، والاهتمام بالعلم والعلماء، والعدل بين الرعية، ويندرج تحت هذه العوامل كل ما فيه خير للأمة في دينها ودنياها.
الإنجازات:
كان من ثمرة الإيمان والجهاد والعلم والعدل تحقيق إنجازات رائعة، ونتائج طيبة، كان لها أكبر الأثر في علوِّ شأن المسلمين وعزتهم ورفعتهم، ومن هذه الإنجازات فتح "القسطنطينية"، وكان ذلك على يد السلطان الرباني محمد الفاتح (833- 866 هـ/ 1428- 1481م).
وتُعَدُّ القسطنطينية من أهم المدن العالمية، وقد أُسست في عام 330م على يد الإمبراطور البيزنطي (قسطنطين الأول)، وكان لها موقع عالمي فريد، حتى قيل عنها: (لو كانت الدنيا مملكة واحدة لكانت القسطنطينية أصلح المدن لتكون عاصمة لها)[34].
وقد استعصت القسطنطينية على الفتح، مع المحاولات العديدة التي بذلها المسلمون قبل ذلك، ولكن حالت الظروف دون أن يتم هذا الفتح، إلا على يد من أثنى عليه الرسول r بقوله: "لَتُفْتَحَنَّ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ، وَلَنِعْمَ الأَمِيرُ أَمِيرُهَا، وَلَنِعْمَ الْجَيْشُ ذَلِكَ الْجَيْشُ"[35].
* فتح "القسطنطينية"
أراد محمد الفاتح منذ توليه الحكم حسم مشكلة القسطنطينية، فقد كانت وكرًا للمؤامرات على الدولة العثمانية، واستعد السلطان سياسيًّا وعسكريًّا لذلك، فمن الإجراءات السياسية أنه جدَّد المعاهدات واتفاقيات الهدنة مع جميع جيرانه، ومن تربطهم علاقات معينة بالدولة كالبندقية وجنوة والصرب، وفرسان القديس يوحنا وغيرهم، وكان الهدف هو عزل الدولة البيزنطية عن جيرانها سياسيًّا وعسكريًّا، ثم حشد "الفاتح" أكثر من ربع مليون جندي أحدقوا بالقسطنطينية من البرِّ، واستمر حصار المدينة ثلاثة وخمسين يومًا، تم خلالها بناء منشآت عسكرية ضخمة، واستقدام خيرة الخبراء العسكريين، ومن بينهم الصانع المجري الشهير "أوربان"، والذي استطاع صنع مدافع عظيمة تقذف كرات هائلة من الحجارة والنار على أسوار القسطنطينية، وقد بذل البيزنطيون قصارى جهدهم في الدفاع عن المدينة، واستُشهِد عدد كبير من العثمانيين في عمليات التمهيد للفتح، وكان من بين العقبات الرئيسية أمام الجيش العثماني تلك السلسلة الضخمة التي وضعها البيزنطيون ليتحكموا بها في مدخل القرن الذهبي، والتي لا يمكن بحال فتح المدينة إلا بتخطيها، وقد حاول العثمانيون تخطي هذه السلسلة دون جدوى، ووفق الله "الفاتحَ" لفكرة رائعة، تدل على عبقرية حربية فذَّة؛ حيث استطاع نقل سبعين سفينة بعد أن مُهِّدت الأرض وسوُيت في ساعات قليلة، وتم دهن الألواح الخشبية ووضعها على الطريق تمهيدًا لجرِّ السفن عليها مسافة ثلاثة أميال، وقد تمَّ كل هذا في ليلة واحدة وبعيدًا عن أنظار العدو، وكانت فكرة مبتكرة وناجحة بكل المقاييس، ثم بعد الهجوم الكاسح على المدينة واستسلامها بعد مقتل الإمبراطور كان التسامح التام مع أهل المدينة حيث كانت لهم الحرية التامة في ممارسة شعائرهم الدينية، واختيار رؤسائهم الدينيين. ومما يدل على ذلك أن السلطان محمد الفاتح استقبل بطريرك المدينة، وتناول معه الطعام، وتحدَّثا في أمور شتى؛ دينية وسياسية واجتماعية، مما أعطى هذا البطريرك انطباعًا مختلفًا عمَّا كان عليه قبل لقائه السلطان الفاتح[36].
لقد كانت القسطنطينية قبل فتحها عقبة كبيرة في وجه انتشار الإسلام في أوروبا؛ ولذلك فإن سقوطها يعني فتح أوروبا لدخول الإسلام بقوة وسلام أكثر من ذي قبل، ويعتبر فتح القسطنطينية من أهم أحداث التاريخ العالمية، وخصوصًا تاريخ أوروبا وعلاقتها بالإسلام، حتى عدَّهُ المؤرخون الأوروبيون ومن تابعهم نهايةَ العصور الوسطى وبدايةَ العصور الحديثة[37].
ومن أهم إنجازات العثمانيين في تلك الفترة أيضًا توسيع رقعة العالم الإسلامي، ودخول الكثير من البلاد تحت راية الإسلام، وذلك نظرًا للعمليات الجهادية الكثيرة، فقد اتسعت رقعة الدولة العثمانية في عهد السلطان "مراد الأول" من 95.000 كم2 إلى 500.000 كم، بمعنى أنها زادت في حوالي 29 سنة أكثر من خمسة أمثال ما تركها له والده "أورخان"[38].