في الصبر
الله سبحانه جعل الصبر جواداً لا يكبو فهو و النصر أخوان شقيقان فالنصر مع الصبر والفرج مع الكرب والعسر مع اليسر .
ولقد ضمن الصادق لأهله في محكم الكتاب أنه يوفيهما أجرهم بغير حساب وأخبرهم أنه معهم بهدايته ونصره العزيز وفتحه المبين فقال تعالى: [واصبروا إن الله مع الصابرين [.. فظفر الصابرون بهذه المعية بخير الدنيا و الآخرة ففازوا بها بنعمه الباطنة والظاهرة.. وأخبر سبحانه أن مع الصبر و التقوى لا يضر كيد العدو ولو كان ذا تسليط فقال تعالى [وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً إن الل بما يعملون محيط [.. وأخبر عن نبيه يوسف الصديق عليه السلام أن صبره وتقواه وصَّلاه إلى محل العز و التمكين فقال [إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين].. وعلق الفَلاح بالصبر والتقوى في سورة المؤمنون فقال تعالى [يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون].. وأخبر عن محبته لأهله فقال تعالى [والله يحب الصابرين]..
ولقد بشر الصابرين بثلاث كل منها خير مما عليه أهل الدنيا يتحاسدون فقال تعالى [وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون] ..
وأوصى عباده بالاستعانة بالصبر والصلاة على نوائب الدنيا والدين فقال تعالى [واستعينوا بالصبر و الصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين].. وجعل الفوز بالجنة والنجاة من النار لا يحظى به إلا الصابرون فقال تعالى [إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون]..
وأخبر أن الرغبة في ثوابه والإعراض عن الدنيا وزينتها لا ينالها إلا أولو الصبر المؤمنون فقال تعالى [وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحاً ولا يلقاها إلا الصابرون]..
وأخبر تعالى أن دفع السيئة بالتي هي أحسن تجعل المسيء كأنه ولي حميم فقال [ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم ].
وأن هذه الخصلة :[ما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم ]..
وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم بالصبر لحكمه وأخبره أن صبره إنما هو لربه وبذلك جميع المصائب تهون فقال [واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا].. وقال [واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولاتك في ضيق مما يمكرون إن الله مع الذين اتقوا و الذين هم محسنون]..
فخير عيش أدركه السعداء بصبرهم وترقوا إلى أعلى المنازل بشكرهم فساروا بين جناحي الصبر والشكر إلى جنات النعيم وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
في معنى الصـــــبر: الصبر الثبات على أحكام الكتاب والسنة .
الصبر ترك الشكوى .
الصبر هو الاستعانة بالله .
وساحة العافية أوسع للعبد من ساحة الصبر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء المشهور [إن لم يكن بك غضب علىَّ فلا أبالي غير أن عافيتك أوسع لي] ، ولا يناقض هذا قوله صلى الله عليه وسلم [وما أعطى أحد عطاء خيراً و أوسع من الصبر ]..
وحد الصبر أن لا يعترض على التقدير فأما إظهار للبلاء على غير وجه الشكوى فلا ينافي الصبر قال الله تعالى في قصة أيوب عليه السلام [إنا وجدناه صابراً].. مع قوله [مسني الضر].. وأما قوله على غير وجه الشكوى فالشكوى نوعان:
أحدهما الشكوى إلى الله فهذا لا ينافي الصبر كما قال يعقوب عليه السلام [إنما أشكو بثي وحزني إلى الله].. مع قوله [فصبر جميل]..وقال سيد الصابرين صلوات الله وسلامه عليه [اللهم أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي..]
والنوع الثاني :
شكوى المبتلى بلسان الحال والمقال فهذه لا تجامع الصبر بل تضاده وتبطله فالفرق بين شكواه والشكوى إليه.
في أسماء الصبر :
إن كان صبر عن شهوة الفرج سمى عفة .
وإن كان صبراً عن شهوة البطن سمى شرف نفس وشبع نفسى .
وإن كان عن اظهار ما لا يحسن اظهاره سمى كتمان سر .
وإن كان عن فضول العيش سمى زهداً .
وإن كان على قدر يكفى فى الدنيا سمى قناعة .
وإن كان عن إجابة داعى الغضب سمى حلما ً.
وإن كان عن إجابة داعى العجلة سمى وقاراً وثباتاً .
وإن كان عن إجابة داعى الفرار والهرب سمى شجاعة .
وإن كان عن إجابة داعى الانتقام سمى عفواً وصفحاً .
وإن كان عن إجابة داعى الامساك والبخل سمى جوداً .
وإن كان عن إجابة داعى الطعام والشراب في وقت مخصوص سمى صوما ً.
وإن كان عن إجابة داعى إلقاء الكل على الناس وحمل كلهم سمى مروءة .
والاسم الجامع لذلك كله الصبر فهذا يدلك على ارتباط مقامات الدين كلها بالصبر من أولها إلى آخرها .
وهكذا يسمى عدلاً إذا تعلق بالتسوية بين المتماثلين .
ويسمى سماحة إذا تعلق ببذل الواجب والمستحب بالرضا والاختيار.. وعلى هذا جميع منازل الدين .
وإذا تكلفه العبد واستدعاه صار سجية له كما في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال [ومن يتصبر يصبره الله] و كذلك العبد يتكلف التعفف حتى يصير التعفف له سجية كذلك سائر الأخلاق وقد قيل أنه يمكن اكتساب الخُلق كما يكتسب العقل والحلم والجود والسخاء والشجاعة والمزاولات تعطي الملكات ومعنى هذا أن من زاول شيئاً واعتاده وتمرن عليه صار ملكة له وسجية وطبيعة فلا يزال العبد يتكلف الصبر حتى يصير الصبر له سجية كما أنه لا يزال يتكلف الحلم والوقار والسكينة والثبات حتى تصير له أخلاقاً بمنزلة الطبائع..
فمن اعتاد الصبر هابه عدوه ومن عز عليه الصبر طَمِع فيه عدوه وأوشك أن ينال منه غرضه .
ومرجع الدين كله قواعد ثلاثة: فعل المأمور وترك المحظور والصبر على المقدور..
وهذه الثلاثة هي التي أوصى بها لقمان لابنه في قوله [يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك].. وذكر سبحانه هذه الأمور الثلاثة في قوله [إنما يتذكر أولو الألباب الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية ويدرءون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار]..
فى الأسباب التى تعين على الصبر :<BLOCKQUOTE class=style46>
لما كان الصبر مأموراً به جعل الله سبحانه له أسباباً تعين عليه وتوصل إليه فالصبر وإن كان شاقاً على النفوس فتحصيله ممكن وهو يتركب من العلم و العمل فمنهما تركب جميع الأدوية التي تداوى بها القلوب والأبدان.
فأما الجزء العلمى :
فهو إدراك ما فى المأمور من الخير والنفع واللذة والكمال وإدراك ما فى المحظور من الشر والضر والنقص فإذا أضاف إليهما العزيمة الصادقة والهمة العالية والنخوة والمروءة.. فمتى فعل ذلك حصل له الصبر وهانت عليه مشاقه وحلت له مرارته وانقلب ألمه لذه..
فمثلاً إذا قوى باعث شهوة الوقاع المحرم وعزم على التداوى ومقاومة هذا الداء فليضعفه بأمور؛
أحدهما.. حسم وتقليل الأغذية المحركة للشهوة .. فليبادر إلى الصوم ..
الثانى.. أن يجتنب النظر فإن داعي الارادة والشهوة إنما يهيج بالنظر والنظر يحرك القلب بالشهوة.
الثالث.. تسلية النفس بالمباح المعوض عن الحرام وهذا هو الدواء النافع في حق أكثر الناس.
الرابع.. التفكر في المفاسد الدنيوية المتوقعة من قضاء هذه الشهوة فإنه لو لم يكن جنة ولا نار لكان في المفاسد الدنيوية ما ينهى عن اجابة هذا الداعى ولكن عين الهوى عمياء.
الخامس.. الفكرة في مقابح الصورة التي تدعوه نفسه إليها فيعز نفسه أن يشرب من حوض ترده الكلاب والذئاب .. وهذا القبح يغطى كل جمال وملاحة في الوجه والبدن .. غير أن حبك الشيء يعمي ويصم .. وإن كانت الصورة أنثى فقد خانت الله ورسوله وأهلها وبعلها ونفسها وأورثت ذلك لمن بعدها من ذريتها.
وأما تقوية باعث الدين.. فإنه يكون بأمور ..
أحدهما.. إجلال الله تبارك وتعالى أن يُعصَى وهو يرى ويسمع.
الثاني .. مشهد محبته سبحانه فيترك معصيته محبة له فإن المحب لمن يحب مطيع.
الثالث .. مشهد النعمة والإحسان فإن الكريم لا يقابل بالاساءة من أحسن إليه .. فليمنعه مشهد احسان الله تعالى ونعمته عن معصيته حياء منه.
الرابع .. مشهد الغضب والانتقام من الرب تعالى إذا تمادى العبد في معصيته.
الخامس .. مشهد ما يفقده بالمعصية من خير الدنيا والآخرة.
السادس .. مشهد القهر والظفر فإن قهر الشهوة والظفر بالشيطان له حلاوة ومسرة وفرحة.
السابع .. مشهد العوض وهو ما وعد الله سبحانه من تعويض من ترك المحارم لأجله ونهى نفسه عن هواها.
الثامن .. مشهد المعية وهو نوعان فالمعية العامة اطلاع الرب عليه والمعية الخاصة كقوله [إن الله مع الصابرين] وقوله [إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون] فهذه المعية الخاصة خير وأنفع في دنياه وآخرته.
التاسع .. مشهد معالجة الأجل فيأخذه الله على غرة فيحال بينه وبين ما يشتهى من لذّات الآخرة فيالها من حسرة.
العاشر .. مشهد البلاء والعافية فإن البلاء في الحقيقة ليس إلا الذنوب وعواقبها والعافية المطلقة هي الطاعات وعواقبها فأهل البلاء هم أهل المعصية وإن عوفيت أبدانهم وأهل العافية هم أهل الطاعة وإن مرضت أبدانهم.
الحادى عشر .. أن يعوِّد باعث الدين ودواعيه مصارعة داعي الهوى ومقاومته على التدريج قليلاً قليلاً حتى يدرك لذة الظفر فتقوى حينئذ همته.
الثاني عشر .. كف الباطل عن حديث النفس وإذا مرت به الخواطر نفاها ولا يؤديها ويساكنها فإنها تصير أمانى وهى رؤوس أموال المفاليس فمتى صارت أماني تقوى فتصير هموماً ثم تصير إرادات ثم تقوى فتصير عزماً.. فدفع الخاطر الأول أسهل وأيسر من دفع أثر المقدور بعد وقوعه وترك معاودته.
الثالث عشر .. قطع العلائق والأسباب التي تدعوه إلى موافقة الهوى والمراد ليس أن لا يكون له هوى بل المراد أن يصرف هواه إلى ما ينفعه ويستعمله في تنفيذ مراد الرب سبحانه وتعالى.
الرابع عشر .. صرف الفكر إلى عجائب آيات الله التي ندب عباده إلى التفكر فيها.
الخامس عشر .. التفكر في الدنيا وسرعة زوالها وقرب إنقضائها.
السادس عشر .. القلوب بين إصبعيه وأزِمة الأمور بيديه وانتهاء كل شيء إليه على الدوام فلعله يصادف أوقات النفحات كما في الأثر المعروف [إن الله في أيام دهره نفحات فتعرضوا لنفحاته واسألوا الله أن يستر عوراتكم ويؤمن روعاتكم] ولعله في كثرة تعرضه أن يصادف ساعة من الساعات التي لا يُسأل الله فيها شيئاً إلا أعطاه .. ولا يستوحش من ظاهر الحال .. فإنه سبحانه ما حَرَمه إلا ليعطيه ولا أمرضه إلا ليشفيه ولا أفقره إلا ليغنيه ولا أماته إلا ليُحيّه.
السابع عشر .. أن يعلم العبد أن تفريغ المحل شرط لنزول غيث الرحمة ..فإذا طهر العبد قلبه وفرغه من إرادة السؤ وخواطره وبذر فيه بذر الذكر والفكر والمحبة والاخلاص يقوى الرجاء لاصابة نفحات الرحمن جل جلاله في الأوقات الفاضلة والأحوال الشريفة ولاسيما إذا اجتمعت الهمم وتساعدت القلوب وعظم الجمع كجمع عرفه وجمع الاستسقاء وجمع أهل الجمعة.. فإن اجتماع الهمم و الانفاس أسباب نصبها الله تعالى مقتضية لحصول الخير ونزول الرحمة .. ولو فرغ العبد المحل وهيأه وأصله لرأي العجائب فإن فضل الله لا يرده إلا المانع الذي في العبد فلو زال ذلك المانع لسارع إليه الفضل من كل صوب .. فتأمل حال نهر عظيم يسقى كل أرض يمر عليها فحصل بينه وبين بعض الأرض المعطشة المجدبة سد كثيف فصاحبها يشكو الجدب والنهر إلى جانب أرضه.
الثامن عشر .. أن يعلم العبد أن الله خلقه وامتحنه في هذه الدار بالبقاء الذى يسرع اليه الفناء و العز الذى يقارنه الذل و يعقبه الذل و الأمن الذى معه الخوف و بعده الخوف و كذلك الغناء و اللذة و الفرح و السرور و النعيم الذى هنا مشوب بضده كغلط أكثر الخلق فى هذا المقام اذ طلبوا النعيم و البقاء والعز و الملك و الجاه فى غير محله ففاتهم فى محله. و أكثرهم يظفر بما طلبه من ذلك و الذى ظفر به انما هو متاع قليل و الزوال قريب. فان العبد اذا ملك شهوته و غضبه فانقاد معه لداعى الدين فهو الملك حقا[وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
التاسع عشر. أن لا يفتر العبد باعتقاده أن مجرد العلم بما ذكرنا كاف فى حصول المقصود بل لابد أن يضيف اليه الجهد فى استعماله و استفراغ الوسع و الطاقة فيه و خلال ذلك الخروج عن العوائد فلا أفلح من استمر مع عوائده أبدا و يستعين على الخروج عن العوائد بالهرب عن مظان الفتنة و البعد عنها ما أمكنه و قد قال النبى (صلى الله عليه و سلم) [من سمع بالدجال فلينأ عنه] فما استعين على التخلص من الشر بمثل البعد عن أسبابه و مظانه.
</BLOCKQUOTE>
فى بيان أن الانسان لا يستغنى عن الصبر فى حال من الأحوال :
<BLOCKQUOTE class=style46>
فانه بين أمر يجب عليه امتثاله و تنفيذه ، و نهى يجب عليه اجتنابه و تركه ، و قدر يجرى عليه اتفاقا، و نعمة يجب عليه شكر المنعم عليها . و اذا كانت هذه الأحوال لا تفارقه ، فالصبر لازم له الى الممات.
و كل ما يلقى العبد فى هذه الدار ، لا يخلو من نوعين: أحدهما يوافق هواه و مراده ، و الآخر يخالفه.. و هو محتاج الى الصبر فى كل منهما .
أما النوع الموافق لغرضه : فكالصحة ، و السلامة ، و الجاه ، و لمال ، و أنواع الملاذ المباحة.
و هو أحوج شئ الى الصبر فيها من وجوه :
أحدها: أن لا يركن اليها ، و لا يغتر بها ، و لا تحمله على البطر(1) و الأشر و الفرح المذموم الذى لا يحب الله أهله.
الثانى: أن لا ينهمك فى نيلها ، و يبالغ فى استقصائها ، فانها تقلب الى أضدادها. فمن بالغ فى الأكل و الشرب و الجماع انقلب ذلك الى ضده ، و حرم الأكل و الشرب و الجماع.
الثالث: أن يصبر على أداء حق الله فيها و لا يضيعه فيسلبها.
و ما أكثر ما فات العبد من الكمال و الفلاح بسبب زوجته و لده ، و فى الحديث [الولد مبخلة مجبنة]
و قال الامام أحمد : حدثنا زيد بن الحباب قال : حدثنى زيد بن واقد ، قال : حدثنى عبدالله بن قال: سمعت أبى يقول : كان رسول الله (صلى الله عليه و سلم) يخطبنا ، فجاء الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان و يعثران ، فنزل رسول الله (صلى الله عليه و سلم) عن المنبر، فحملهما فوضعهما بين يديه ، ثم قال صدق الله [انما أموالكم و أولادكم فتنة[، نظرت الى هذين الصبيين يمشيان و يعثران، فلم أملك نفسى حتى قطعت حديثى و رفعتهما. وهذا من ككمال رحمته (صلى الله عليه و سلم) و لطفه بالصغار و شفقته عليهم ، و هو تعليم منه للامة الرحمة والشفقة و اللطف بالصغار.
و أما النوع الثانى المخالف للهوى: فلا يخلو اما أن يرتبط باختيار العبد كالطاعات و المعاصى، أو لا ترتبط أوله باختياره كالمصائب، أو يرتبط أوله باختياره و لكن لا اختيار له فى ازالته بعد الدخول فيه، فها هنا ثلاثة أقسام:
أحدها: ما يرتبط باختياره: و هو جميع أفعاله التى توصف بكونها طاعة أو معصية، فأما الطاعة فالعبد محتاج الى الصبر عليها، لأن النفس بطبعها تنفر عن كثير من العبودية. أما فى الصلاة، فلما فى طبعها من الكسل، و ايثار الراحة، و لا سيما اذا اتفق مع ذلك قسوة القلب ، ورين الذنب، و الميل الى الشهوات ، و مخالطة أهل الغفلة ، فلا يكاد العبد مع هذه الامور و غيرها أن يغفلها، و أن فعلها مع ذلك كان متكلفا غائب القلب ، ذاهلا عنها ، طالبا لفراقها كالجالس الى الجيف و أما الزكاة فلما فى النفس من الشح و البخل، و كذلك الحج و الجهاد للآمرين جميعا و طبعا .
أحدها: قبل الشروع فيها، بتصحيح النية، و الأخلاص، و تجنب دواعى الرياء و السمعة، وعقد العزم على توفية المأمورية حقها.
الحالة الثانية:الصبر حال العمل ، فيلازم العبد الصبر عن دواعى التقصير فيه و التفريط ، و يلازم الصبر على استصحاب ذكر النية ، و على حضور القلب بين يدى المعبود ، و أن لا ينساه فى أمره ، فليس الشأن فى فعل المأمور، الشأن فى كل الشأن أن لا ينسى الآمر حال الاتيان بأمره ، بل يكون مستصحبا لذكره فى أمره.
فهذه عبادة العباد المخلصين لله، فهو محتاج الى الصبر على توفية العبادة حقها بالقيام بأدائها وأركانها وواجباتها و سننها ، والى الصبر على استصحاب ذكر المعبود فيها و لا يشتغل عنه بعبادته، فلا يعطله حضوره مع الله بقلبه عن قيام جوارحه بعبوديته ، و لا يعطله قيام الجوارح بالعبودية عن حضور قلبه بين يديه سبحانه.
الحالة الثالثة:الصبر بعد الفراغ من العمل و ذلك من وجوه:
أحدها: أن يصبر نفسه عن الاتيان بما يبطل عمله ، قال تعالى:[يا ايها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن و الأذى [. فليس الشأن الاتيان بالطاعة ، انما الشأن فى حفظها مما يبطلها.
الثانى: أن يصبر عن رؤيتها و العجب بها و الكبير و التعظيم بها ، فان هذا أصر عليه من كثير من المعاصى الظاهرة.
الثالث: أن يصبر عن نقلها من ديوان السر الى ديوان العلانية ، فان العبد يعمل سرا بينه و بين الله سبحانه فيكتب فى ديوان السر ، فان تحدث به نقل الى ديوان العلانية ، فلا يظن بساط الصبر انطوى بالفراغ من العمل.
(1) البطر: هو الطغيان و عدم شكر النعمة ، و (بطر الشئ) كره بغير حق . و فى الصحاح : (البطر) الأشر و هو شدة المرح
</BLOCKQUOTE>
فصل
و أما الصبر على المعاصى فأمره ظاهر ، و أعظم ما يعين عليه قطع المألوفات ، و مفارقة الأعوان عليها فى المجالسة و المحادثة ، و قطع العوائد ، فان العادة طبيعة خاصة ، فاذا انضافت الشهوة إلى العادة تظاهر جندان من جند الشيطان ، فلا يقوى باعث الدين على قهرهما.
فصل
القسم الثانى : ما لا يدخل فى الإختيار: و ليس للعبد حيلة فى دفعه ، كالمصائب التى لا صنع للعبد فيها، كموت من يعز عليه ، و سرقة ماله ، و مرضه ، و نحو ذلك. وهذا نوعان: أحدها ما لا صنع للعبد الأدمى فيه ، و الثانى ما أصابه من جهة آدمى مثله كالسب و الضرب و غيرها.
أحدها:مقام العجز: و هو مقام الجزع و الشكوى و السخط. و هذه ما لا يفعله إلا أقل الناس عقلاًََََ و ديناً و مروءة ، و هو أعظم المصيبتين.
المقام الثانى: مقام الصبر: إما لله ، و إما للمروءة الإنسانية.
المقام الثالث: مقام الرضا: و هو أعلى من مقام الصبر ، و فى وجوبه نزاع ، و الصبر متفق على وجوبه.
المقام الرابع: مقام الشكر: و هو أعلى من مقام الرضا ؛ فإنه يشهد البلية نعمة ، فيشكر المبتلى عليها.
و أما النوع الثانى: و هو ما أصابه من قبل الناس ، فله فيه المقامات ، و يضاف إليه أربعة آخرون:
أحدها: مقام العفو والصفح
الثانى: مقام سلامة القلب من إرادة التشفى و الإنتقام ، و فراغه من ألم مطالعة الجناية كل وقت وضيقه بها.
الثالث: مقام شعور القدر و أنه و إن كان ظالماً بإيصال هذا الأذى إليك.
فالذى قدره عليك و أجراه هذا على يد هذا الظالم ليس بظالم ، و أذى الناس مثل الحر و البرد لا حيلة فى دفعه ، فالمتسخط من أذى الحر و البرد غير حازم. و الكل جار بالقدر و إن اختلفت طرقه و أسبابه.
المقام الرابع: مقام الإحسان إلى المسئ ، و مقابلة إساءته بإحسانك . وفى هذا المقام من الفوائد والمصالح ما ى يعلمه إلا الله ، فإن فات العبد هذا المقام العالى ،فلا يرضى لنفسه بأخس المقامات وأسفلها.
فصل
القسم الثالث: ما يكون وروده بإختياره ، فإذا تمكن لم يكن له إختيار و لا حيلة فى دفعه:
وهذا كالعشق أوله إختيار و آخره اضطرار ، و كالتعرض لأسباب الأمراض و الآلام التى لا حيلة فى دفعها بعد مباشرة أسبابها ، كما لا حيلة فى دفع السكر بعد تناول المسكر ، فهذا كان فرضه الصبر عنه فى أوله ، فلما فاته بقى فرصة الصبر عليه فى آخره ، و أن لا يطيع داعى هواه ونفسه . و للشيطان ها هنا دسيسة عجيبة ، و هى أن يخيل إليه أن ينل بعض ما منع قد يتعين عليه أو يباح له على سبيل التداوى ، و غايته أن يكون كالتداوى بالخمر و النجاسة . و قد أجازه كثير من الفقهاء ، وهذا من أعظم الجهل؛ فإن هذا التداوى لا يزيل الداء ، بل يزيده و يقويه. و كم ممن تداوى بذلك فكان هلاكه دينه و دنياه فى هذا الدواء ، بل الدواء النافع لهذا الداء الصبر و التقوى ، كما قال تعالى: [و إن تصبروا فإن الله لا يضيع أجر المحسنين] فالصبر و التقوى دواء كل داء من أدواء الدين ، و لا يستغنى أحدهما عن صاحبه.
- قد علم أن الكمال الإنسانى فى ثلاثة أمور :
علوم يعرفها و أعمال يعمل بها و أحوال ترتب له على علومه و أعماله و أفضل العلم و العمل و الحال: العلم بالله و أ سمائه و صفاته و أفعاله و العمل بمرضاته و إنجذاب القلب إليه بالحب و الخوف و الرجاء فهذا أشرف ما فى الدنيا و جزاؤه أشرف ما فى الآخرة. و أجل المقاصد معرفة الله و محبته و الأنس بقربه و الشوق إلى لقائه و التنعم بذكره و هذه أجل سعادة الدنيا و الآخرة.
-قال الحسن: أكثروا من ذكر هذه النعم فإن ذكرها شكر و قد أمر الله تعالى نبيه أن يحدث بنعمة ربه فقال [و أما بنعمة ربك فحدث]و الله تعالى يحب من عبده أن يرى عليه أثر نعمته فإن ذلك شكرها بلسان الحال.
و قد ذم الله سبحانه الكنود و هو الذى لا يشكر نعمه.
قال الحسن: ( إن الإنسان لربه لكنود ) يعد المصائب و ينسى النعم و قد أخبر النبى (صلى الله عليه وسلم ) أن النساء أكثر أهل النار بهذا السبب قال: لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئاً قالت ما رأيت منك خيراً قط فإذا كان هذا بترك نعمة الزوج و هى فى الحقيقة من الله فكيف بمن ترك شكر نعمة الله.
- و يذكر عن عائشة رضى الله عنها أن النبى (صلى الله عليه وسلم) دخل عليها فرأى كسرة ملقاة فمسحها و قال: [يا عائشة أحسنى جوار نعم الله فإنها كلما نفرت عن أهل بيت فكادت أن ترجع إليهم]
- و ليس الدين بمجرد ترك المحرمات الظاهرة بل بالقيام مع ذلك بالأوامر المحبوبة لله كالجهاد و الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر و النصيحة لله و رسوله و عباده و نصرة الله و رسوله و دينه و كتابه فهذه الواجبات لا تخطر ببال كثير من الناس فضلاً عن أن يريدوا فعلها و فضلاً عن أن يفعلوها و أقل الناس ديناً و أمقتهم إلى الله من ترك هذه الواجبات وإن زهد فى الدنيا جميعها و قل أن ترى منهم من يحمر وجهه و يمعمره لله و يغضب لحرماته و يبذل عرض فى نصرة دينه و أصحاب الكبائر أحسن حالاً عند الله من هؤلاء. قال تعالى: [و لو بسط الله الرزق لعباده لبغوا فى الأرض].
و قال تعالى: [فلا تعجبك أموالهم و لا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها فى الحياة الدنيا و تزهق أنفسهم و هم كافرون].
و قال تعالى: [إنما أموالكم وأولادكم فتنة].
و قال تعالى: [أيحسبون أنما نمدهم به من مال و بنين نسارع لهم فى الخيرات بل لا يشعرون].
و قال سبحانه [و نبلوكم بالشر و الخير فتنة و إلينا ترجعون [.
و قال سبحانه [و ما أموالكم و لا أولادكم بالتى تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن و عمل صالحاً فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا و هم فى الفرقات آمنون]
* و قال سبحانه [قل بفضل الله و برحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون] ففضله ورحمته العلم والإيمان و القرآن و الذى يجمعونه هو المال و أسبابه.و فى صحيح مسلم من حديث عبدالله بن الشخير أنه قال: انتهيت إلى النبى (صلى الله عليه سلم) و هو يقرأ [ألهاكم التكاثر] و قال [يقول ابن آدم مالى مالى و هل لك من مالك إلا ما تصدقت فأمضيت أو أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت ]. و فى جامع الترمذى عن ابن عمر رضى الله عنهما عن النبى (صلى الله عليه سلم) قال [لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن خمس: عن عمره فيما أفناه و عن شبابه فيما أبلاه وعن ماله من أين أكتسبه و فيما أنفقه و عما عمل فيما علم]. وفيه أيضاً قال رسول الله (صلى الله عليه و سلم) [لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه و عن علمه فيما عمل فيه و عن ماله من أين إكتسبه و فيما أبلاه].
- روى البخارى فى صحيحه عن أنس رضى الله عنه قال [خرج رسول الله (صلى الله عليه و سلم) ولم يشبع من خبز الشعير].
وفى الصحيحين عن عائشة : ما شبع آل محمد منذ قدم المدينة مقام إلى ثلاث ليال تباعاً حتى قبض].
ولقد توفاه الله و إن درعه مرهونة عند يهودى على طعام اخذه لأهله و قد فتح الله عليه بلاد العرب وجبيت إليه الأموال و مات و لم يترك درهماً واحداً و لا ديناراً و لا شاه و لا بعيراً و لا عبداً و لا أمة. و فى الترمذى عن علقمة عن عبدالله قال : نام رسول الله (صلى الله عليه سلم) على حصير فقامو قد أثر فى جنبه فقلنا يا رسول الله لو اتخذنا لك وطاء فقال مالى و للدنيا ما أنا إلا فى الدنيا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح و تركها .
و قال (صلى الله عليه و سلم)..... فإن الله يعطى من يحب و من لا يحب و لا يعطى الآخرة إلا من أحب.
و قد حض الله رسوله على الزهد فى الدنيا و الإعراض عنها و ذم الحرص عليها و الرغبة فيها. كما حض على اكتساب الفضائل التىبها كمال العبد و العمل. و قد أخبر النبى (صلى الله عليه و سلم) أنها لو ساوت عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر فيها شربة ماء و أن مثلها فى الآخرة كمثل ما يعلق بإصبع من أدخل إصبعه فى البحر و أنها ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله و ما والاه و عالم و متعلم و أنها سجن المؤمن و جنة الكافرين. و أمر العبد فيها أن يكون كأنه غريب أو عابر سبيل.
و يعد نفسه من أهل القبور و إذا أصبح فلا ينتظر المساء و إذا أمسى لا ينتظر الصباح. روى البخارى عن ابن عمر قال: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح و إذا أصبحت لا تنتظر المساء و خذ من صحتك لمرضك و من حياتك لموتك.
و نهى عن إتخاذ ما يرغب فيها. و لعن عبد الدنيا و عبد الدرهم و دعا عليه بالتعس و الإنتكاس وعدم إقالة العثرة بالانتقاش و أخبر انه كراكب استظل بظل شجرة فى يوم صائف ثم راح و تركها و هذه فى الحقيقة حال سكان الدنيا كلهم و لكن هو (صلى الله عليه و سلم) شهد هذه الحال و عمى عنها بنو الدنيا.
و أخبر أن الميت يتبعه أهله و ماله و عمله فيرجع أهله و ماله و يبقى عمله. و أخبر انه لا يخاف الفقر على أصحابه و إنما يخاف عليهم الدنيا و تنافسهم فيها و إلهائها لهم. و أخبر انه ليس لابن آدم من ماله إلا ما أكل فأفنى أو لبس فأبلى أو تصدق فأمضى . وأخبر أن حسب ابن آدم من الدنيا لقيمات يقمن صلبه فإن لم يقتصر عليها فثلث بطنه لطعامه و ثلثه لشرابه و ثلثه لنفسه. و فى هذا الحديث: الإرشاد إلى صحة القلب و البدن و الدين و الدنيا و أخبر أن غنى العبد فيها غنى نفسه لا كثرة عرضه. و سأل الله أن يجعل رزقه فيها قوتاً ( أى لا يسد الرمق ) و غبط من كان رزقه فيها كفافاً بعد أن هدى للإسلام و أخبر أن من كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه و شتت عليه شمله و لم يأته منها إلا ما كتب له. و أعلمهم أن: من أصبح منهم آمناً فى سربه معافى فى جسده عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا. ( سربه: نفسه و قيل قومه ) و أخبر أن بذل العبد ما فضل عن حاجته خير له و إمساكه شر له وانه لا يلام على الكفاف و نهى أمته أن ينظر أحدهم إلى من فوقه فى الدنيا و أمره أن ينظر إلى من دونه فى الدنيا.
- و أخبر أن نجاة أول هذه الأمة بالزهد و اليقين و هلكة آخرها بالبخل وطول الأمل. و كان يقول (صلى الله عليه و سلم) [لبيك لا عيش إلا عيش الآخرة[. و كان يقول (صلى الله غليه و سلم) [من جعل الهموم كلها هماً واحداً كفاه الله سائر همومه و من تشعبت به الهموم فى أموال الدنيا لم يبال الله فى أوديتها هلك.
- قال رسول الله (صلى الله عليه و سلم) [من كانت الآخرة أكبر همه جعل الله غناه فى قلبه و جمع له شمله و أتته الدنيا و هى راغمة ، و من كانت الدنيا أكبر همه جعل الله فقره بين عينيه و فرق عليه شمله و لم يأته من الدنيا إلا ما قدر له.
فى بيان الأمور المضادة للصبر:
الصبر حبس اللسان عن الشكوى لغير الله و القلب عن التسخط و الجوارح عن اللطم وشق الثياب.
فإذا شكى العبد ربه إلى مخلوق فقد شكى من يرحمه إلى من لا يرحمه.
و أما إخبار المخلوق بالحال فإن كان ذلك للإستعانة بإرشاده أو معاونته و التوصل إلى زوال ضرره لم يقدح ذلك فى الصبر: كإخبار الطبيب بشكايته و إخبار المظلوم لمن ينتصر به بحاله و إخبار المبتلى ببلائه لمن كان يرجو أن يكون فرجه على يديه وقد كان النبى (صلى الله عليه و سلم) إذا دخل على المريض يسأله عن حاله و يقول [كيف نجدك [و هذا استخبار منه و استعلام بحاله. و أما الأنين فهو على قسمين: أنين الشكوى فيكره و أنين استراحة و تفريج فلا يكره و الله أعلم.
فالمريض إذا بدأ بحمد الله ثم أخبر بحاله لم يكن شكوى.
و الشكوى نوعان: شكوى بلسان الحال و لعلها أعظمها و لهذا أمر النبى (صلى الله عليه و سلم) من أنعم عليه أن يظهر نعمة الله عليه. و أعظم من ذلك من يشتكى ربه و هو بخير فهذا أمقت الخلق عند ربه.
و مما ينافى الصبر شق الثياب عند المصيبة و لطم الوجه و الضرب بإحدى اليدين على الأخرى و حلق الشعر و الدعاء بالويل. و مما يقدح فى الصبر إظهار المصيبة و التحدث بها وكتمانها رأس الصبر.
و يضاد الصبر الهلع و هو الجزع عند ورود المصيبة و المنع عند ورود النعمة.
و الفرق بين الصبر و الهلع: أن الصبر ثمرة الحلم و موجبه فعلى قدر حلم العبد يكون صبره.
فيا من عزم على السفر إلى الله و الدار الآخرة اجعل سيرك بين مطالعة و مشاهد عيب النفس والعمل و التقصير فما أبقى مشهد النعمة و الذنب للعارف من حسنه.
ما المعول إلا على عفوه و مغفرته.
فكل أحد إليهما فقير.
فما تساوى أعمالنا لو سلمت مما يبطلها أدنى نعمة من نعمة الله علينا. فلنتعلق بحبل الرجاء و تدخل من باب التوبة و العمل الصالح. فقد نهج الله للعبد طريق النجاة و عرفه طرق تحصيل السعادة و أعطاه أسبابها و حذره من وبال معصيته.
فقد وثقت بعفوه هفوات المذنبين فوسعتها و عكفت بكرمه آمال المحسنين فما قطع طمعها و مزقت السبع الطباق دعوات التائبين و السائلين فسمعها ووسع الخلائق عفوه و مغفرته و رزقه فما من دابة فى الأرض إلا على الله رزقها و يعلم مستقرها و مستودعها.
يجود على عبيده بالنوافل قبل السؤال و يعطى سائله و مؤمله فوق ما تعلقت به منهم الآمال و يغفر لمن تاب إليه و لو بلغت ذنوبه عدد الأمواج و الحصى و التراب و الرمال.
أرحم بعباده من الوالدة بولدها و أفرح بتوبة التائب من الفاقد لراحلته التى عليها طعامه و شرابه فى الأرض المهلكة إذا وجدها. فمن تقرب إليه بمثقال ذرة من الخير شكرها و حمدها.