تمريض الحياة العصرية"، هو عنوان كتاب لـ"جوانا مونسريف" أستاذة الطب النفسي في "يونيفيرسيتي كولدج بلندن"، تطرح من خلاله فكرة أن الأمراض النفسية ليست إلا أوهاماً وتخيلات من نتاج التركيبة والظروف. وتخص الكاتبة بالانتقاد تزايد معدلات التشخيص بالإصابة بالاكتئاب، زاعمة أنه مرض لا وجود له، وبالتالي لا حاجة لعلاجه من الأساس. ومثل هذه المدرسة الفكرية في التعامل مع الأمراض النفسية، والمعروفة بمعارضي الطب النفسي (Anti-psychiatry)، تمتعت بشهرة واسعة، عندما صرح الممثل الأميركي الشهير "توم كروز" ضمن مقابلة شخصية في أحد البرامج واسعة الانتشار، بأنه لا يؤمن بالطب النفسي، وبأنه لا حاجة لتعاطي العقاقير المضادة للاكتئاب، وغيرها من الأدوية المستخدمة في علاج الأمراض النفسية، التي تصنف كمواد كيميائية شديدة الخطورة. وأضاف الممثل أنه لا وجود لما يطلق عليه الأطباء "الاختلال الكيميائي"، في إشارة إلى تفسير البعض للأمراض النفسية وخصوصاً الاكتئاب، على أنها نتاج اضطراب في التوازن الكيميائي داخل الخلايا العصبية. ورغم أن جذور معارضي الطب النفسي تمتد إلى بدايات القرن الثامن عشر، عندما شرع الأزواج في استخدام المصحَّات النفسية كبيوت طاعة لزوجاتهم، إلا أن شهرة "كروز" الواسعة وتأثيره الثقافي الهائل داخل المجتمع الأميركي، تسبب في إثارة عاصفة في عالم الطب النفسي، ونتجت عنه أصداء واسعة حينها زلزلت المجتمع الطبي المتخصص في الأمراض النفسية.
والملاحظ أن جميع معارضي الطب النفسي، وهم كثر، يخصون مرض الاكتئاب بالتحديد بالانتقاد والتشكيك. وربما كان ذلك نتيجة الزيادة الهائلة والمطردة، في معدلات التشخيص بالإصابة بهذا المرض خلال العقود الأخيرة. ففي بريطانيا مثلاً، يتم تشخيص إصابة شخص واحد من بين كل خمسة أشخاص، وهو ما يكلف الاقتصاد البريطاني حوالي 8 مليارات جنيه إسترليني أو ما يعادل ستين مليار درهم سنوياً، ما بين تكاليف العلاج الطبي، ومصاريف الضمان الاجتماعي، وعدد أيام العمل الضائعة. وفي الولايات المتحدة يصيب الاكتئاب 6.5% من النساء و3.3% من الرجال، حسب الإحصائيات الصادرة عن المعهد القومي للصحة العقلية. أما في كندا، فيعاني 5% من السكان من الاكتئاب المرضي. وإذا ما استخدمنا هذه الأرقام، فإنه يمكننا الاستنتاج -بشكل غير دقيق- أن الاكتئاب يصيب عشرات الملايين، وربما مئات الملايين حول العالم.
وبخلاف التشكيك في دقة التشخيص بالاكتئاب، تزايدت أيضاً مؤخراً الشكوك في جدوى وفعالية العقاقير المستخدمة لعلاج الاكتئاب، والمعروفة بمضادات الاكتئاب. هذه الشكوك تزايدت حدتها بداية هذا الأسبوع، مع نشر فريق من علماء جامعة بريطانية (University of Hull) لنتائج دراسة في إحدى الدوريات الطبية المتخصصة في الطب النفسي. وخلصت هذه الدراسة الخطيرة إلى أن الجيل الجديد من العقاقير المضادة للاكتئاب، لا يحقق الكثير من الفوائد لغالبية المرضى، إذا ما كان يحقق فائدة على الإطلاق. وتوصل العلماء إلى هذه النتيجة من خلال تحليل نتائج 47 دراسة سابقة، تم نشرها في العديد من المجلات والدوريات الطبية خلال عدة أعوام. ولكن الفرق الأساسي بين هذه الدراسة وما سبقها، هو تضمنها لتحليل نتائج دراسات أخرى لم تنشر قط، بسبب حجبها من قبل الشركات المصنعة للعقاقير المضادة للاكتئاب. وهذا التحكم والرقابة في ما ينشر أو لا ينشر من البحوث الطبية، ينتج من حقيقة أن معظم الأبحاث العلمية الطبية يتم تمويلها من قبل شركات الأدوية. وهو ما يعني أن هذه الشركات تمتلك هذه البحوث، وتمتلك قرار نشرها من عدمه. وما يحدث هو أن هذه الشركات تسارع بنشر الدراسات التي تأتي بنتائج إيجابية عن العقار الذي تخطط الشركة لتسويقه، بينما تظل الدراسات التي أتت بنتائج عكسية عن العقار حبيسة أدراج مديري تسويق شركات الأدوية. وهو ما يعني في النهاية، أن الأطباء يتخذون قراراتهم في العلاج، بناء على نصف الحقيقة فقط وليس الحقيقة بأكملها.
ومما يزيد الطين بلة، أن هذه الشركات تبذل جهوداً حثيثة، وتنفق مليارات الدولارات، بغرض إشاعة ثقافة تمريض الحالة النفسية الإنسانية الطبيعية، مما يؤدي إلى عدد لا يستهان به من الحالات التي يتم تشخيصها خطأ. وتستخدم شركات الأدوية لتحقيق هذا الغرض المؤتمرات الموجهة للأطباء، والمتبوعة بحفلات عشاء باذخة، أو من خلال حملات الدعاية الذكية الموجهة للأفراد مباشرة، والتي لا تستثني حتى الأطفال، إما من خلال ذويهم أو عبر أطبائهم. ويعتبر أكبر دليل على نجاح هذه التكتيكات التسويقية لتك الفئة العمرية، هو ما أظهرته الإحصائيات الرسمية الصادرة عن الحكومة البريطانية، من أن عدد الوصفات الطبية من العقاقير المخصصة لعلاج اكتئاب الأطفال، قد زاد بمقدار أربعة أضعاف خلال العقد الماضي فقط. ففي العام الماضي، وصف الأطباء في إنجلترا وحدها أكثر من 630 ألف وصفة طبية، لعقاقير تستخدم لعلاج الاكتئاب لدى الأطفال، مقارنة بـ146 ألف وصفة فقط في منتصف عقد التسعينيات. ومثل هذا الموقف المثير (للاكتئاب) يمكن التعامل معه من خلال طريقتين، الأولى: إجبار شركات الأدوية على نشر نتائج جميع الدراسات التي تجرى على عقار ما، والتوقف عن أسلوب نشر ما هو إيجابي فقط، حتى يتمكن الأطباء من رؤية الصورة كاملة. الثانية: استخدام أساليب علاجية أخرى، مثل العلاج النفسي الكلامي، وممارسة الهوايات والتمارين الرياضية، وزيادة التواصل الاجتماعي مع الأهل والأصدقاء، وهي الأساليب المعروف عنها تمتعها بفعالية أكبر بكثير في تخفيف أعراض الاكتئاب، مقارنة بتعاطي العقاقير الكيميائية المشكوك في فعاليتها أصلاً.