الأرستقراطية الفكرية أول خطوة نحو الديموقراطية
الديموقراطية هي المحور الذي يرى فيه الجميع إنسانية الناس، كما نراها مسؤولية وليست تحليلا من القيود من أجل ألا تكون، تتعدد تعارفها الثقافية تبعا لتعدد التصورات والخلفيات والنظريات في بنائها المركب الذي يضم عدة صعوبات كالمعتقدات، الأخلاق، القانون، التقاليد وكل العادات المكتسبة من طرف الإنسان بوصفه فردا من المجتمع، ولأن مكنونها يتميز فيما بينها بالاختلاف، فإن ذلك ينعكس عليها بحيث لا يمكن تصورها إلا في إطار التعدد والاختلاف
لأنها تظل مسؤولية في التفكير والعمل الجاد من أجل الخير العام ومن أجل الآخرين، بل هي ضرورية ولا حق لأحد أن يوزعها كما يشاء ومتى أراد، الحق فيها للجميع وهم من يملكون هذا الحق ولا حق لهم في التفريط فيها، نلمسها كذلك في:الفكر يفكر كما يمكن له أن يفكر ولا حق لأحد أن يمنع عنه هذا إلا أن يكون لغير الصالح العام.
هذا الوضع هو مالا نجده في الكثير من مجتمعاتنا العربية، بحيث نلاحظ أن الفكر الرفيع هو الذي يحاول أن يتحرر من القيود الذي يتخبط فيها وتحيط به، ويسمو في آفاق عليا كي يشرف على المتطلبات والتغييرات ثم يعالجها ويعرضها في حلة جديدة غصة يانعة، غير آبه بمن يعتبروها خارجة عن حدود المعقول.
المفكرون هم رسل الفكر الإنساني، يوضحون سبل النظر ويبسطون الصعاب ويطورون الوعي بالرغم من أن كل فرد له الحق في إبداء رأيه والتعبير عن مجموعة من الفلسفات الحاملة لمضامين فكره التي ارتبطت ببيئتها، وجاءت استجابة لمشاكل عرفتها الساحة. إذا ما الذي يجب فعله لتفادي خلط الآراء التي يختلف مسار تكوينها أصلا؟ فتيار التعدد في صيغته يقوم على الوحدة داخل التنوع، إذا ما هي العناصر التي تتضمن الوحدة مع الحفاظ على التنوع ؟ هو فوز الفكر الممتاز، ولن يحصل هذا إلا بعد عناء شديد لعدم فهم الجمهور له، كذلك مقاومة الذين يخيم على فكرهم جو الشارع ( الفكر العامي) هؤلاء لا يملكون سوى التقزز من كل شيء ممتاز كان جديدا أو قديما لأن هذا يحول دائما بين ما ألفوه وما تعودوا عليه.
هنا تساؤلات كثيرة تترتب عن الأخذ بالمفهوم من قبل خطورة ما تواجهه هذه النخبة الممتازة من عناصر الاختلاف أم الإتلاف والنتائج التي تترتب على ذلك هو طغيان رأي الشارع على ذهن الغالبية والذي ليس من السهل إهمالها، لأن فيها الصحيح والسقيم، لكن غالبا ما تتلقى القضايا دون النظر أو الإمعان لأنهم فقط تعودوا فاحتلت في نفوسهم جزء كأي شيء مقدس لا سبيل إلى المساس به أو مخالفته.
لنوضح قليلا علاقة الفكر العامي وتأثيره على عد ة محاور كالاقتصاد والإصلاح والدين الخ وهل معالجته تتطلب جهدا نظريا وفعليا وجرأة في الطرح والتناول من خلال تعميم التصورات والاقتراحات بما يسمح للمواطن الانخراط في معالجة الأسئلة الجوهرية استنادا إلى آلية التفاعل مع آراء ومواقف النخبة الممتازة التي من خلالها يتحدد مستقبل الفكر الأرستقراطي بالديموقراطية الصحيحة في دولنا العربية.
الفكر العامي والاقتصاد
فكر الشارع يأثر سلبا على العمل الفردي الذي غايته الفكرة الصالحة كمادة من مواد التعاون الشعبي وجزء من المجهود العام الذي به تمتد استمرارية الدول، ولو كانت خلفيات هذا الاستغلال على حساب الجميع، إذ يتجلى مساره السلبي أن يصبح المال هو الغاية الذي يضحى في سبيلها بكل المقدسات وترتكب من اجلها أعظم الخيانات، وإذا ما وقف الفكر الممتاز يدعو إلى رد الشيء لنصابه أصبح شاذا ينتقم من المجتمع من اجل غايته وبؤسه، واعتبرت أفكاره هدامة ومستهترة، ببساطة الفكر العامي تعود على منطق الأخذ والعطاء طبقا لتناحر الجماعات وتطاحن الأفراد من خلال هذا تظهر بوضوح خلفيات الموقفين.
الفكر العامي والإصلاح
يخترق الفكر العامي التاريخ فيغير الأوضاع ويسمي حسب هواه الأشياء بغير أسمائها الصحيحة، فيصبح الجميع أمام فجوة كبيرة وحيرة شاملة، اسمها التغيير أو التبديل أي العدول عما ألفه حتى لو كان بعيدا عن ما ينشد من تطور مفيد وإصلاح جيد ويبرز من جديد تناقض الموقفين فيصبح الفكر الممتاز يتخبط داخل خندق ضيق لأن الطرف الثاني يعتبر آراءه ليست واضحة المعالم، وليست مقرونة بتخطيط يواكب ظرفه، بل هي مجرد آراء رجعية بمشروع لغوي جديد أهدافه لا تتوافق مع ممارسة الفكر العام.
الفكر العامي والدين
يأخذ الفكر العامي الدين فيمزجه بالخرافة والطفيليات المتحيزة لخدمته والتي تستند على عدم طرح كافة الاحتمالات وقراءتها، أو وضعها تحت مجهر المناقشة والتحليل، وإبداء الصائب منها والمخطئ، فإذا حاولت النخبة الممتازة قراءة الدين بفكرها المترفع عن الوسط المختلف والذي أساسه أن الدين هو نموذج الفرقان الذي بعثه الله في نفوس عباده المتقين إن لم يكن بالرغبة فبقوة الوقائع، وأصوله المتينة تجعله قابل للتطور والسير إلى الأمام في كل العصور ومختلف البقاع، بل هي العقيدة التي وجهت المسلمين نحو الحياة الاستشارية التي جعلتهم يفكرون في مصيرهم ومآل أساليبهم في تجرد عن الأهواء وتمسك بالحق والأخلاق والعدل والمعروف إذ قال الحق تعالى " وائتمروا بينكم بالمعروف" مرة أخرى لا تجد أمامها إلا تعنت و رفض الفكر العامي للإصلاح لأن في أعماقه راسخ ما وجد عليه بيئته وشب وشاب عليها.
من حق المجتمع أن يخاطب في كل الشؤون التي تخصه بكامل الحرية ونحن على ثقة أن المعنيين يستطيعون فهم الرسالة التي تصارحهم بالحقائق أكثر مما يفهمون أنفسهم، والفكر العامي مهما تغلب قليلا فالفكر الممتاز في النهاية ينعم بحصة الأسد في الفوز لأن له أسس منهجية مضبوطة ومسوغاته معللة تدمج تطور عصور وأزمنة في حقبة واحدة.
علينا كذلك أن لا نهمل تعميم الفكر العام من أجل تسهيل وتبسيط قبوله الأفكار الممتازة ‘إذا أردنا أن نكون من مجتمعاتنا مثل هذه الطبقة العالية من جهة الفكر وحب التحرر والترفع قليلا عن التأثر بواقع الحياة، كي نقفز عن الحواجز التي بناها أمامنا جيل غطى عليه الظلام فتعود أن لا يحس بنعمة النور، لأن تكوين النخب المفكرة ضروري في وقتنا الحاضر كذلك يجب علينا الأخذ بالنصيحة العربية ( انظر، فكر، ولا تقلد ) وهذا الشعار كفيل بأن يخلق من شبابنا نخبة ممتازة تخط لنفسها طريق الاختيار والإصلاح وتكون لنفسها قاعدة التفكير الذي ليس بالمرتجل ولا العامي، وبذلك تصبح قادرة على تمييز الحقيقة المعروضة حسب مختلف النظريات. لأن الأرستقراطية الفكرية طابع ميزتها هو اليقين والبناء والإصلاح كما قال فولتير ( إذا أردت إنهاض شعب فعلمه كيف يفكر ) بهذا نكون قد وصلنا لأول خطوة نحو ديموقراطية عربية صحيحة وبتلك الخطى امتازت ديموقراطية الغرب التي جعلت من إرادة الشعب الواعي المفكر والمثقف الأسس الأولى لتفوقها وتقدمها ونهضتها