في البداية هل هناك حاجة قصوى إلى علم الاجتماع في راهننا هذا؟
أعتقد أن الحاجة إلى علم الاجتماع وإلى العلوم الإنسانية بوجه عام تتأكد يوميا, وتزداد حاجتنا إليها مع تعقد الظواهر الإنسانية، وتفاقمها في المشهد المجتمعي، وبالنسبة للسوسيولوجيا كمعرفة تسعف في قراءة تضاريس المجتمع, وتقدم خلاصات نظرية وتطبيقية بصدد حالاته وانفتاحاته, فهناك حاجة قصوى إليها، ليس فقط من أجل ضمان استمرار شريطها العلمي, ولكن - وهذا هو المهم- من أجل تبديد غموض الأسئلة الشقية التي تثيرها فينا تخريجات الواقع العام, وعليه فنحن دائما في حاجة إلى السوسيولوجيا والعلم, فبدون أدوات العلم الاجتماعي لا يمكن بالمرة هزم أسئلة "الاجتماعي" ذاته.
وفضلا عن ذلك فما يستوجب الدفاع عن الحضور السوسيولوجي وتأكيده هو عملي وعلمي في نفس الآن, كيف ذلك؟ معلوم أن السوسيولوجيا بفضل ما تنتهي إليه من خلاصات, تضع المجتمع أمام حقيقته أي أنها تفضح عورته وتكشف بالتالي حالات السواء والخلل فيه, وهو ما يفيد عمليا في تخطيط السياسات الوطنية وبناء المستقبل, وعلميا فتنافي البحوث السوسيولوجية فيه خدمة أساسية للمعرفة السوسيولوجي لدينا يعاني من التهميش والإقصاء؟!
n أين يبرز هذا التهميش الذي يطال الموقف السوسيولوجي؟
l علينا أن نعي أولا أن السوسيولوجيا كانت ولا زالت معرفة تمتهن الشغب والشقاء, وترتكن دائما إلى النقد والمساءلة, وهذا الرهان السوسيولوجي يجعلها كمعرفة وكسؤال ثقافي متهمة "بالتطاول على الاختصاصات" وبالخروج على قواعد "اللعبة", ولهذا يلاحظ دائما حتى في تخطيط السياسات التنموية أن هناك أهمية خاصة للموقف السياسي على الموقف السوسيولوجي, إذ نادرا ما يتم الإنصات للرأي السوسيولوجي، وكمثال على ذلك نأخذ العالم القروي الذي تعالى الحديث عنه آنا, فهذا العالم القروي وكما يثلو ريمي ريمي لوفو يمثل مشهد جمود تديره وترعاه النخب وآليات المخزن, ومع ذلك ففي كل المقاربات التي تحاول إخراجه مما هو غارق فيه, والتي تظل انتخابية في الغالب يتم التركيز على ما هو شكلي, وكان الدواء الفعال له هو "تمدينه" أسوة بالمدينة, ولكن عندما نعانق المقاربة السوسيولوجية, ونتعرف على ما تم الانتهاء إليه في اجتهادات علم الاجتماع القروي يبدو لنا الأمر مختلفا, بحيث نجد مشاكل القرية المغربية أكثر اتصالا بالبنية العقارية والطقوس والبنيات الاجتماعية السائدة والتمثلات المخزنية.. وليس فقط في الكهربة والاعلاف والأسمدة المدعمة كما يقول الموقف السياسي. وهناك مسألة أخرى تؤكد تهميش السوسيولوجيا والفلسفة وعلم النفس ترتبط بالتعليم فهذه الشعب لا توجد حاليا إلا في فاس والرباط ومراكش, مع العلم أنه ينبغي أن تكون في كل الكليات وأن تعطى له ساعات مهمة في التعليم الثانوي لأنها تساعد الطالب والتلميذ على امتلاك آليات التفكيك والبناء وتدربه على الدرس والتحليل وإعمال النظر فيما هو قائم من الأوضاع, وما يؤسف له هو أن الميثاق الجديد للتربية والتكوين لم يأت بجديد يخدم الدرس الفلسفي وباقي العلوم الإنسانية, وهو ما يعني أن السوسيولوجيا وغيرها من المعارف الشقية مازالت تعرف لدينا ما يمكن أن نسميه بحالة "الاستثناء"!
n وفي ظل هذا "الاستثناء" ما هو واقع البحث السوسيولوجي بالمغرب؟
l إن واقع البحث السوسيولوجي هو جزء من إشكالية البحث العلمي الذي لا تشكل أولوية سياسية لدينا بالرغم من تخصيص الحكومة القائمة لكتابة دولة في البحث العلمي, والبحث السوسيولوجي لا يكاد ينفصل في وضعيته الهشة عن واقع السوسيولوجيا عموما والذي يعتل خطأ واعتسافا بالتهميش والإقصاء.
وبذلك فأغلب البحوث السوسيولوجية – تظل سجينة رفوف المكتبات وخلاصات تبقى في الظل, ولا يستفاد منها إلا لماما في التخطيط والبناء, لكن هذا لا يعني أن الاجتهاد والإبداع السوسيولوجي لدينا قد استنفذ ذاته, بل على العكس من ذلك هناك اجتهادات قيمة وهناك أسماء تلتمع من حين لآخر, وهناك أناس يشتغلون في صمت, ويتصدون بكل بسالة لما يعتمل في رحاب المجتمع من قضايا وظواهر, وبمقابل ذلك كله تبقى هناك معطيات واقعية تقرر عدم الارتفاع ترتبط بالهاجس الأمني الذي يغلف البحث العلمي بالمغرب وتتصل أيضا بمحدودية الإمكانيات المادية التي تمكن الباحث من إنجاز أبحاثه بقدر كبير من الاحترافية والموضوعية. وأعتقد أنه في السنوات الأخيرة وبسبب تبعثر العديد من الظواهر, فالبحث السوسيولوجي يشهد "فورة علمية" لقراءة تفاصيل المشهد الاجتماعي هذا على ما هو قائم من كل ألوان الإقصاء والحجر.
n لكن ما يعاب على هذه البحوث هو اعتمادها في التحليل والتفسير على نظريات غريبة قد لا تتناسب مع معطيات واقعنا؟
l هذه حقيقة لا يمكن إنكارها, فهناك اتكاء كبير على النظريات الغربية في تحليل وتفسير الفعل الاجتماعي بالمغرب, لكن السؤال الذي ينطرح بإلحاح فهو إلى أي حد تسعف هذه النظريات في تحليل هذا الفعل وهل تنجح فعلا في مهمتها العلمية أم أنها تساهم في تأزيم الوضع.
إن استيراد نظريات "الآخر" بدون مواءمتها مع خصوصيات المجتمع المحلي يكاد يكون خطأ علميا فادحا واسترادا فراغا ما لم يتم اعتماد مبدأ التبئية والتأسيس كمهمة سوسيولوجية ضرورية يجب أن يضطلع بها الباحث الاجتماعي في المغرب, فهذه النظريات لا يمكن تجاهلها أو رفضها كلية من باب التعصب الأجوف والانغلاق على الذات, وذلك لأنها تعد مرحلة مهمة في السوسيولوجيا واجتهادات أساسية في هذا العلم, ولكن بالرغم من ذلك فلا يمكن تحت يافطة الانفتاح والكونية أخذ هذه النظريات وتطبيق تعاليمها حرفيا, لأن هناك واقعا اجتماعيا مغربيا يتطلب أدوات اشتغال معرفية خاصة, إذن فما علينا لمعالجة هذه المسألة إلا القيام بالتبئية أي مواءمة هذه النظريات مع أسئلة "الاجتماعي" لدينا، وهو ما يمهد من جهة لتأسيس حضور سوسيولوجي نوعي, ويقود من جهة ثانية نحو تجاوز إشكاليات البحث السوسيولوجي بالمغرب.
n فهل هذا الوضع يطرح الحاجة إلى ابن خلدون باعتباره انطلق في أبحاثه وتنظيراته من خصوصياتنا الاجتماعية والثقافية؟
l يجب أن نوضح في البدء بأن التفكير الاجتماعي غارق في القدم ولا يقف عند ابن خلدون فقط بل يمتد إلى عهد اليونان وإلى ما قبل ذلك بكثير, في حين يبقى التأسيس العلمي للسوسيولوجيا مرتبطا بأوغست كونت مبدع كلمة SOCIOLOGIE, وهناك من يربطه بماركس وانجلز, في حين يعتبر الكثيرون من البحاثة العرب بأن تأسيس علم الاجتماع كان على يد العلامة ابن خلدون من خلال نظريته في الاجتماع الإنساني التي بلورها في مقدمة كتاب العبر.
ولقد كرس الكثير من الباحثين الجهود لاكتشاف السبق الخلدوني في إثارة بعض القضايا وهنا بالضبط تفرق القوم شيعا وبذلك أصبح لدينا متخصصون في الخلدونية التي لم تعد مقتصرة على علم الاجتماع, لأن هناك من ربط إسم ابن خلدون برائد علم السياسة, وبالاقتصاد وبالتاريخ, فمن هو ابن خلدون بالضبط؟
هذا هو السؤال المأزقي الذي لا يمكن الإجابة عليه إلا بفهم ابن خلدون وقراءته وليس فقط الاقتصار على "المقدمة" التي اشتهرت أكثر من عرضها ومتنها طبعا يمكن الاستفادة من ابن خلدون باعتباره عربيا في أبحاثه ولكن لا يمكن اعتماد الخلدونية كمقاربة وحيدة وواحدة لقارءة المجتمع العربي.
n أصدرتم أخيرا كتابا جديدا تحت عنوان "دفاعا عن السوسيولوجيا" لماذا هذا الاختيار؟
l بدءا أقول بأن إصدار كتاب في هذا "الهنا" هو بكل أسف مرور قسري عبر مقصلة النشر, ولكن مادامت الثقافة التزام ونضال فلا بأس أني نزف الإنسان دما من حين لآخر في سبيل طرد بياض الأوراق والتعبير عن آرائه.
وعلى كل فكتابي الأخير دفاعا عن السوسيولوجيا هو لا ينفصل عن الفهم الخاص للسوسيولوجيا فالسوسيولوجيا كما أفهمها هي العلم الذي يتصدى للحقول الاجتماعية ويبحث في شروط إنتاج وإعادة إنتاج "الاجتماعي" في سياقات معينة. وهذا التصدي لن يكون فعالا و"علميا" إلا إذا اقترن بالالتزام وقطع مطلقا مع المداهنة والمهادنة, فالسوسيولوجيا وكما يقول آلان كورين لم تعد سجينة الحفاظ على النظام والاتزان بل تحولت إلى أداة ثورية ضد الحجز والتهميش, ولهذا يجب أن تكون أداة لتحرير الفاعل الإنساني.
من خلال فصول هذا الكتاب ينطرح هذا الفهم الخاص الذي يوجد مسار الانكتاب نحو العلائق المفترضة بين السوسيولوجيا والسلطة وسوسيولوجيا الهامش ومهام السوسيولوجيا وباقي إشكاليات دراسة المجتمع المغربي المركب.
إذن دفاعا عن السوسيولوجيا هو اختيار معرفي دفاعا عن الحق في النقد والمساءلة ودفاعا عن الحق في الاختلاف. وهو اختيار يندرج في مشروع سوسيولوجي متفتح وطموح نتمناه لا نهائيا لفهم احتواء ما يعتلج في واقعنا المجتمعي.
n عبد الرحيم العطري الباحث في علم الاجتماع ألا يستيقظ فيه قلم الصحفي الذي كان؟
l لا أخفيكم سرا إن قلت لكم بأن قلم الصحفي لم يغادرني, بل إنه يتوثب في أعماقي في كل حين, والواقع أن تجربتي الصحفية كانت مهمة لي, لأنها مكنتني من الاقتراب من كثير من الظواهر والحالات المجتمعية خصوصا في عمق انشغالي بالقضايا الاجتماعية بالجريدة. فالصحافة مهدت لي الطريق للانغمار في اتون البحث السوسيولوجي, لأن ثمة وشائج قوية تربطهما معا, ويمكن القول بوجود قاسم مشترك بين السوسيولوجيا والصحافة, فالأولى تبحث في حقيقة الظاهرة المجتمعية وليس الاجتماعية فقط, والثانية بذورها تهفو إلى تحقيق المسعى ذاته, وبالطبع فالفرق بينهما يكمن بامتياز في طرائق الاشتغال والمقاربة, وهذا كله يؤكد بأن الصحفي في حاجة قصوى إلى السوسيولوجيا وذلك حتى يتجاوز منطق القراءات الخشبية ويتسلح بالمعرفة في تعاليقه وتحاليله خصوصا, وإن القارئ اليوم لم يعد يرضى بالمنطق التسطيحي, وصار يهفو إلى قراءات علمية, والصحفي بطبيعة الحال لا يمكنه إنجاز فنون صحفية رصينة وذات مصداقية عالية, ما لم يرتكن إلى مقاربات علمية سوسيولوجية بالأساس.
n أترك لكم في الأخير مساحة حرة للتوقيع.
l تحياتي في الأخير إلى كل أساتذتي الأجلاء وأخص بالذكر منهم الدكتور زكي الجابر, الدكتور محمد سبيلا, الدكتور محمد عباس نور الدين. كما أتوجه بشكري الخاص إلى كل الذين وقفوا بجانبي ومازالوا يقدمون لي كل ألوان الدعم والمساعدة