zinab نائبة المديرVice Administrator
عدد المساهمات : 4698 نقاط : 7895 تاريخ التسجيل : 20/01/2008
بطاقة الشخصية تربوي:
| موضوع: مانديلا.. أسرار العبقرية والقيادة السبت أكتوبر 18, 2008 10:13 am | |
| :يمامة:
مانديلا.. أسرار العبقرية والقيادة
ريتشارد ستينجل/ تايم
رغم ابتعاده عن السلطة مازال نيلسون مانديلا مِلْء السمع والبصر، ورغم الوَهَن الذي أصابه بعد أن ناهز التسعين، إلا أن الرجل لا يزال قادرًا على التأثير في الآخرين. (كان الرجل محاربًا وسياسيًّا ورجل دولة وصاحب مبدأ وناشطًا وأستاذًا في التخطيط والإدارة)، هكذا وصفه رئيس تحرير مجلة 'تايم' الأمريكية، ريتشارد ستينجل، الذي عمل معه في التسعينات لمدة عامين أثناء كتابة سيرته الذاتية، والتي أتت بعنوان 'رحلتي الطويلة من أجل الحرية'. زاره ستينجيل في 'جوهانسبرج'، وكان من أهم ما سأله عنه (كيف يمكننا جعل العالم مكانًا أفضل للعيش)، وهنا ظهرت عبقرية مانديلا:
الوصية الأولى: الشجاعة ليست غيابًا للخوف، وإنما إلهام الآخرين بأن يتخطوا حواجزه. في إحدى رحلات مانديلا عام 1994، تعطّلت إحدى محركات الطائرة التي كان على متنها، بعد 20 دقيقة فقط من الإقلاع، وبدأ الفزع يتسلّل لقلوب البعض، وكان الأمر الوحيد الذي يهدئهم هو النظر إلى مانديلا، الذي كان يقرأ صحيفته بسكون، وكأنه مستقلّ للقطار، وفي طريقه للعمل كالمعتاد. هبطت الطائرة بسلام، وبمجرد أن استقل مانديلا سيارة من طراز (BMW)، التفت مانديلا إلى مرافقه، وقال: 'يا رجل، لقد كنتُ فزعًا هناك'. مانديلا يخاف، بل ويغشاه الرعب، ولا يستحي من ذكر ذلك علانية، حين يصف شعوره أيام سجنه، قائلا: 'بالطبع كنتُ خائفًا، ولا أستطيع التظاهر بأنني شجاع، وأستطيع هزيمة العالم بأسره. لكنك كقائد، لا ينبغي لك أن تُشعِر الشعب بهذا، بل ينبغي أن تُخْفي ذلك'.
الوصية الثانية: القيادة من المقدمة، دون إغفال القاعدة وتركها في الخلف. في عام 1985خضع لعملية جراحية بسبب تضخم في البروستاتا، وحينما عاد إلى السجن، تمّ التفريق بينه وبين رفقائه الآخرين، وكانت تلك هي المرة الأولى التي يتركهم فيها طيلة 21 عامًًا؛ لذلك تظاهروا من أجله، لكنه قال لهم: 'انتظروا دقيقة يا رجال؛ ربما يخرج الخير من رحم هذه الأزمة'. وبالفعل أتى الخير، وتفاوض مانديلا شخصيًا مع الحكومة العنصرية آنذاك، بعد عقود من قولهم: 'ليس بمقدور السجناء التفاوض'. وبعد خوضه كفاحًا مسلحًا أجبر الحكومة على الركوع، قرّر أن الوقت قد حان لبدء المحادثات مع المستبدين الذين قمعوه. وبقدر نجاحه في مقاومة الاستبداد، نجح مانديلا أيضًا في كسب قلوب القاعدة العريضة التي كانت تقف وراءه، الأمر الذي دفع أحدهم يومًا ليقول عنه: 'إنه رجل تاريخي، كان دائمًا يفكر فينا، وكان ينظر للأمام لا لأسابيع وشهور، بل لسنوات وعقود؛ وكان على دراية بأن التاريخ يقف في جانبه'.
الوصية الثالثة: القيادة من الصفوف الخلفية، وترك الآخرين يشعرون بأنهم في المقدمة. يعشق مانديلا الاستغراق في ذكريات طفولته، واسترجاع أوقات الظهيرة حيث كان يرعى فيها الأغنام، لذلك إذا ما حادثته ستجده يقول لك: 'هل تعلم أنه يجب عليك أن تقودهم من الخلف'، ثم سيرفع حاجبيه وهو ينظر إليك ليتأكّد أنكَ فهمتَ ما يرمي إليه. لقد تأثّر مانديلا بـ'جونجينتابا'، الزعيم القبلي الذي ربّاه في طفولته، حيث كان الأخير لا يتحدث أثناء أي اجتماع للقبيلة قبل أن ينتهي الجميع من حديثهم، رغم أنه زعيمهم. يقول مانديلا عن ذلك: 'لم تكن مهمة الزعيم إصدار الأوامر، بل تشكيل إجماع على رأي واحد'، وقد كان دائمًا يقول: 'لا تدخل الحوار في وقت مبكر'.
الوصية الرابعة: اعرف عدوّك، وتعلم رياضته المفضلة. بدأ مانديلا في ستينات القرن الماضي، تعلُّم اللغة الأفريكانية (Afrikaans)، التي كان يتحدث بها سكان جنوب إفريقيا البيض، المسئولين عن النظام العنصري. حاول أصدقاؤه ثَنْيَه عن عزمه، لكنه كان يرغب في معرفة وجهة نظر هؤلاء الناس؛ فقد كان يعلم أنه سيأتي يوم إما أن يقاتلهم فيه، أو يتفاوض معهم، وسواء خبأ له المستقبل هذا أم ذاك، فإن مصيره سيبقى مرتبطًا بهم. هذه الاستراتيجية لها فوائد كثيرة من بينها: أنّه بإجادته لغة عدوّه، يستطيع معرفة نقاط ضعفه وقوته، ثمّ وضع التكتيكات وفقًا لهذا. وكان نتيجة ذلك تأثُر الجميع بقدرة مانديلا على التحدث بالأفريكانية، ودرايته الواسعة بالتاريخ الإفريقي. هذا التأثر لم يتوقف عند سجانيه العاديين بل تَعَدَّاهم ليصل إلى أحد كبار ساسة نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، وهو وزير الخارجية السابق بيك بوثا، الذي وصف مانديلا فيما بعد بأنه 'قد أنار الطريق'.
الوصية الخامسة: أبقِ أصدقاءك قريبين، واجعل أعداءك أكثر قربًا. كثيرون من ضيوف مانديلا، الذين دعاهم إلى منزله الكائن بمقاطعة 'كونو' بجنوب إفريقيا، لم يكن يثق فيهم بشكل كامل. ورغم ذلك تناول معهم طعام الغداء، وتشاور معهم، بل وجاملهم و أعطاهم هدايا. يتمتع مانديلا بسحر خاص، يستخدمه للتأثير على منافسيه أكثر من استخدامه للتأثير على حلفائه. وقد كان لمانديلا فلسفته الخاصة في ذلك؛ حيث كان يؤمن بأن معانقة المنافسين إحدى وسائل إبقائهم تحت السيطرة؛ لأنهم بعيدًا عن دائرة تأثيره يكونون أكثر خطورة. كان يحب الولاء، لكنه لم يؤرقه يومًا، واعتاد دائمًا على قول: 'الناس يفعلون دائمًا ما يَصُبّ في مصلحتهم'؛ لأنها ببساطة الطبيعة البشرية، وهي ليست مثلبة أو عيبًا. أدرك مانديلا أن أفضل الطرق للتعامل مع من لا يثق فيهم، أن يُحيِّدهم باللطف والكياسة.
الوصية السادسة: المظاهر مهمة؛ فتذكر أن تبتسم. كان لمانديلا ابتسامة كالشمس التي تشرق على يومٍ غائِم، وكان يتمتع بجسم رياضي، فهو يشبه الملاكم الشهير محمد علي كلاي، وهذه سمة القادة، ولقد فطن مانديلا إلى حقيقة أن المظهر قد يساعده على الوصول إلى أهدافه. في الماضي كان أنيقًًا في حُلَّته، واليوم توحي قمصانه بأنه الجدّ المرح لإفريقيا الحديثة. في العام 1994 كان مانديلا يخوض معركة انتخابية، وكان يعلم وقتها أن المظهر مهمّ بقدر الجوهر. لم يكن يومًا خطيبًا مفوهًا، لذا كان يستعيض عن الحديث بالحركات المعبرة، وكان الناس يفهمون ذلك. لكن ما كان يميزه بشدة ابتسامته العريضة الساحرة، التي زيّنت غلاف مجلة 'تايم' الأمريكية منذ أيام. هذه الابتسامة كانت ترمز عند سكان جنوب إفريقيا البيض إلى أنه لين الجانب، ولطيف معهم، ولا يخفي لهم حقدًا. أما في حملاته الانتخابية فكانت صوره كلها تتركز على تلك الابتسامة.
الوصية السابعة: الأمور ليست فقط أبيض أو أسود. حينما بدأنا سلسلة لقاءاتنا معه، كنتُ دائمًا أسأل مانديلا هذا السؤال: (حينما قررتَ وقف الكفاح المسلح، أكان ذلك بسبب إدراكك أنك لا تمتلك القوة للإطاحة بالحكومة، أم بسبب إدراكك أنك تستطيع كسب التأييد الدولي بتخليك عن العنف؟ كان ينظر إلىّ نظرة فضول، ويقول: (لماذا لا يمكن الجمع بين الأمرين؟) لقد كان مانديلا رجلاً براجماتيًّا، وربما اكتسب ذلك من كونه رجلاً أسود رضخ تحت نِير نظام عنصري لسنوات، وذاق على يديه الويلات. فالدنيا ليست بهذه البساطة، وإن كان العقل البشري يميل إلى الحلول السهلة، إلا أن الواقع أكثر تعقيدًا.
الوصية الثامنة: الاعتزال.. قيادة من نوع آخر. في العام 1993 سألني مانديلا إذا كنتُ أعرف دولةً الحدّ الأدنى لسن التصويت فيها 18 سنة. فقمتُ ببعض الأبحاث، وقدمتُ إليه قائمة عادية، كان فيها أسماء دول كإندونيسيا وكوبا ونيكاراجوا وكوريا الشمالية وإيران. ورغم أن ما قدمته له كان عاديًا، إلا أنه هزّ رأسه بالموافقة، وأطلق ثناءً كبيرًا، وقال لي: (جيد جدًا، جيد جدًا). وبعدها بأسبوعين ظهر مانديلا في إحدى تليفزيونات جنوب إفريقيا، واقترح تخفيض سنّ الاقتراع إلى 14 سنة. لقد كان يحاول إذن تسويق الفكرة لنا، في الوقت الذي كان عليه مواجهة حقيقة أنه لن يفوز اليوم، ورغم ذلك تلقى ذلك بتواضع شديد، ولم يَتَجَهَّم. وكان ذلك درسًا عظيمًا آخر في القيادة. أن تعرف كيف تغادر دائرة الفشل، يعتبر أصعب قرار قد يتخذه القائد. ومن أوجه عديدة، كانت أفضل مناقب مانديلا كرئيس لجنوب إفريقيا تلك الطريقة التي اختار بها التنحي؛ فعند انتخابه في العام 1994 كان بمقدوره الضغط باتجاه أن يصبح رئيسًا مدى الحياة، وكانت الأمور مهيأة لذلك، والكثيرون كانوا مقتنعين باستحقاقه للرئاسة مقابل السنوات التي قضاها في السجن. وفي النهاية سألته: كيف يصبح الرجل الذي خرج من السجن، مختلفًا عن الشاب الذي دخله في البداية؟ لكنه كره هذا السؤال، وقال: (لقد خرجتُ ناضجًا). إنه إذن النضوج.. الكنز الذي خرج به الرجل من رحلته التي دخلت منذ أيام عامها التسعين.
| |
|