د. عبدالمجيد حميد الكبيسي : منظومية التربية القرآنية (رؤية منهجية)
منظومية التربية القرآنية
(رؤية منهجية)
د. عبدالمجيد حميد الكبيسي
لم يحظ كتاب ظهر على وجه الأرض منذ أن خلق الله السماوات والأرض ومن فيهنّ باهتمام هائل ونال مكانة علياء في نفوس الخليقة، مثل ما حظي به القرآن الكريم، أذ ترك بصماته المتميزة في تصوّرات الإنسان وأفكاره ومعتقداته، ولم يترك هذا القرآن العظيم جانبًا من جوانب الحياة إلا وتناوله بالبيان الواضح الذي لا غموض فيه. . فالقرآن أُنزله الله فيه كل علم، وفيه تبيان كل شيء. والقرآن الكريم ليس مواكبا للتطور فحسب بل هو متقدم على التطور نفسه .
ولذلك أقبل العلماء سواءً القدامى منهم أوالمحدثون على هذا الكتاب العظيم ، وألّفوا حوله الآلاف المؤلّفة من الكتب والدراسات والبحوث، مستعينين في ذلك بما ارشدهم الله من أوصاف وخصائص، وبما أخبر به أمين الأرض محمد .
وأذا كان النظام الإسلامي منظومة متكاملة قائمة على علاقات تبادلية شبكية تجتمع معا ليظهر الإسلام بالشكل الذي أ را ده الله عزوجل، فأن أي حذف او تحريف لجزء من أجزاء هذه المنظومة ، أو عدم إدارك أي علاقة قائمة بين أجزا ئها ، سيؤدي حتما إلى اختلال في هذا النظام.
وفي هذا السياق فأن التربية القرآنية هي من وضع الله ، العالم بكل شيء، والخالق لكل شيء، والمنهج التربوي في القرآن غير قابل للتدخل من قبل الإنسان ، وذلك لعدم قدرة الانسان على وضع منهج عام وشامل وصحيح بشكل مطلق، فهو يجهل نتائج تصرفاته، ومصائر أعماله الآنية، فكيف يضع منهجاً عاماً للتربية غير قابل للتجربة والخطأ، وهل يصدر الكامل من الناقص، فالإنسان مخلوق حادث، محكوم بالظروف والشروط التي تحيط به.
اولا.مفهوم المنظومية :
بدءا يمكن استخدام مصطلح ( المنظومية) مرادفا افتراضيا للمنحى المنظومي . فالمنظومية إطار شامل للأخذ والعطاء من والى المدخل المنظومي ،وذلك لإعداد وتدريب اجيال الحاضر والمستقبل . ويقصد بالمنظومية إعمال المنظومات في شتى مجالات الحياة ،سواء داخل المجتمع أو خارجه.
وفي هذا السياق فأن المنظومية تعبير عن نموذج كائن حي من حيث تلقائيته ونضجه وتواصله وتوالده الذاتي . فالكائنات الحية تنمو ولاتبنى من اجزاء متجمعة ،كما ان المنظومات الاجتماعية تنمو ايضا تلقائيا وتنتهي بواسطة أنشطة بشرية ، وتنطلق في اتجاه أهدافها المتطورة دائما وأبدا ، ولا تتطابق بالضرورة مع مخططات مسبقة مع مراعاة أعلى مستوى من العقلانية والمنطقية ، وعليه فأن التعايش والمواكبة لمنظومة معينة يكون عقلانيا مع قوى ذاتية الدفع وذاتية التنظيم وداخلية التناغم .حتى ان بعض العلماء يرى أن التدخل الخارجي في وظائف المنظومة قد يختزل بعض من كفاءتها ، وأذا زاد التدخل عن حد معين فقد يؤدي الى توقفها تماما .
ثانيا.مفهوم المنظومة:
نحن نعيش (بقوة الله تعالى) افقيا وعموديا وسط عالم هائل من المنظومات الضاربة في شعاب الكون والحياة والانسان ، بما يمكننا القول بأن كل شي يخضع الى تطبيق منحى النظم ، فكل شيء في هذا الوجود مادياً كان أو غير مادي عبارة عن منظومة في منظومات أكبر ،حتى أصبح هذا العالم بما فيه من أجرام وكائنات حية منظومة واحدة تتكون من منظومات أصغر فاصغر حتى تتناهى في الصغر.
وتعرف المنظومة إصطلاحا علي أنها تركيب مجموعة من الأجزاء المتداخلة التي تتفاعل مع بعضها البعض، وترتبط فيما بينها بعلاقات تأثير وتأثر مستمر، ويؤدي كل جزء منها وظيفة محددة وضرورية للمنظومة بأكملها . و المنظومة بيئة ذاتية التكامل تترابط مكوناتها وعناصرها بعضها ببعض ترابطاً وظيفياً محكماً، يقوم على أساس من التفاعل الحيوي بين عناصر هذه المنظومة ومكوناتها بعلاقات تبادلية شبكية تعمل معاً على تحقيق أهداف محددة. وتتميز هذه المنظومة بأنها بيئة مفتوحة وليست مغلقة، بيئة متطورة وليست جامدة، بيئة عنكبوتية التشابك وليست خطية التتابع.
ويتضح من ذلك أن المنظومة أكثر من مجرد مكوناتها أو كينوناتها، حيث إن مكونات المنظومة تتصل مع بعضها بعلاقات ضمن نمط تصميم معين يكوّن بنية المنظومة، ومن خلال دينامية هذه العلاقات تتحول المنظومة من مجرد كونها مجموعة كينونات مستقلة إلى حالة تكاملية لهذه الكينونات، واعتمادها على بعضها البعض. وبالتالى فإن أى تغيير فى أى مكون فرعى سيكون له تأثيره المعين على مكونات المنظومة الأخرى. تماماً كما هو الحال بالنسبة لجسم الإنسان إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر، حسب ما ورد فى الحديث الشريف.
ثالثا.الفرق بين النظام والمنظومة:
ينصرف الذهن عادة الى النظام والمنظومة كمصطلحين مترادفين في عموم الحديث ، غير ان هنالك فروقا بينهما عند التخصيص .
فتعريف النظام( System ) هو مجموعة من العناصر أو المكونات، والتي توجد بينها علاقات وحدود واضحة تفصل النظام عن المحيط، وعلاقات تبادلية معينة مع بيئة النظام.
اما المنظومة ( Systemic) كما ذكرت سابقا فهي بنية ذاتية متكاملة تترابط مكوناتها ببعض ترابطَا بيئيًا في علاقات تبادلية التأثير ديناميكية التفاعل قابلة للتكيف.
وهنالك فروق بين المصطلحين منها :
النظام وحدات أو عناصر بينها علاقات وهوكل متكامل ينظر إلى الكل والعناصر ، بينما المنظومة علاقات أحادية أو ثنائية أو شبكية متشعبة وهي بنية ذاتية متكامله تركز على العلاقات.
النظام يشير إلى الترتيب ويعتبرالإنسان آلة وكل أفعاله تتم وفق نظام محدد تحكمه وحدة تحكم دقيقة هي العقل ، بينما المنظومة هي الكل المنظم الذي يتضمن التلقائية والابتكارية وترى الإنسان سخر الآلة لخدمته.
النظام يهتم بالمعطيات الكمية للموارد والإمكانيات وحساب النتائج المتوقعة بشكل رياضي فهي تتكون من مدخلات ومخرجات وعمليات ويتم توجيهها من خلال التغذية الراجعة ، بينما المنظومة مكوناتها مترابطة ومتداخلة ومتناغمة ومتشابكة العلاقات وتحدها حدود اجتماعية ودينية وأخلاقية وهي مرنة تشجع على الابتكار .
رابعا.مفهوم التربية :
اختلف العلماء والباحثون المحدَثون في تعريفهم لمفهوم التربية، بحسب تخصّصاتهم واّتجاهاتهم الفكرية والتربويّة واختلاف نظراتهم لأهداف التربية وأغراضها ،ويمكن إجمال تلك التعريفات والمعاني المتعدّدة لمفهوم التربية على النحو الآتي:
●التربية بالمعنى التثقيفي:
هي غرس المعلومات والمهارات المعرفيّة من خلال مؤسّسات معيّنة أُنشئت خصيصا لهذا الغرض.. والتربية بهذا المعنى تصبح مرادفة لكلمة التعليم الذي هو جانب جزئي من جوانب التربية يقتصر على تنمية الجانب العقلي والمعرفي .
●التربية بالمعنى التهذيبي والتأديبي:
هي عمليّة توجيه وتهذيب واعية مقصودة بحيث تصل بالفرد إلى الكمال الإنساني وُترشده إلى حقوقه وواجباته.
أو هي: تزكية النفس وضبط تصرّفات الفرد بمعايير منضبطة وقواعد معروفة.
●التربية من الناحيّة الإجتماعيّة:
هي إعداد الإنسان بما يُنمّي شخصيّته ويُشعره بالمسؤوليّة نحو الأسرة والمجتمع .
أو هي: الجهد الذي يقوم به آباء شعب ومربّوه لإنشاء الأجيال القادمة على أساس نظريّة الحياة التي يؤمنون بها، فهي الجهود التي بواسطتها تغرس أغراض الجماعة .
● ومن أجل وضع تعريف شامل للتربيّة قيل في تعريفها – بالمعنى الواسع- بأّنها: كلّ عمليّة تساعد على تشكيل عقل الفرد وخلقه وجسمه باستثناء ما قد يتدخل في هذا التشكيل من عمليّات وراثيّة .أوأّنها النظام الإجتماعي الذي يعمل على تنمية النشء من النواحي الجسميّة والعقليّة والنفسية والأخلاقيّة حتى يمكنه أن يحيا حياة سويّة في البيئة التي يعيش فيها.
● وهذا يعني ان التعريف الحضاري الشامل للتربية يتضمن العملية الواعية المقصودة وغير المقصودة لإحداث نمو وتغير وتكيف مستمر للفرد من جميع جوانبه الجسمية والعقلية والوجدانية والاقتصادية والثقافية والعلمية، على أساس من خبرات الماضي وخصائص الحاضر واحتمالات المستقبل ، فتعمل على تشكيل الأجيال الجديدة في مجتمع إنساني معين في زمان معين ومكان معين وتنمية كل مكونات شخصياتهم المنفردة ، من خلال ما يكتسبونه من معارف واتجاهات ومها رات تجعل كل فرد مواطناً يحمل ثقافة مجتمعه، متكيف معها.
خامسا.القرآن الكريم :
القرآن الكريم هو كلام الله تعالى، المنزّل على رسوله محمد بواسطة جبريل –عليه السّلام- المنقول إلينا بالتواتر، المتعبّد بتلاوته، المعجز بأقصر سورة منه، المجموع بين دّفتي المصحف، المفتتح بسورة الفاتحة، المختتم بسورة الناس .
فالقران الكريم هو كتاب الله العظيم الذي أوحاه جل شأنه إلى نبيه محمدٍ e ليكون منهج حياةٍ و دستور أُمة . وهو المصدر الأول والرئيس لكل ما تحتاجه البشرية في مختلف المجالات العلمية ، وشتى الميادين المعرفية ، وفي كل جزئيةٍ من جزئيات حياتها مصداقاً لقوله Y : { مَا فَـرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْء ٍ} ( سورة الأنعام : من الآية 38 ) .
وهو كتاب هداية وتربية وتوجيه فضلا عن كونه كتاب عقيدة وعبادة وشريعة وأخلاق، وقد تعرّض للقضايا الأساسية التي تعرضت لها الفلسفة: المنشأ والمصير والغاية والسبيل، وحدد النظرة إلى الإنسان، والكون والحياة، وأشار إلى أساليب التربية وأهدافها ومقوماتها·
وليس هذا فحسب ؛ فإن من أبرز الميزات الحصرية للقرآن الكريم أنه يُعد مصدراً ومقياساً لغيره ولكل تفكيـرٍ يُراد وصفه بأنه إسلامي ، مثلما أنه المصدر والمقياس لكل تشريعٍ واستنباطٍ فقهي ، كونه المنبع الأساسي لكل وجهة نظرٍ إسلامية .
سادسا.التربية في القرآن الكريم :
عرفت البشرية منذ فجر التاريخ إلى يومنا هذا منهجين للتربية:
أولهما : المنهج الإلهى الذى أنزله الله على أنبيائه ورسله ليبينوا للناس ما نزل اليهم.
والثاني : المنهج الأرضي على اختلاف أنواعه ، وتعدد أغراضه ، تبعا لتصورات الناس لطبيعة الحياة والإنسان ، ولطبيعة الفرد والمجتمع ، فمن نظرة ترى الإنسان على أنه روح فحسب ، وأخرى ترى الإنسان جملة من الدوافع والشهوات يجب اشباعها ، وثالثة تراه فردا فى قطيع أشبه ما يكون بالحيوان ، ورابعة تجعله سيدا مطلقا على هذا الكون، وتعكس هذه التصورات جميعا فقدان التوازن والاعتدال ، شأنها شأن كل منهج من مناهج البشر القاصرة .
أن النفس الإنسانية هي محل رحمة العناية الربانية ، كرمها بالعقل لتميز به النافع من الضار، وتعرف به الخير من الشر ، وأمدها بالرسالات السماوية لتذكر الإنسان بما ركز فى فطرته من معرفة ربه وخالقه. وأنعم عليها بشتى النعم، وأحاطها بعنايتة وحفظه وتسخير ملائكته "يحفظونه من أمر الله" ، وأوجد فيها دوافع ورغبات ومكن لها من تعريف هذه الدوافع وتحقيق تلك الرغبات فى أماكن مأمونه بطرق موزونة واساليب مباحة .
وانطلاقاً من ذلك الشمول فقد كان للقرآن الكريم أثرٌ كبيرٌ وواضحٌ في تربية الرسول وصحابته الكرام ؛ الذين تربوا في ضوء منهجه الرباني ، وتتلمذوا على معاني آياته الكريمة ، فنالوا به الشرف العظيم ، والمنـزلة الرفيعة التي جعلتهم قادةً للبشر من الطراز الآول . وما ذلك إلا لشدة تعلقهم وعظيم تأثرهم - رضوان الله عليهم - بالقرآن الكريم ، وحرصهم على الالتزام بمنهجه ، والتخلق بأخلاقه ، والعمل بأوامره ، والبعد عن نواهيه .
تعد الرسالة السماوية أرفع وأرقى صور الاتصال التي عرفها البشر، لأنها تمت بين الخالق جل وعلا، والمخلوق الذي كرمه الله سبحانه وتعالى بنعمة الخلق، وهبة العقل، فوجه إليه خطابه المباشر من خلال القرآن الكريم،موضحا له ميثاق حياته على هذه الأرض، وكيفية تنفيذ واجبات العبادة والخلافة بصورة صحيحة ، تقوده إلى حياة دنيوية سعيدة ، وحياة أخروية مآلها جنة الخلد .
حفل القرآن الكريم بالأيات التي تبين منزلة القرآن الكريم العظيمة ودوره الفاعل في تربية الإنسان، وقد حث القرآن الكريم البشرية على تدبره وفهمه والاتعاظ بما جاء فيه قال تعالى {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً} (النساء:82). ووصف الذين لا يتدبرونه بأن قلوبهم مقفلة فقال تعالى {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها} (محمد:24).
فمثلا ، اول مانزل من القران الكربم قوله تعالى {اقرأ باسم ربك الذي خلق} (العلق:1) ولم يقل باسم الله، وذلك لأنه أراد سبحانه منذ البدء أن يشير إلى أن هذا الدستور الإلهي إنما هو تربية، إنه ينزل باسم المربي، وما دامت هذه التربية إلهية المصدر فهي إذن محكمة وكاملة في جميع جوانبها.
إن الله سبحانه وتعالى بين في هذه الآية أن هذه التربية يجب أن تتقبل دون شك أو تردد لأنها من الذي خلق فكوّن كل خلية في الجسم ونسّقها مع غيرها، وهو محيط علما بالإنسان، فهذه التربية ليست من كائن لا صلة له بالمخلوق، وإنما هي تربية الخالق نفسه الذي أحاط علماً بدقائق الخلق، وعرف ما تحتاج إليه مخلوقاته، وعرف الضار والنافع، وعرف الخير والشر، فتربيته إذا قيادة على علم، وهداية على بصيرة. وبالتالي فهي تربية خالدة، لا تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، لأن الإنسان هو الإنسان أينما وجد، وأينما كان.
القرآن الكريم هو دستور الحياة وكتاب نور وعلم وهداية، ومنهج شامل وبيان لكل جوانب الحياة وما يحتاجه الانسان من معرفة تحدد له أطر العلاقة بربه ونفسه ومجتمعه، وهو كتاب تربية وإعداد سماوي انطلاقا من الإيمان بالله الواحد الأحد رب العالمين، فالله تعالى هو رب العالمين, ويكفي كما ذكرنا اعلاه أن كلمة الرب مشتقة من التربية وهي تحمل معاني العناية والرعاية والإصلاح والتأديب،وعليه فان الله الخالق هو المربي والمؤدب للإنسان من خلال الإنبياء والرسالات السماوية التي تضمنت أسمى وأرفع القيم الأخلاقية التي ترتقي بالإنسان وتجعله مؤهلا لمسؤولية خلافة الله في الأرض، من خلال العلاقة الأبدية علاقة الخالقية (كل شئ في هذا الوجود مخلوق لخالق يتصف بالعلم والقدرة والإرادة والحكمة والرشد والوحدانية المطلقة.
وهكذا أنزل الله –عزّ وجلّ- القرآن الكريم ليكون منهاج حياة تسعد البشريّة بالأخذ بتوجيهاته وتشريعاته ، وبما حوى من مفاهيم ومبادئ تربويّة صالحة لتربية البشر مهما تنوّعت أجناسهم وألوانهم وطبقاتهم وقدراتهم، فالقرآن الكريم ليس بحثًا من فكر البشر يقبل الخطأ والصواب، ولا مُثلا معّلقة في الفضاء ولا نظريّة فكريّة تتمّلى بالأذهان ، بل كلام ربّ العالمين الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، أنزله الله تعالى لنّتخذه منهجَ تربيةٍ وواقعًا يُعاش ودستورَحياةٍ، بكلّ ما تحمله هذه الكلمة مِن معان واقعيّة شعوريّة وفكريّة وسلوكيّة ودستوريّة في كلّ نواحي الحياة.
ورسول الله هو المربي الأول لهذه الأمة بالقرآن، فقد أشرف على تربية جيل من الناس فكان ذلك الجيل (الرعيل الأول) ظاهرة فريدة عجيبة لم يشهد التاريخ لها مثيلا ، بحيث استطاع هذا الرجل العظيم أن يعيد بناء الإنسان العربي الجاهلي ويخرجه من ظلمات التصحر الفكري والعقائدي والأخلاقي والإجتماعي الى نور الايمان والمعرفة وسمو الخلق وسماحة الذات {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ } (الجمعة:2) .
وبهذا الأسلوب التربوي الفذ الفريد المتكامل استطاع القرآن أن يربي الرعيل الأول هذه التربية العلياء، وأن يستحق الخطاب من الله جل وعلا: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } (آل عمران:110).وهو مصدر التربية الأول الذي ما فرط الله جل وعلا فيه من شيء، وواجب على جميع مخططي وواضعي المناهج التربوية لأبنائنا وشبابنا أن يعودوا إلى هذا النبع الكريم الصافي، وإلى معين التربية الأول، إلى القرآن الكريم ، حيث المجد والسؤدد في الدارين.
سابعا.التربية الإسلامية :
أن التربية الإسلامية بوصفها علما تربويا ، تُعد من جهة التصنيف علمٌا ثنائي المصدر ؛ لأنها تجمع بين العلوم والمصادر الشرعية الإسلامية من جهة ، والعلوم والمصادر التربوية من جهةٍ أُخرى . وهي بذلك متميزةٌ ومنفردةٌ عن غيرها من أنواع التربية الأخرى التي جرت العادة أن تعتمد في مصادرها على فلسفاتٍ ، أو نظرياتٍ ، أو مذاهب ، أو أفكار ، أو نحو ذلك من الاجتهادات و الآراء البشرية المختلفة .
وبذلك يمكن القول : إن مصادر التربية الإسلامية تنقسم إلى قسمين رئيسيين هما :
1. المصادر الأصلية ( الإلهيـة ) : وتتمثل في آيات القرآن الكريم ، وأحاديث السنة النبوية الثابتة التي تشترك جميعها في كونها جاءت وحياً من الله الخالق سبحانه . وهي مصادر أساسية لا يمكن أن تتحقق التربية الإسلامية الصحيحة أو تقوم بدونها .
2. المصادر الفرعية ( البشرية ) : وتشمل مجموع تراث ومنهج السلف الصالح لهذه الأمة ، وما فيه من اجتهاداتٍ ، وآراءٍ ، وأفكارٍ ، وتطبيقاتٍ تربويةٍ لعلماء ، وفقهاء ، ومفكري المسلمين في الماضي والحاضر ؛ إضافةً إلى مجموع الدراسات ، والأبحاث ، والملاحظات العلمية المُعاصرة التي تُعنى بالجانب التربوي وقضاياه المختلفة ؛ شريطة ألاَّ يؤخذ من هذه المصادر إلا ما كان صحيحاً ، وصالحاً ، وإيجابياً ، وغير متعارضٍ مع ما جاء في المصادر الأصلية المتمثلة في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة .
تعد التربية الاسلامية تربية مستقلة بذاتها وكيانها لها اساليبها واهدافها وخصائصها التي تميزها عن غيرها من الاتجاهات التربوية الاخرى. فهي تستمد تعاليمها الاساسية من القران الكريم والسنة النبوية وهي بذلك ذات اصول خالدة بخلود القرآن الكريم. قال تعالى {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر:9). ومنزلة العلماء وعلو درجاتهم لاجدال فيه قال تعالى {وَفِي أَنْفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ } (الذاريات :21)
وللتربية الإسلامية اهداف واضحة وهي :
1.أهداف عامة:
إن وظيفة الإنسان في الأرض هي عبادة الله إذ جاء في قوله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}( الذاريات :56) وان معنى العبادة هي غاية الوجود الإنساني أو هي وظيفة الإنسان الأولى, وانها أوسع وأشمل من مجرد الشعائر, وأن حقيقة العبادة تتمثل في أمرين رئيسين:
1.1. هو استقرار معنى العبودية لله في النفس , أي استقرار الشعور على أن هناك عبداً يَعبد ورباً يُعبد.
1. 2. هو التوجه إلى الله: بكل حركة في الضمير ,وكل حركة عن كل شعور، ومن كل معنى غير معنى التعبد لله.
2.أهداف خاصة:
1.2. تكوين الإنسان العابد الصالح, وذلك من خلال إعداد الشخصية المتكاملة الموحدة لله , والمؤمنة به وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر, والقضاء خيره وشره،مع التمسك بأركان الإسلام والسلوك وفقاً لها في السر والعلن مع الفرد والجماعة.
2. 2. تربية الإنسان العابد بأبعاده الجسمية والروحية والخلقية والنفسية المختلفة، لأن الطبيعة الإنسانية في نظر القرآن الكريم تشمل هذه الأبعاد جميعاً، فالتربية القرآنية تقوم على أساس الواقع المادي والروحي للإنسان دون الاقتصار على جانب واحد فقط.
ثامنا. التربية القرآنية :
من المتعارف عليه أنّ مصادر التربية الإسلاميّة كما مر بنا هي مصادر التشريع الإسلامي، وهذا يعني أنّ التربية القرآنيّة جزء من التربية الإسلاميّة، بل هي أساسها وأصلها؛ باعتبار القرآن الكريم هو روح التربية الإسلاميّة وركنها وأساسها.. وعليه يمكن القول إن التربية القرآنيّة هي: "التربية الشاملة القائمة في كلّ جانب منها على القرآن الكريم المنبثقة من تعاليمه ومفاهيمه." فالتربية القرآنية تقوم على تعريف الإنسان بنفسه ، و بالمكونات المحيطة به ، و تجعل من الإيمان بالله و اليوم الآخر نقطة الإرتكاز في التعامل مع كل شيء .
والتربية القرآنية تذكر الإنسان بالنعم وتوجهه إلى المنعم، كما تلفت نظره إلى المخلوقات، ليعرف من خلالها رب الأرض والسموات. وإن أساس هذه التربية هو الإيمان بالله رباً وإلهاً واحداً أحداً لا شريك له ولا ند ولا مثيل. وبهذا الإيمان يكون صلاح الفرد والمجتمع والخير كله.
وعلى ضوء المعطيات السابقة – يمكن تعريف التربية القرآنيّة بأّنها:
"المنهج القرآني الذي أودعه الله - عزّ وجلّ- في كتابه لصياغة الإنسان وتوجيهه ورعاية جوانب نموّه المختلفة بما ينسجم مع فطرته وضمان سعادته في الدنيا والآخرة "..
وهذا يعني أنّ التربية القرآنيّة بمنهجها ومبادئها وأساليبها ووسائلها مستمدّة مستنبطة( بما
استطاع العقل البشري استنباطه ) من القرآن الكريم، ولا يعني ذلك الإقتصار ( في منهجيّة البحث والدراسة عن التربية القرآنيّة) على النصّ القرآني، بل يمكن الإستناد إلى ما صحّ من الأحاديث النبويّة وكلام الصحابة والتابعين ممّا هو شارح وموضّح ومفسّر للنصّ القرآني.
وخلاصة القول يمكن تعريف التربية القرآنية بأنها عملية مقصودة تستضيء بنور القران الكريم(المعايير القيمية والأخلاقية والروحية في القرآن الكريم) تهدف إلى تنشئة جميع جوانب شخصية الفرد, لتحقيق العبودية لله تعالى, ويقوم بها أفراد ذوو كفاءة عالية لتوجيه تعلم أفراد آخرين, وفق طرق وأساليب مناسبة باستخدام محتوى تعليمي محدد وطرق تقويم مناسبة . فالمنهج(ومايتعلق به من المحتوى والمداخل والاستراتيجيات والخطط) قراني خالص، اما مهمة الافراد المعلمين وشخصياتهم فتنحصر في اسلوب الإيصال للمتلقين .
ونجد التربية القرآنية، وهي التربية الأسمى بطبيعة الحال، قد سبقت ذلك الجهد البشرى في مجال زيادة الخصائص بقرون طويلة، فنلاحظ على سبيل المثال إن بعض الأساليب القرآنية التي استخدمت فيها صورة أي فكرة معروضة مع زيادة خصائصها تدريجياً، يتم الإفصاح في نهاية المشهد عن صورتها الكاملة المتكاملة ، وذلك لإحداث الأثر المطلوب .
و قد حشد القرآن الكريم من الأدلة على هذا الجانب الشئ الكثير ، فى الكون كله، مشاهده وعجائبه ، السماء والأرض وما فيهما وما بينهما تأتى تارة مجملة، وأخرى مفصلة.
وكما اتخذت من النعم الكثيرة المبثوثة لهذا الإنسان دليلا وحافزا له على الإيمان بالله فقد اتخذت من الإنسان نفسه منذ تكوينه وتطور خلقه ومرحلة حياته ومماته وبعثه ونشره أقوى دليل، إذ من الإنسان على نفسه دليل {وفي أنفسكم أفلا تبصرون } .(الذاريات :21)
كان النبي محمد (معلم البشرية) في سلوكه قرانا يمشي على الارض ويربي صحابته بالقران ، فقد كان على سبيل المثال يتخول أصحابه بالموعظة، ولا يثقل عليهم خوفاً من السآمة. وهذا الأدب النبوي أسلوب تربوي يعرفنا أن الزيادة عن الحد الطبيعي مملة، وقد تدفع المتعلم إلى رفض العلم والانصراف عنه. ويمكننا التعرف المماثل على غيض من فيض أسس المنهج التربوي للمعلم والمتعلم التي علمها محمد للاجيال الصاعدة منها :
1. قيمة العلم ومكانته:
حيث يتضح ذلك من حديث ابن مسعود أن النبي قال: "لا حسد إلا في اثنتين، رجل آتاه الله مالاً فسلط على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة، فهو يقضي بها ويعلمها" .
2.إتمام العمل على خير وجه:
تجد ذلك في حديث عبد الله ابن عمر ، حيث يقول: تخلف عنا الرسول في سفرة سفرناها فأدركنا، وقد أرهقتنا الصلاة ونحن نتوضأ فجعلنا نمسح على أرجلنا، فنادى بأعلى صوته، ويل للأعقاب من النار مرتين أو ثلاثة.
3. جذب انتباه الطلاب بإشراكهم في الحديث:
في حديث ابن عمر ، عن النبي أنه قال:"إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المؤمن حدثوني ما هي ؟
4. الأدب في الحديث مع المعلم وعدم قطع كلامه:
في حديث أبي هريرة قال: بينما النبي في مجلس يحدث القوم جاءه أعرابي فقال متى الساعة ؟ فمضى رسول الله يحدث، فقال بعض القوم سمع ما قال فكره ما قال وقال بعضهم بل لم يسمع، حتى إذا قضى حديثه قال أين أراه السائل عن الساعة ؟ قال ها أنا يا رسول الله. قال فإذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة. قال كيف إضاعتها ؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة.
5. السماحة واليسر في المعلم:
عن أنس عن النبي أنه قال: "يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا" .
6. مراعاة الفروق الفردية:
في قول النبي "حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يُكذّب الله ورسوله" .
7. التكرار حتى يفهم الجميع:
فعن أنس أن النبي كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثة حتى نفهم.
8. الصبر والاحتمال من جانب المعلم ، والأدب والاستئذان من جانب المتعلم:
عن أنس بن مالك يقول بينما نحن جلوس مع النبي في المسجد دخل رجل على جمل فأناخه في المسجد ثم عقله ثم قال لهم أيكم محمد والنبي متكئ بين ظهرانيهم. فقلنا هذا الرجل الأبيض المتكئ فقال له الرجل بن عبد المطلب، فقال له النبي قد أجبتك، فقال الرجل للنبي إني سائلك فمشدد عليك في المسألة فلا تجد علي في نفسك، فقال: سل عما بدا لك. فقال أسألك بربك ورب من قبلك... الحديث .
9. يقظة المتعلم والانتباه التام:
فعن شريح أنه قال لعمرو ابن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكة ائذن لي أيها الأمير أحدثك قولاً قال به النبي : الغد يوم الفتح سمعته أذناى، ووعاه قلبي، وأبصرته عيناي، حين تكلم به ..... الحديث.
تاسعا.أهميّة التربية القرآنيّة :
تتوخى التربية القرانية تحقيق ثلاث غايات أساسية هي:
الغاية الاولى : معرفة الإنسان بكل أبعاده.
الغاية الثانية : معرفة الكون و علاقة الإنسان به.
الغاية الثالثة : معرفة الخالق، والإيمان به، وإفراده بالعبودية .
ومن هنا تأتي أهمية التربية القرآنية في :
1.أن التربية القرآنية للأفراد تتضمن منظومة قيميّة رفيعة المستوى تسير في نهجين متوازيين لاينفكان أبدا :
النهج الاول : يبدأ بالتنفير من عوامل السلوك السيء .
النهج الثاني : يبدأ بالجذب الى عوامل السلوك المستحسن .
2. تختلف التربية القرآنية عن التربية البشرية في عدة جوانب , أهمها :
2. 1.التربية القرآنية صياغة إهية محكمة لا تقبل جدلا , ولا يجري عليها تغيير وتتماس مع الخواص النفسية المركوزة في فطرة البشر , فكأنها صمام أمان للسلوك الانساني اذا ما حاول الخروج على الفطرة .
2. 2.التربية القرآنية كاملة : فهي وحدة واحدة تحمل كل مقومات البقاء والعطاء.
2. 3.التربية القرآنية تستغني بنفسها عن العلوم الأخرى , ذلك لأن القرآن صالح لكل زمان ومكان ، بل إنه متقدم على التطور والتقدم ،ومن ثم لاتحتاج تشرعاته الى أية مساعدة بشرية .
2. 4.التربية القرآنية كلية بمعنى أنها تنظم سلوك الانسان من حيث هو انسان .
2. 5.التربية القرآنية كونية عالمية , فهى تتخطى حواجز المكان , ولاتخضع للعوامل القومية والجغرافية والأيديولوجية .
3. وسائط التربية القرآنية : المثل ، القصة القرآنية ، الكلمة , حيث نجد الكلمة في السياق القرآني تؤدي وظيفة نفسية متعددة الأبعاد ( الترغيب - التنفير - اثارة الفزع - اثارة العطف والحنان ....) .
4. تكمن وتعظم أهميّة التربية القرآنيّة في أّنها مستخلصة من كتاب الله وأّنها تعاليم وتوجيهات من العليم الحكيم "الذي خلق الإنسان وهو أعلم بما يُحّقق له السعادة والصلاح:
{أ لا يَعْلَمُ مَنْ خَلق وَهُوَ اللَّطِيف الْخبيرُ}( تبارك:14) ، وأنّ الوحي قد وضع لنا الأسس العامّة للمعرفة والفلسفة التربويّة، وشرّع لنا العبادات والمعاملات كمجالات للتدريب والتطبيقات العمليّة ، ولعلّ في العقيدة وفي تنوّع العبادات وتكاملها ما يكفي لبناء الإنسان الصالح المُصلِح.
5. اختصر لنا الوحي كثيرًا من تجارب الخطأ والصواب ووّفر علينا الكثير من إهدار الجهود والطاقات في مجال النظريّة الفلسفيّة.. ويبقى المطلوب أن نجتهد نحن في إبداع الوسائل والآليات التي من خلالها نصل بالإنسان إلى الإسلام وإلى درجة كمال النضج الإنسان . ذلك أن أهم مصادر المعرفة هو الوحي، وهو المصدر الوحيد عن عالم الغيب، مثلما أن العقل مصدر المعرفة عن عالم الشهادة .
عاشرا. منظومة العملية التربوية في القرآن الكريم:
من مبادئ التربية التي أشار إليها القرآن الكريم على سبيل المثال: القابلية والإعداد للتربية، والتدرج فيها، ومراعاة الفروق الفردية، وإلزامية التعليم، ومجانيته، ومن سبق المسلمين إلى تطبيق هذه المبادئ، وأثر القرآن في النهضة العلمية ،تتضح منهجية القرآن الكريم في تربية الإنسان وتعليمه ببلورة أهم المرتكزات الأساسية للتربية القرآنية والنماذج المستوحاة من آي القرآن الكريم، من خلال التفاعل مع النصوص بشكل متكامل لتوضيح المعاني والعلاقات وتهيئة النفس البشرية لتدبرها وتذويتها في آخر الأمر في منظومة واحدة، والمخطط (1)، والمخطط(2) يبينان عناصر هذه المنظومة:
المخطط (1)
منظومة العملية التربوية في القرآن الكريم
المخطط (2)
منظومة مدخلات العملية التربوية في القرآن الكريم
إن الباحث في القرآن الكريم الذي يحاول استطلاع المفاهيم التي تشكل مرتكزات أساسية لعملية التربية سيواجه كما هائلاً من هذه المفاهيم التي تنطوي في مظلة منهجية القرآن الكريم في تربية الإنسان يصعب حصرها. ويمكن عرض بعض أهم المرتكزات التربوية كما جاءت في القرآن الكريم، في المخطط (3) :
المخطط (3)
مرتكزات المنهج القرآني في تربية الانسان
اذ هنالك مجموعة من المرتكزات التربوية أكدت عليها النصوص القرآنية منها:
1. مكانة القرآن ومصداقيته في تلقي المعرفة.
2. وحدة الوجود ووحدة الخلق ووحدة التدبير ووحدانية الخالق.
3. تمييز الإنسان بخصائصه العقلية والوجدانية واستخلافه في الأرض.
4. مهمة الإنسان في الحياة الإيمان بالله الواحد الخالق والتسليم والانقياد له بالعبادة والطاعة والامتثال للتكاليف الشرعية والعمل على أعمار الأرض والإحسان في كل أمر.
5. استخدم القرآن مجموعة هائلة من الأساليب التربوية المتنوعة المتعددة من أهمها: تنوع الخطاب القرآني، التربية بأسماء الله صفاته، التربية بالحدث، التربية بأحداث اليوم الآخر، التربية بالقدوة الحسنة، التربية بالمواعظ والتوصيات، التربية بالتعزيز والعقاب، التربية بالقصة والتربية بالعادة … الخ. وسيتم تناولها في المبحث الثالث عشر من الفصل الحالي .
6. حدد القرآن الكريم معايير معينة استخدمها كمحكات للعمل التربوي مثل قيمة الحق والقوة والفردية مقابل الجماعية والسببية والخيرية والتوازن والبيئة الاجتماعية السليمة ولدى استعراض النصوص القرآنية يجد الباحث أن هذه المرتكزات وهذه الأساليب والمحكات والقيم التي استخدمها القرآن كمعايير للعمل جميعها تعمل معاً كمنظومة واحدة في آن واحد.
حادي عشر. منظومة الأساليب القرآنية في التربية:
نجد في القرآن الكريم الأساليب التربوية الكثيرة والمتعددة الأنماط و متنوعة الأشكال والتي تراعي أحوال الفئات المستهدفة وامكانياتهم وقدراتهم العلمية والإستيعابية ، فهي تخاطب العقل وتوجه الانفعالات، وتشحن العواطف وتكون العادات الحسنة ، وهي كثيرة مثل التربية بالوعظ والإرشاد، التربية بالقصة والحوار،التربية بالتشبيه وضرب الأمثال، التربية بالعمل والعادة والقدوة واللعب والترغيب والترهيب... نذكر منها:
1. التربية بالترغيب:
{وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَـذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة: 25)
2. التربية بالترهيب:
{قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً} (الكهف:87(
3. التربية بالترغيب والترهيب معا:
{فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلُيماً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً}( النساء:17 )
4.التربية بالعقوبة الدنيوية:
{إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (المائدة:33(
5. التربية بالعقوبة الأخروية:
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً} (النساء:56(
6. التربية بالقصة:
{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَـذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} (يوسف3:)
7. التربية بالمثل:
{مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (البقرة:261(
8.التربية بالجدل (الحوار):
{وَقَالَ اللّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلـهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ} (النحل:51)
9. التربية بالموعظة:
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (النحل:90(
10.التربية بالقدوة:
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} (الأحزاب: 21(
11. التربية بالعبادة:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}( البقرة:183(
12.(التربية بالأحداث:
{فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ}( فصلت:13(
13.التربية بتدرج الأحكام:
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} (البقرة:219)
14.. التربية بالملاحظة والنظر:
{أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} (الغاشية:17(
15. التربية بالصحبة:
{قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} (الكهف:66(
16. التربية من خلال تغيير البيئة:
{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً} (النساء:97(
..وغير ذلك من الوسائل التربوية.
المخطط (4)
منظومة الأساليب القرآنية في التربية
ولا بد من الإشارة الى الأسلوب الوعظي الهادئ الذي يقدمه القرآن الكريم ويدعو الى امتثاله والأخذ به، وذلك عندما يحدثنا على سبيل المثال عن لقمان (ع) وتعاهده لولده بالوعظ والتربية{يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ، وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}( لقمان: 17-18)
ثاني عشر. منظومة معايير العمل التربوي في القران الكريم :
حدد القرآن الكريم معايير معينة استخدمها بوصفها محكات للعمل التربوي بما يتناسب ومنزلة الإنسان في هذا الوجود ، وتميزه على كثير من المخلوقات واستخلافه في الأرض. إن مهمة استخلافه في الأرض مسألة دقيقة وعظيمة يحتاج فيها الإنسان إلى وعي وإرادة ليكون سيداً لهذه الأرض ، وليكون عنصر خير وإصلاح فيها ، وإلا انقلب الأمر إلى الضد فيصبح الإنسان عبداً للشهوات فيخلد إلى الأرض ويعيث فيها فساداً ، قال تعالى : { وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} ( القصص: 77) وقال ايضا : {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ۚ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ۚ ذَٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۚ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } (الاعراف:176) . ويوضح المخطط( 5) بعض المعايير الهامة للسلوك، حيث ركز القرآن في منهجه التربوى على مجموعة من القيم المثلى كالخيرية و التوازن و العمل بالأسباب و المحبة و القوة و التقوى مراعيا متطلبات فرديته و إجتماعيته :
المخطط (5)
منظومة معايير العمل التربوي في القران الكريم
ثالث عشر .منظومية الوحدة الموضوعيّة للسورة القرآنيّة :
مع أنّ معظم الآيات والمقاطع القرآنيّة قد نزلت منجّمة، إ ّ لا أنّ آيات السورة الواحدة ُتشكل وحدة موضوعيّة واحدة، بل إنّ ترتيب الآيات القرآنيّة في السورة الواحدة على النحو الذي
انتهت إليه بوفاة النبيّ والتي ما نزلت في معظمه إ لا منجّمة مفرّقة على فترات متقاربة (أو)متراخية إلا ليؤ ّكد لنا أنّ لكل سورة من القرآن الكريم وحدة موضوعيّة موحّدة وأنّ لها شخصيّة فريدة خاصّة، وُتعالج موضوعًا رئيسًا أساسيًّا، تندرج معه عدّة موضوعات جزئيّة فرعيّة حتى تبدو الجُمل في الآية القرآنيّة ومجموعة الآيات القرآنيّة في السورة الواحدة متعانقة حول موضوع كّلي واحد. إذ نلاحظ أنّ السورة القرآنيّة تشتمل على وحدات معا ن متماسكة ُتشبه حلقات مترابطات مشمولات بحلقة أكبر منها وهي داخلة فيها ومتعّلقة بها .
إنّ مَثل الجُمل القرآنيّة وما تحمل من معا ن ودلالات كمَثل حبّات نفيسات الجوهر،نظمت في عقد متكامل تمّثله السورة القرآنيّة، مع ملاحظة أّنه ليس من الضروري أن تكون حبّات العقد كّلها من صنف واحد كاللؤلؤ مثلا، إ لا أنّ الناظم لها قد جعل لها منطلقًا واحدًا أو مركزًا ترجع إليه.وقد قال بهذا القول وذهب إليه كثير من المفسّرين قديمًا وحديثًا، ونجد ذلك جليًّا في تفاسيرهم وكتاباتهم. فلا بدّ لمن أراد فهم القرآن الكريم من النظر في أوّل السورة وآخرها لأنّ جملها متعّلقة ببعضها ولأنّ السورة ( سواء نزلت بكمالها دفعة واحدة أم نزلت شيئًا بعد شيء) تمّثل قضيّة واحدة.
رابع عشر .منظومية المدخل التربوي في القرآن الكريم :
1.النموذج الخطي والنموذج المنظومي :
يمكن تمثيل دينامية عمل التربية القرانية بأنموذج النظم الأساسي الذي يتكون من المدخلات والعمليات والمخرجات ، ويمكن ضبط عمل المنظومة عن طريق عملية التغذية الراجعة. ومن هنا كان التعامل مع المدخل المنظومي في التربية والتعليم منهجاً فكرياً يرشدنا على نحو نظامي أو نسقي إلى حل المشكلات،وهو ليس مجموعة ثابتة من الإجراءات أو الخطوات المقننة، علينا اتباعها والسير على هداها بحثاً عن حل لمشكلة ما ، بقدر ما هو استراتيجية عامة دينامية تتغير وفق طبيعة المشكلة ، وقد عمل أصحاب وجهة النظر هذه على التفريق بين المدخل المنظومي والمدخل الخطي في التربية والتعليم ،وكان ابرز ما ذكر في هذا المجال عن المدخل الخطي أنه ليس إلا تعاملا محدوداً مع العناصر كل على حده دون مراعاة العلاقات الشمولية بين تلك العناصر، وإذا نظرنا في القرآن الكريم نجد أنه وصف كثيراً من المواقف المرذولة التي تنبئ بمواصفات المدخل الخطي وشنع عليها كالتقليد والتعصب الأعمى واتباع الهوى وغيرها. وقد درج الباحثون على تصوير كل من المدخلين على شكل نموذج كما هو واضح في المخطط (6) والمخطط (7) :
المخطط (6)
نموذج المدخل الخطي
المخطط ( 7)
نموذج المدخل المنظومي
إن القرآن الكريم وهو يعرض الأفكار والمفاهيم والأوامر والنواهي والترغيب والترهيب وإخبار الغيب وإخبار الواقع لم يعرضها مشتتة متفرقة لا تربطها رابطة ، بل جاء مضمونه التربوي وحدة واحدة ومنهجاً مترابطاً شاملاً واضح المعالم يمكن استقراؤه من خلال آياته. وبهذا يتيح القران الكريم للباحث في بلورة بعض معالم هذا المنهج في ضوء رؤية منظومية تستجلي المفاهيم والغايات وتوضح العلاقات ، وتبين كيف بنى هذا القرآن العظيم شخصية الإنسان المؤمن والمجتمع المتحضر .
2. تنمية التفكير :
اعتنى القرآن الكريم عناية خاصة بتنمية التفكير من كل جوانبه ، وركز على العلاقات بين الأحداث والظواهر الطبيعية والاجتماعية ، ووضع معايير ضابطة لطاقة التفكير لدى الفرد والمجتمع ، وذلك حرصاً عليها من الضياع والتشتت ، وتوجيهها وجهة صحيحة مرتبطة بالواقع والبيئة التى تحيط بالإنسان ، من اجل مساعدته على التكيف والموائمة فى نفس الوقت حتى يتمكن من القيام بعبء مسؤوليته التى حمّلها الخالق له وهى الاستخلاف فى الأرض وإعمارها، وقد تعرض القرآن فى آياته الكريمات للفارق الواضح بين التفكير الخطى والتفكير المنظومى ، منها على سبيل المثال:
2. 1. فيما يتعلق بالمدخل الخطى فى التفكير:
المدخل الخطى فى التفكير هو منهج التفكير الذي يهتم بالأفكار والحقائق كل على حدة ، ولا يهتم بالعلاقات بين هذه الحقائق والأفكار، ويكون أيضاً منصباً على حفظ المعلومات واستظهارها آلياً دون أن يعير المعانى والمآلات اهتماماً كافياً.
وقد أورد القرآن الكريم صوراً لهذا النوع من التفكير كان المجتمع الجاهلى يعانى منه، حيث ذم القرآن الكريم هذا المنهج فى التفكير ولام أصحابه ووبخهم على سطحية تفكيرهم. ومن هذه الآيات قوله تعالى فى وصف الذى يتمسك بالعادات وموروث الأجداد ويبرر خطأ لأنه وجد أباء يفعلون ذلك: {وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا} (الأعراف: 28)، وكذلك تمسكهم بعبادة الأصنام والأوثان لأنهم وجدوا آبائهم على هذا الحال وساروا على نهجهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} (الزخرف: 22)، وفى كل الأحوال فقد وبخهم القرآن على هذا النوع من التفكير، قال تعالى فى حق الذين يتمسكون بما وجدوا عليه آبائهم ولم يقبلوا بالدعوة الجديدة: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} (البقرة: 170)، ففيه لفت نظر لهؤلاء الذين يتمسكون بما وجدوا عليه آبائهم ، وتذكير لهم باحتمال وقوع آبائهم فى الضلالة وعدم الهدى فما الذى يحملهم على إتباعهم؟
وهناك مواقف شبيهة كثيرة لما كان أصحابها لا يتجاوزن هذا المنحى الخطى فى التفكير فوقعوا فى الضلالة. ومن ذلك قوله تعالى فى وصف بنى اسرائيل فى حادثة العجل: {قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} (البقرة: 93)، وقال فى سياق حواره مع عبده الأصنام وقد كشف لهم عوار ما كانوا يعبدون إلا أنهم أصروا على عاداتهم واستهجنوا ما دعوا إليه وردوا رداً أحمقاً فقال تعالى: {قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤكُم مَّا نَزَّلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ} (الأعراف: 70 - 71).
لقد بين لهم هذا الخطاب أن معبوداتهم هى