مثلت الحروب الصليبية ذروة الصراع الدامي بين الغرب المسيحي والشرق المسلم في العصور الوسطى ، وعلى الرغم من قسوة الحرب واستمرارها قرابة قرنين من الزمان إلا أنها لم تنجح في حسم الصراع لصالح الغرب الذي حاول استخدام كل أنواع الضغط على الدولة الإسلامية ومن بينها فرض حصار اقتصادي عليها بغية إنهاء الصراع لصالحه .
ومع بدايات الحرب أعلنت الباباوية عن تطبيقها حصاراً اقتصادياً على الدولة الإسلامية في مصر والشام لتكون عاملاً مساعداً في الحرب ، وبمرور الوقت تحول هذا الحصار وما استتبعه من فرض مقاطعة شاملة للدولة الإسلامية وكل من يتعامل معها تجارياً ليصبح الملمح الأبرز للحروب الصليبية وذلك بعد انقضاء العمليات العسكرية باقتلاع الصليبيين من جيوبهم الإستيطانية في الشام أواخر القرن الثالث عشر . وكان من المفهوم أن الغرب يستهدف من وراء حصاره أن ينقل ساحة المواجهة من الميدان العسكري إلى الميدان الاقتصادي ليحقق عن طريق الإقتصاد ما لم يستطع تحقيقه عن طريق الحرب العسكرية.
وينبغي الإشارة إلى أن المراسيم الباباوية بإيقاف التعامل مع مصر وفرض الحظر التجاري عليها قد تعددت خلال فترة الحروب الصليبية ، وذلك نظراً للخروقات الكثيرة التي تعرضت لها هذه المراسيم من جانب التجار الأوروبيين ، وكان الحديث يتجدد في الغرب عن ضروريات فرض الحصار والتشدد في تطبيقه مع كل هزيمة تلحق بالصليببين في الشام ، مما يحملنا على الإعتقاد أن الحصار الاقتصادي أصبح ورقة الضغط الوحيدة أمام الباباوية والغرب ككل لمعاقبة مصر على حربها ضد الصليبيين .
خلفية تاريخية
قبل الشروع في استعراض المحطات الأساسية للحصار الأوروبي علينا أن نوضح أولاً الدور الذي مثلته التجارة بالنسبة للدولتي الأيوبية ثم المملوكية – وهما الدولتان اللتان تعاقبتا على حكم مصر والشام إبان هذه الفترة - فالمعروف أن الأهمية التجارية لمصر قد ازدادت بشكل ملحوظ نتيجة حركة توسع المغول التي نتج عنها توقف طرق التجارة العالمية بين الشرق والغرب والتي كانت تمر بالخليج العربي أو البحر الأسود ثم فارس ولم يعد آمناً من هذه الطرق سوى طريق البحر الأحمر ومصر وهو ما جنى منه سلاطين مصر الربح الوفير ومكنهم من توفير الإعتمادات المالية الكفيلة بتمويل حربهم ضد الصليبيين ، وقد نتج عن ذلك أن تحكمت مصر بطريق التجارة العالمي ، باعتبارها البوابة التي تمر من خلالها البضائع الشرقية إلى الغرب كما تمر بها أيضا البضائع الغربية للشرق .
وكان التبادل التجاري بين الشرق والغرب قد شهد زيادة ملحوظة خلال هذه الفترة على عكس المتوقع ؛ فقد أسهمت إقامة الصليبيين في الشام في التعرف عن قرب على السلع الشرقية المميزة - وبخاصة التوابل - وتطلع أبناء الغرب الأوروبي للحصول على هذه السلع ولعل هذا يفسر لنا مشاركة المدن التجارية الغربية مثل جنوة وبيزا والبندقية في الحرب ، وقد حقق أبناء هذه المدن مكاسب طائلة نظير قيامهم بالتوسط بين الشرق والغرب كما قاموا بعقد الكثير من الصفقات التجارية الرابحة مع التجار الشرقيين .
الباباوية والقرصنة باسم الدين
غداة قيام الحروب الصليبية سارعت الباباوية بإعلانها عن مقاطعة تجارية شاملة لمصر وكل من يتعامل تجارياً معها ، ونجحت في إقناع المدن التجارية الإيطالية الشريك التجاري الرئيسي لمصر بتطبيق هذه المقاطعة ، غير أن هذه المدن تضررت تضرراً اقتصادياً واضحاً من جراء ذلك وهو ما دفعها للضرب بتعليمات الباباوية عرض الحائط وإعادة إرسال السفن الإيطالية إلى الموانئ المصرية ، وجدير بالذكر أن سلاطين مصر بصفة عامة قد تسامحوا مع التجار الأوروبيين ، وعلى سبيل المثال أبدى صلاح الدين الأيوبي "سلطان مصر" سعة صدر في التعامل معهم ، وبرغم استمرار الحرب وتجريد الصليبيين الحملات العسكرية في الشام إلا أنه لم يشأ معاقبتهم لاشتراك مدنهم في القتال لجانب الصليبيين ، بل على العكس أظهر قدراً غير قليل من الترحاب بهم وبسفنهم في الموانئ المصرية ، الأمر الذي شجعهم على تحدي قرارات الباباوية الخاصة بمقاطعة مصر ، وإعادة العلاقات التجارية إلى سابق عهدها وتوقيع عدة معاهدات تجارية بين الطرفين .
عادت الباباوية وجددت الإعلان عن فرض حظر اقتصادي شامل على مصر وتشددت في تطبيقه بسبب النجاحات العسكرية المتوالية التي حققتها الدولة المملوكية في مصر ضد الصليبيين والتي انتهت بتصفية آخر الجيوب الإستيطانية الصليبية في الشام بإسقاط عكا عام 1291 ميلادية ، وعلى الفور أصدر البابا نيقولا الرابع مرسوماً حرم فيه على العالم المسيحي التجارة مع مصر مع توقيع قرار الحرمان الكنسي على كل من يخالف هذا القرار فضلاً عن مصادرة جميع أمواله وممتلكاته ، والمعلوم أن القرار كان موجهاً بالأساس ضد التجار الأوروبيين المتعاملين مع الدولة المملوكية والذين أمدوها ببعض المواد الحربية الأساسية مثل الحديد والأخشاب والقار والكبريت . ويبدو أن هذه القرارات لم تردع التجار وتحملهم على إيقاف تعاملهم مع مصر ، الأمر الذي ألجأ البابا إلى إتخاذ أسلوب أكثر حزماً فأمر بتجهيز عشر سفن حربية تجول في البحر المتوسط وآسيا الصغرى ومصر ، وهي التي صارت تعرف باسم "فرسان القديس يوحنا" وقد ازداد عددها حتى وصلت إلى خمس وثلاثون سفينة في نهاية فترة الحظر ، وقد قامت هذه السفن بمهمة إرهاب السفن المسيحية التي تخرق الحظر التجاري على مصر ، وكذلك مهاجمة السفن المسلمة التي تجوب البحر المتوسط وسرقة ونهب محتوياتها ، وقد اتسع نشاط هذه السفن مع نهايات الحروب الصليبية وتكررت اعتداءاتها على الموانئ المصرية وبخاصة مينائي الإسكندرية ودمياط ، وكانت تقوم بالسطو على السفن الراسية فيهما واقتيادها في بعض الأحيان إلى قبرص مقر قوات "فرسان القديس يوحنا".
ولاشك أن موقف الباباوية المتشدد تجاه التعامل التجاري مع مصر بحاجة إلى بعض التوضيح فالمعروف أن إخفاق الصليبيين في تكوين بؤر إستيطانية تستوطن فلسطين ، والفشل في هزيمة المماليك عسكرياً قد جعل الباباوية تؤمن بأن النجاح الذي تؤمله لن يتحقق بالحرب وإنما يتحقق عن طريق تطويق مصر اقتصادياً في البحر المتوسط ، وقد أفصحت الباباوية عن خطتها في رسالة تحت عنوان "أسرار حماة الصليب" وهي الرسالة التي أعدها أحد الفرسان الصليبيين وتبناها البابا ونشرت على العالم المسيحي عام 1321 ميلادية ، وقد جاء بها أن الحملة الصليبية الناجحة لابد وأن تمر بثلاث مراحل: أولها إضعاف قوة مصر الاقتصادية عن طريق فرض حصار بحري كامل لمدة ثلاث سنوات ، وثانيها مرحلة إرسال الحملة العامة ، وثالثها مرحلة الصمود في الأرض المفتوحة والاحتفاظ بالأرض المقدسة في أيدي الصليبيين.
وكما أن الحرب التي أعلنت على الإسلام واتخذت من الصليب شعاراً لها بعيدة كل البعد أن تكون ذات منطلق ديني فكذلك القرارات الباباوية المتعلقة بالحظر الاقتصادي وفرض المقاطعة على الدولة الإسلامية في مصر ، فقد أراد بعض الباباوات من وراء إصدار هذه القرارات أن يحصلوا على بعض المكاسب المادية ، إذ أن المدن الإيطالية والتجار الأوروبيين في سبيل رفع الحصار التجاري عن مصر ، والذي عصف باقتصادياتهم وكبدهم خسائر فادحة اضطروا للجوء إلى دفع الأموال للباباوية نظير الحصول على بعض التراخيص التي تجيز لهم التعامل مع مصر . وكانت مدينة البندقية الإيطالية قد دفعت أموالاً طائلة نظير الحصول على هذه التراخيص ، وذلك بعد أن تقدمت بعدة شكاوي توضح فيها أنها قد تضررت أبلغ الضرر من جراء فرض الحصار على مصر ، وأن لها الحق في أن تحمل إلى مصر البضائع التي لا تدعم قوة المماليك الحربية غير أن الباباوية تمسكت بموقفها في حظر كافة أشكال التعامل حتى وإن كانت السلع المراد تصديرها لا تخدم قوة المماليك العسكرية ، وقد ظلت الباباوية تتشدد في هذه المقاطعة والحظر ما يربو على العشرين عاماً «1323 -1344م» ولم يحملها على تغيير موقفها إلا ما بذلته البندقية من أموال طائلة – وبعبارة أدق رشاوٍ- فقامت بإصدار بعض التراخيص التي تجيز التعامل التجاري مع مصر ، مع استمرار حظر تصدير المواد التي يمكن أن تدعم قوتها العسكرية.
التحالف ضد مصر
إذا كانت المدن الإيطالية قد تعارضت مصالحها مع الباباوية فإن الأخيرة لم تعدم وجود مؤيدين لسياستها من الدول المسيحية فقد دخلت في تحالف طويل الأمد مع مملكة قبرص المسيحية والتي كانت خاضعة آنذاك لأسرة آل لوزجنان والتي جمعت لفترة من الوقت بين تاجي قبرص وإمارة بيت المقدس الصليبية في عكا ، وهو الأمر الذي جعلها تضطلع بدور هام في محاولة تأديب الدولة المملوكية وخنق اقتصادها. وكان بطرس الأول ملك قبرص قد دعا الدول الأوروبية في عام 1365 ميلادية للمشاركة في تجريد حملة صليبية إلى الإسكندرية بقصد الإستيلاء على المدينة وتهديد طريق التجارة العالمي الذي يمر بها ، وقد فطن النويري- أحد مؤرخي ذلك العصر- إلى هذا البعد الاقتصادي الكامن وراء هذه الحملة حين ذكر أن غايتها قطع الطريق على المراكب الآتية إلى الإسكندرية على الرغم من تسترها بستار الصليب ، وقد بارك هذه الحملة البابا أوربان الثاني الذي قام بجمع أموال الأديرة والكنائس للاستعانة بها في تجهيزها ووعد القساوسة بأنه سيردها لهم من غنيمته لأموال المسلمين. وما إن وصلت الحملة إلى الإسكندرية حتى قامت بنهب محتويات السفن الراسية في البحر ، ولم تكتف بهذا بل هاجمت منازل الأهالي والتجار وقامت بنهب محتوياتها هي الأخرى بعد أن أشاعت الروع في قلوب المصريين.
وهكذا نهضت قبرص بالعبء الأكبر في الحملة الاقتصادية الموجهة ضد المماليك وشن ملوكها حرباً شعواء ضد التجار الأوروبيين الذين ظلوا يتاجرون مع مصر، كما مارس القبارصة أعمال القرصنة في البحر المتوسط وقطعوا الطرق على المراكب الآتية إلى دمياط والاسكندرية ، واستطاعوا تجنيد عدد من التجار الأوروبيين المتعاملين مع مصر، وذلك بقصد الحصول على معلومات عن التحصينات بالسواحل والموانئ المصرية، ومواعيد وصول سفن التجار المسلمين. وقد دفعت تلك الأعمال العدائية المتكررة الدولة المملوكية إلى محاولة غزو قبرص ونجحت في الاستيلاء عليها عام 1426 ميلادية.
مشروعات استعمارية لتحويل مجرى النيل
لاشك أن خروج قبرص من حلبة الصراع قد أضعف كثيراً من إمكانيات نجاح الحظر الاقتصادي عبر البحر المتوسط شمالاً ، لذا حاول الصليبيون أن يمدوا الحصار إلى البحر الأحمر في الجنوب حتى تكتمل محاولات تطويق مصر اقتصادياً، ولم تجد الباباوية أفضل من مملكة الحبشة المسيحية لتؤازرها في مخططاتها لذلك أرسل البابا عدة رهبان ومبشرين إلى الحبشة من أجل إقناع ملكها بفرض حصار اقتصادي على مصر من الجنوب، وقد نجح رسل البابا في إقناع ملك الحبشة بالانضمام إلى الشركاء الأوروبيين الذين يفرضون حصاراً حول مصر ، كما اقترحوا أن تقوم الحبشة باستغلال موقعها المتحكم في منابع النيل وتعمل على تحويل مجرى نهر النيل، إلا أن الاقتراح لم يلق قبولاً من الحبشيين خشية رد الفعل المصري.
وقد ظلت فكرة تحويل منابع مجرى نهر النيل تراود عقول الدعاة الصليبيين فقد أرسل ملك أراجون – والتي توحدت مع قشتالة فيما بعد وصارت تعرف باسم مملكة إسبانيا – إلى ملك الحبشة عام 1450 ميلادية يطلب منه العمل على تحويل مجرى النيل ومهاجمة مصر من الجنوب. كما لاقت الفكرة قبولاً من البرتغاليين الذين كانوا قد شرعوا في الالتفاف حول أفريقيا في محاولة لاكتشاف طريق بديل لطريق مصر التجاري. وقد عقد البرتغاليون تحالفاً مع الحبشة التي توافدت عليها البعثات الأوروبية والدعاة الصليبيون من كل حدب وصوب، وعقب اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح 1498 ميلادية طلب قائد الأسطول البرتغالي من ملك البرتغال إمداده بعدد من العمال المدربين على قطع الصخور وحفر الأرض للعمل على تحويل مجرى النيل، وعلى الرغم من أن هذه المشروعات لم يكتب لها النجاح إلا أنها تظهر مدى تصميم الأوروبيين الصليبييين على القضاء على اقتصاديات الدولة المملوكية قضاءً مبرماً، وهو ما يؤكد استمرار الحروب الصليبية واستقرارها في شكل اقتصادي.
ويمكن القول أن فكرة الحصار الاقتصادي التي تم تطبيقها من جانب الغرب لم تنجح في خنق الاقتصاد المصري تماماً إلا بعد اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح، فقد استطاع البرتغاليون باكتشافهم هذا الطريق تحقيق أهداف الحرب الاقتصادية، وعلى الرغم من طول الطريق وكثرة تكاليفه مقارنة بطريق مصر القصير فقد أقبل الغرب على ارتياده وعزف عن المرور بمصر ، واستطاع الحصول على الحاصلات الشرقية وبخاصة التوابل من الهند وإيران مباشرة دون الاحتياج إلى وساطة مصر ، الأمر الذي ألحق أفدح الخسائر باقتصاد مصر وترتب عليه إضعافها عسكرياً. وباكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح يكون الستار قد أسدل بصورة نهائية على هذه الحروب التي اتخذت من الدين شعاراً لها لتخفي وراءه دوافعها المادية البحتة