المبحث الخامس
المعادن المبدعة
عندما نتأمل هدى رسول الله عليه وسلم في رعاية الإبداع وصناعة المبدعين، نقف من هدية على قاعدة نفيسة وهامه: إنها " قاعدة المعادن في الإبداع ".
روى أبو هريرة أن الرسول قال: "تجدون الناس معادن، فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا"، والمعادن هي الأصول، فإن كانت الأصول شريفة، كانت الفروع شريفة كذلك غالباً، والفضيلة في الإسلام بالتقوى، لكنْ إذا انضم إليها شرف النسب وما سوى ذلك من صفات وسمات، ازدادت فضلاً إلى فضل.
والقائد الذي يسعى إلى صناعة جيل من القادة المبدعين، لا يوقف مسيرته الإبداعية انتظاراً لتكوين الجيل المبدع من الصفر، والشروع في البداية من الصفر، وإن كان هذا الأمر من أولويات العمل، لكنّ ثمة نماذج جاهزة من المبدعين لنا أن نستثمرها ونستثمر طاقاتها وإبداعاتها، كلُّ ما في الأمر أنها نماذج محتاجة إلى الفقه الواعي.
إن الإنسان المبدع القوي المنتج وهو خارج دائرة الإسلام، هو نفسه داخل دائرة الإسلام، إذا فَقِه الدين، وفَقِه حقيقة الاعتقاد الجديد الذي آمن به.
وثمة نماذج من الصحابة الكرام تنطبق عليهم القاعدة النبوية الثمينة. فكم أخذ عمر رضي الله عنه من لحظة اعتناقه للإسلام إلى أن أصبح قائداً لأول مسيرة طافت حول الكعبة؟ وهل تلقّى قدراً معيناً من المعلومات قبل انطلاقه حتى يُجاز لمثل هذا الفعل؟.
يقول عبد الله بن مسعود فيما أخرجه البخاري "ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر". إن عمر كان قوة للإسلام، ولم تكن قوته مستمدة من التربية التي تلقاها أول إسلامه، بل هو الذي منح المسلمين القوة بإذن الله تعالى وتوفيقه. ولنا أن نضيف إلى عمر رضي الله عنه "حمزةَ بن عبد المطلب"، لقد كان هذان النموذجان أصحاب بأس وعزم وقوة في الجاهلية، فلما أسلما سَخّرا هذه القوة للإسلام، لكنهما لم يكونا بحاجة إلى تربية خاصة حتى يكونا أقوياء.وكذلك كان سيف الله المسلول خالد بن الوليد، فارساً بطبيعة الحال، وقبل الإسلام كان سيفاً سلطاً على أعدائه ...
إن خالد بن الوليد لم يصنع منه الإسلام سيفاً، وإنما جاء الإسلام ليشرفه بأن يكون سيف الله، بدلاً من أن يكون سيف الكفر.
وأبو ذر أُنموذجٌ وصفه الرسول وصفاً رائعاً فقال: "ما أقلّت الغبراء، ولا أظلّت الخضراء من رجل أصدق لهجة من أبي ذر"، صدح بالحق حين عرفه لأول مره قبل أن تتدخل أي تربية جديدة لتصوغه، وما كان يخاف في الله لومة لائم.
إن قاعدة رسول الله في معادن الناس لاستخراج طاقات مبدعة حقيق أن تُفعّل وتُطبّق، وقد رأينا كيف أثبتت فاعليتها في جيل الصحابة، الذين دخلوا الإسلام وهم ذوو معادن خيّرة قوية في جاهليتها.
الفصل الرابع
أساليب ووسائل تنمية الإبداع
يرشد الهدي النبوي في التربية الإبداعية إلى الأساليب التي تنمّي الإبداع لدى المتعّلم، فالمربي الذي يحرص على تربية إبداعية مميزة، يسعى إلى استخدام كافة وسائل وأساليب تنمية الإبداع، لتكوين العناصر الخلاّقة الفاعلة .
المبحث الأول: التحفيـز
إن عملية الإبداع هي في حقيقتها محصلة اجتماع عوامل عديدة، فالإبداع محصلةٌ لما يشبه (اللقاء السعيد) بين أعلى الوظائف العقلية كفاية، وأكثر الخصال الوجدانية في الشخص المبدع، وأفضل أنواع المناخ ملاءمة للتفكير الإبداعي. وحين ننظر في هدى رسول الله في تنمية الإبداع لدى الصحابة رضوان الله عليهم نجده راعى هذه العوامل كلها.
ومن وسائل تنمية الإبداع مما له تعلق بهذه العوامل ما يعرف بالتحفيز، والذي يقوم على توضيح الرؤية البعيدة والاقتناع بها، وتوضح الهدف والمساعدة في فهمه وتشكيله. ومعلوم أن طبيعة الأفراد تتفاوت،من حيث استجابتهم إلى العوامل المؤثرة على حافزيتهم، أو دافعيتهم للعمل من فرد لآخر. وتتنوع استعدادات الأشخاص، فثمة مفتاح لكل شخص به يُحَفّز كل إنسان إلى ما يناسبه من مهارات و قدرات.
وحين يكشف رسول الله عن محفزات في أشخاص أكابر الصحابة قائلاً ومحفزاً "أَرْحَمُ أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأقرأهم لكتاب الله أُبيّ بن كعب، وأفرضُهم زيد بن ثابت، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، ألا وإن لكل أمة أميناً، وإن أمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح ".
فالرحمة، والشدة، والحياء، والقضاء، والعلم، والفرائض, والقرآن, والأمانة محفزات لجوانب إبداعية امتاز بها أكابر الصحابة, فهم الجيل المبدع المؤثر الفاعل، جوانب فيها التنوع والتكامل والانسجام.
ونرى رسول الله يستعمل مع كل شخص ما يناسبه من عوامل التحفيز، فتّارة يستعمل الحوافز المادية ليؤلف بها القلوب التي لا تؤلف ألا بذلك، وتارّه الحوافز المعنوية, و ربما استعمل الفخر والشهامة كما في شأن أبي سفيان حين قال الرسول :"من دخل دار أبي سفيان فهو آمن".
ها هو يستعمل هذا الأسلوب المثمر في تنمية الإبداع ليستثير الهمم، فيمرّ على نفر مِن (أسلم) ينتضلون فيقول لهم "ارموا بني إسماعيل، وأنا مع بني فلان، فأمسك الفريقان بأيديهم، فقال رسول الله :
"ما لكم لا ترمون؟ قالوا: كيف نرمي وأنت معهم ؟! فقال النبي : "إرموا فأنا معكم كلكم".
تحفيز العامل الروحي
إن تحفيز الجانب الروحي في المسلم لتنمية جوانب الإبداع ،أمر هدى إليه رسول الله ، وإن نظرة في أعظم السلف نشاطا وإبداعا تهدي إلى أن أولئك النفر كانوا يتمتعون بطاقات روحية فذّه رباها فيهم رسول الله .
ولقد شكّل هذا في الحقيقة، النفسية الأولية لثقافة العمل لدى المسلم المبدع ، ومن ثم فإن تنشيط الجانب الروحي لدى المسلم ربما كان شرطا لتمتعه بكفاية وفعالية عالية.
إن هؤلاء المبدعين من الصحابة كان أحدهم يُعبأ التعبئة الروحيةُ لينطلق من خلالها إلى التأثير الفاعل المبدع .
عن حنظله الأسدي قال – وكان من كتاب رسول الله – قال: لقيني أبو بكر فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قال: قلت: نافق حنظلة، قال: سبحان الله! ما تقول؟ قال: قلت: نكون عند رسول الله يذكّرنا بالنار والجنة حتى كأنها رأى العين، فإذا خرجنا من عند رسول الله عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، فنسينا كثيراً، قال أبو بكر: فو الله إنا لنلقى مثل هذا، فانطلقتُ أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله ، فحكى لرسول الله ما قاله حنظلة، فقال رسول الله :"والذي نفسي بيده أن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظله ساعة وساعة، ثلاث مرات".
ثم إن رسول الله ، يُعزز الهدف الواضح الجليّ، ويُحفّز الجانب الروحي، فتتولد الإبداعات عند أولئك النفر الذين تعهدهم رسول الله بتربيته وصنعهم على عينه.
وفيما رواه أنس عن النبي وسلم قال: "لا يُقَدّمن أحد منكم إلى شيء حتى أكون أنا أُدنيةً، فدناً من المشركين"، وقال رسول الله : "قوموا إلى الجنة عرضها السماوات و الأرض"، قال: يقول عمير بن الحمام الأنصاري: يا رسول الله، جنة عرضها السماوات و الأرض؟! قال: نعم، قال: بخٍ بخٍ؟ قال: لا و الله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها. قال: فإنك من أهلها.
قال: فاخترج تمرات من قرنه، فجعل يأكل منهن ثم قال: لئن حييتُ حتى آكل تمراتي هذه، إنها لحياة طويلة، فرمى بما كان معه من التمر، ثم قاتلهم حتى قتل.
وتحفل السنة النبوية بقاعدة هامة من التحفيز، تلكم هي ما رواه أبو هريرة عن النبـي قـال: "المؤمن القوي خير و أحب إلى الله من المؤمن الضعيف و في كل خير".
والقوة إنما هي العزيمة في النفس، والقريحة في أمور الآخرة والتطلع إليها وطلبها، وصاحب هذا الوصف يكون أكثر إقداماً وأشد عزيمة، وأثبت وأصبر وأكثر تحملاً، إنه المؤمن يتصف بالقوة لا الضعْف، والإقدام لا الإحجام، والإبداع لا الجمود، ويؤكد الرسول على معانٍ تبعث على الإبداع وتنميته حيث يقول موصياً:
"احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل؛ لو أني فعلت كذا وكذا، و لكن قل قدّر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان".
إن العجز والكسل والتواني والأماني و"لو"؛ كلّ ذلك معوق من معوقات الإبداع، ومثبط من مثبطات العزائم، ومحطم لكل سبيل من سبل التفكير الإبداعي.
لقد وضع رسول الله أسس الإبداع، ومن ذلك تشجيعه القدرات الإبداعية انطلاقاً من الخبرة العميقة بالنفس البشرية، واستعداداتها المتفاوتة وما تمتاز به كل شخصية، فحين يسأل رسول الله أيّ الناس أفضل؟ فيقول: رجل يجاهد في سبيل الله، قالوا: ثم من؟ قال: ثم مؤمن في شِعب من الشِعاب يتقي ربه ويدع الناس من شره.
إن من الناس من يوصف بقوة النفس ومضاء العزيمة، والصبر على مخالطة الناس وتحمل أذاهم، والرغبة في معاركة الباطل ومجابهة الفتن، فهذا أفضل له أن يجاهد ويخالط.
ومنهم من ليس له المقدرة على ذلك، ويُخشى عليه الافتتان، فله ذلك وهو من أفضل الناس.
إن القائد البصير يرعى الإبداع بناءً على خبرته بمن يقودهم، روى أبو واقد الليثي أن رسول الله بينما هو جالس في المسجد والناس معه، إذ أقبل ثلاثة نفر، فأقبل اثنان إلى رسول الله وذهب واحد قال: فوقفا على رسول الله ، فأما أحدهما فرأى فُرجة في الحلقة فجلس فيها، وأما الآخر فجلس خلفهم، وأما الثالث فأدبر ذاهباً، فلما فرغ رسول الله قال: ألا أخبركم عن النفر الثلاثة؟ أما أحدهم فأوى إلى الله فأواه الله، وأما الآخر فاستحيا فاستحى الله منه، وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه.
ولا شك أن أفضل الثلاثة هو الذي لجأ إلى الله ولم يقنع بالمرتبة العادية بل رغب في الدرجة العليا والمكانة الرفيعة .
أقبلَ على الله فأقبل الله عليه وجازاه بنظير فعله، بأن ضمّه إلى رحمته ورضوانه.
التحفيز بالترغيب والترهيب
كان من هدي رسول الله أن يحفّز مرغباً في الخير والطاعة والامتثال، وبيان ما يلاقيه العامل من الأجر والمثوبة ورضوان الله وتبوء المنازل والدرجات، كما كان من هديه التحفيز ترهيباً من المخالفة وعدم الاستجابة، وقد استُعمل هذا المنهج في السنّة في كافة المجالات، وهذه موسوعات الحديث النبوي حافلة بالترغيب والترهيب ، ولك أن تعود إلى كتاب الإمام المنذري في (الترغيب والترهيب) فهو حافل بالتحفيز.
المبحث الثاني:
تنمية الإبداع بأسلوب السؤال والمساءلة
إن من أعظم ما ينمي المهارات الإبداعية ويستنبط كوامنها أسلوب السؤال والمساءلة، ويعتبر هذا الأسلوب أسلوباً معتمداً في التعلم والتعليم وإعمال الفكر، مع ما فيه من إثارة للانتباه وتشويق النفوس للجواب.
وقد اعتمد الوحي أسلوب "السؤال و الحوار"، ومن أبرز ما يثبت ذلك ويستشهد به عليه، حديث سؤالات جبريل....
وفي ذلك دلالة عظيمة على أن السؤال الحسن يسمى علماً وتعليماً، وأن جبريل وإنْ كان هو السائل لكن سُمِي بحسن سؤاله "معلماً"، فحسن السؤال ممن اشتهر به نِصْف العلم.
وقد تنبه الصحابة لأهمية السؤال والمحاورة، فهذا النواس بن سمعان الكلابي يقيم مع رسول الله بالمدينة سنة ويقول: ما يمنعني من الهجرة إلا المسألة، كان أحدنا إذا هاجر لم يَسأل رسول الله عن شيء، فسألته عن البر والإثم؟ فقال: البر حسن الخلق والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس.
إن من الصحابة من كان السؤال والمساءلة والحوار والمحاورة سراً في إبداعه وتقدمه وكشفه الحق، حتى نَقَل إلينا عِلم رسول الله فيما يخص المسائل العلمية والعملية والفرائض والأحكام.
وقد عقد البخاري في صحيحه " باب من سمع شيئا فراجع حتى يعرفه"، وأخرج فيه حديث ابن أبي مليكة أن عائشة زوج النبي كانت لا تسمع شيئاً لا تعرفه إلا راجعت فيه حتى تعرفه . وأن النبي قال: "من حوسب عُذِّب"، قالت عائشة: فقلت: أو ليس يقول الله تعالى ( فسوف يحاسب حساباً يسيراً )، قالت: فقال النبي : "إنما ذلك العرض، ولكن من نوقش الحساب فقد عُذِّب".
إننا ونحن نسعى إلى صناعة جيل مبدع ذي تفكير خلاق، علينا أن نعتمد منهج رسول الله الذي ربى عليه صحابته "السؤال والمحاورة "، ونشجّع على السؤال الجاد المنضبط الهادف، الذي ليس من قبيل الأغاليط الهادفة إلى العنت والإحراج.
المبحث الثالث:
تنمية الإبداع بالألغاز أيضاً
لقد ذهب رسول الله في تنمية مهارات الإبداع لدى صحابته إلى أبعد من ذلك، حيث استخدم أسلوب الألغاز، ليحرّض العقول على الفهم، ويثير الفطنة ويحرك الذكاء.
روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: بينما نحن عند النبي جلوس إذ أتي بجمّارِ نخلة، فقال وهو يأكله: "إنّ مِن الشجر شجرة خضراء لَما بركتها كبركة المسلم، لا يسقط ورقها ولا يتحاتُّ ، وتؤتي أكلها كلّ حين بإذن ربها، وأنها مَثَل المسلم فحدثوني ما هي؟.
فها أنت قد رأيت كيف يُلقي رسول الله بالمسألة على الصحابة ليختبر أفهامهم، ويرغبهم في إعمال عقولهم، إنّه يحرّضهم على الفهْم في العلم، ويضرب لهم الأمثال والأشباه ليزيد في الأفهام.
إن هذا الحديث فوائده غزيرة، أخرجه البخاري في أحد عشر موضعاً من صحيحه لِما فيه من الحِكم والاستنباطات، يعدّ أصلاً في مشروعية ما يعرف عند أهل العلم القائمين على تنمية مهارات الإبداع بـ "الألغاز"،. حتى إن الحافظ ابن حجر استنبط من الحديث فوائد مما يتعلق بعلم الألغاز والأحاجي فقال: "وفيه إشارة إلى أن الملغَز له ينبغي أن يتفطن لقرائن الأحوال الواقعة عند السؤال، والملغز ينبغي له أن لا يبالغ في التعمية بحيث لا يجعل للملغَز باباً يدخل منه، بل كلما قرّبه كان أوقع في نفس سامعة".
إنه مسلك أرشد إليه رسول الهدى وسار عليه العلماء المهتدون بهديه حتى قال الإمام ابن فرحون في ألغازه: قال العلماء: "وفي هذا الحديث دليل على أنه ينبغي للعالم أن يميز أصحابه بإلغاز المسائل العويصات عليهم، ليختبر أذهانهم في كشف المعضلات وإيضاح المشكلات"، قلت: وبهذا الأسلوب تُخْتبر العقول والفهوم، ويحرص الطالب على دوام التيقظ، وصولاً إلى دقة الملاحظة وجودة التفكير فيما يلقى عليه أو يتوصل إليه.
المبحث الرابع:
القصص وسيلة لتنمية التفكير الإبداعي
لقد اتخذ الرسول القصص وسيلة من وسائل تنمية الإبداع وتأكيد الاتجاهات الإبداعية، وتحفيز التفكير الإبداعي لدى صحابته، وهي وسيلة ناجعة خاطب الله تعالى بها المؤمنين فقال: ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ ﴾. يوسف -3-. وقال: ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ ﴾. الكهف- 13-. وأمر نبيه فقال: ﴿ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾. الأعراف- 176-.
إن القصص القرآنية والحديثة تمثل الصورة الواقعية العملية التي ترسم التعاليم القرآنية في مشاهد نابضة بالحياة، وكثير من الناس يرون الحق من خلال الواقع العملي أكثر مما يعرفونه من خلال التعاليم المجردة.
إن رسول الله يعلّم أصحابه ومن بعدهم بطريق القصص وذكر الوقائع التي يحدثهم بها عن الأقوام الماضين، فتؤثر فيهم ويكون منها العبرة والعظة والقدوة والائتساء، بل وفضلاً عن كونه أسلوباً لتنمية الإبداع لدى المخاطب، نلحظ في القصص ذاتها جوانب إبداع تثير مكامن الإبداع في المخاطب.
إنها قصص ذات مغزى، قصيرة مؤثرة فيها عنصر الإثارة والتشويق، ويتنوع فيها الأسلوب، وقد أظهر أبطالها سلوكاً إبداعياً، حفره الوحي في ذاكرة التاريخ مسطراً له، والأمثلة على ذلك كثيرة وفيرة:
ففي مجال الإبداع في العلاقات الاجتماعية المبنية على الأخلاق، روى الإمام مسلم عن أبي هريرة عن النبي "أن رجلاً زار أخاً له من قرية أخرى، فأرصد الله له على مدرجته مَلَكَاً، فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ ....الحديث".
وفي مجال الإبداع في العلاقة مع الحيوان والرفق به, روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: "بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش فوجد بئراً فنزل فيها، فشرب ثم خرج، فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش ....الحديث.
والقصص النبوي الصحيح كثير، لا يخلو من لفتات وجوانب إبداعية، واقرأ إن شئتَ قصة جريج العابد, وقصة الأقرع والأبرص والأعمى، وغير ذلك من القصص.
إنها قصص تحوي حوادث ومواقف كثيرة، يحتاج فيها الإنسان إلى تكوين علاقات، وروابط بين عناصرها وأحداثها المختلفة، ويمكن أن تكون القصة من خلال أحداثها ومواقفها وأدوار أبطالها، أداة تحرك عواطف الإنسان، وتستثير خياله وتفكيره.
المبحث الخامس:
الأخوة والتآخي بيئة ومناخ للإبداع
يحرص الإسلام على خلق بيئة للإبداع وتوليد الأفكار الإبداعية من خلال تآلف وتعاطف وإخاء قائم على الإيمان، قال تعالى: ﴿ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ﴾ الأنفال -63- . ونظرة في هدي النبي ترى التأكيد على الأخوة وترسيخها واقعاً في حياة الصحابة رضوان الله عليهم.
قال رسول الله :"المسلم أخو المسلم"، ويقول أيضاً: "وكونوا عباد الله إخواناً", وقد آخى رسول الله بين المهاجرين والأنصار. ولا شك أن المؤاخاة توفّر الفرصة الكاملة والمناخ المناسب للابتكار والأداء المتميز في قلب المجتمع المسلم بالانسجام بين أفراده، فلا يتصور وجود أداء حضاري متميز للجميع في مجتمع فاقد خاصية الانسجام والتوافق. إن أفراد المجتمع الواحد يتفرقون إلى ذرّات متنافرة متباعدة، ومن ثم يتخلخل البناء الاجتماعي، ويكون عاجزا عجزاً تاماً عن أداء النشاط المشترك.
لقد حقق الإسلام نموذج المجتمع المنسجم بجميع مكوناته، فكل فرد فيه يربطه بالمجموع عنصر الأخوة، حتى بلغ ذروة الأداء الحضاري المبدع.
إن الأخوة تخلق إبداعاً في أصعدة شتى في الأخلاق، حين يحل الإيثار محل الأثرة، والإيجابية وإرادة الخير محل السلبية والانزواء.
أجل، الأخوة تخلق البيئة الواحدة المتكاتفة المتراصة، التي تنتج إبداعات توصف بالتكامل، فلا تقتصر على الجانب المادي خدمة للجسد الإنساني – وربما أسهمت في تدميره –، بل تجاوزت هذا إلى نطاق أوسع، وإبداع أرحب وأشمل، إلى عناية ورعاية للإنسان، في عقله وقلبه وروحه كذلك.
وإنْ أردتَ معرفةَ مدى تأثير هذا المناخ على الإبداع، فما عليك إلا أن تُطِل إطلالة متأملة من شُرْفة التاريخ، إلى مجتمع الصحابة ورواد الحضارة المبدعة مِنْ بعدِهم، فيتبدّى لك ذلك بجلاء.