الحُبّ ذلك الشعور الذي لا نستطيع أن نتحكّم فيه ، يجرجرنا كيفما شاء ، يلاعبنا و يداعبنا تارة و يحزننا تارات.
عجوزٌ تفتقد إلى زوجها الذي إنتهت دورة حياته على الأرض ، ليتركها وحيدة ، فتجد في قطتها الرفيق و الونيس لوحدتها ،
ليختفي هو أيضاً ، و يصبح حنينها ثنائياً ، حنيناً إلى أن تودع قطتها ، و حنيناً إلى لقاء يجمعها مع زوجها في السماء.
كنتُ هنا بين مشاعر فياضة
،، مونتي ،،
اعتادت عليه وألفته كثيراً،ولطالما اعتبرته جزءاً من كيانها،وفصلاً من فصول حياتها...
***
صباح هادئ،وسماء في غاية العذوبة والنقاء،وهدوء مخيّم على سطوح وأزقّة البلدة الوديعة،الغارقة في أحلام الطفولة وأمنيات الجدات.
في أحد الأزقة الضيّقة،مقابل "عين"البلدة، ذاك المنبع المائي الرقراق،المنساب من أعالي الجبل القريب الشامخ.. الذي يلامس وجه السحاب.في ذلك المكان،يقبع كوخ عتيق..مبنيّ من دموع وطين ممزوجة بالتّبن، ومغطى بأعواد من القصب ،وأكوام من القشّ،ويشدّ وسطه جذوع من شجر الصنوبر والصفصاف،..كوخ معتّق،تنبعث منه رائحة الماضي وعبق الذكريات إنه إحدى آثار الأصالة،الخالدة،والصامدة في وجه الزمن،في هذه البلدة.تسكنه عجوز طاعنة في السن والشوق،ويسكنها حزن دفين وفراق ووحدة قاتلة قاسية.جلًّ وقتها وحزنها تقضيهما خارج كوخها،مُمددة على ظلّ شجرة الدردار المتعالية على الكوخ..تراقب تحركات المارة حيناً، وتغفو أحايين كثيرة.وتحلم كذلك كثيرا..
أما هذا الصباح،فلم تخط عتبة الباب،كانت متعبة بعض الشيء..بسبب صداع ألّم بها مذ ليلة البارحة،الباردة،لذلك قررت عدم الخروج والتفسّح..وآثرت أن تتكوم في فراشها..
في الخارج كانت نسمات عابرة،ونسائم راقصة،تعبث في الأرجاء،وتتسلل بين الأزقّة وممرات البلدة..والأشجار تتمايل طرباً،على وقع أنغامها الهادئة..فإذا بها تحرّك باب كوخها الخشبي المهترء..كأن أحداً دفعه داخلا دون طرق ولا استئذان..
انتفضت من مكانها،واقفة،تستعد،تحسبه هو الذي عاد بعد طول فراق وفقدان وعذاب..فإذا بها تتأكد أنها مجرد هبة ريح..ليس إلاّ..لأنها لم تسمع مواءه، كعادته كلما أراد الدخول/الخروج.
هاهي ذي الخيبة والانكسار يخترقان جسدها الضعيف المثقل بطعنات الدهر وهمومه من جديد،
والأحزان تعاودها بعد أن تناستها بعض الشيء.كلما نزلت عليها الأحزان،كلما تساقطت على رأسها، تفاصيل تلك الأيام الجميلة وهو إلى جنبها..بعد رحيل ذاك الرفيق،ذاك الدرب المؤدي إلى معاني السعادة،شقيق الروح الذي انسحب إلى الحياة الأخرى،وتركها للوحدة تتلوى،للضياع تقاسي..
..تنتظره دائماً على رصيف الشوق،بنفس خاوية من معاني الإحساس والشعور..،وبقلب يملؤه الاشتياق و الأمل لرؤيته..للمسح على ظهره..لطبع قبلة مثقلة بطعم السنين والحنين على رأسه..قبل أن تسافر إلى جانب عزيزها..الذي هو بدوره متلهف ليلقياها...
..اتجهت صوب الباب، وأحكمت إغلاقه بعمود خشبي ،ووضعت على عتبته جرّة الماء،ثم ألقت نفسها كما ورقة خريفية عبثت بها الأقدار،على حصير الحلفاء،وطيفه..كأنيس،خجول،وديع،يرتسم في مخيلتها البالية المتعبة...