مكتبة الإسكندرية القديمة.. ما المصير?
مكتبة الإسكندريةالقديمة.. ما المصير ؟
بقلم د / قاسم عبده قاسم
من حق زائر مكتبة الإسكندرية الجديدة أن يلقي نظره علىمصير المكتبة القديمة, وأن يعرف من الذي جنى عليها ومن الذي اتهم بحرقها ؟
كانت مكتبة الإسكندرية القديمة, التي بناها البطالمة الأوائل, أهممؤسسة علمية وفكرية في العالم القديم. وقد ظلت المكتبة تلعب دورًا مهمًا في الأنشطةالفكرية والعلمية لشعوب شرق المتوسط على مدى عدة قرون. وكانت مقصدًا للعلماءوالفلاسفة الذين قاموا بالدور الأهم في عالمهم عندما تدهور دور بلاد الإغريق في تلكالفترة التي يعرفها المؤرخون عموما باسم العصر الهيللينستي (أي العصر الذي جمع بينالتراث الهيلليني, أي اليوناني والتراث الآسيوي), وهو العصر الذي يبدأ بفتوحاتالإسكندر الأكبر وينتهي بمعركة اكتيوم في النصف الأخير من القرن الأول قبل ميلادالمسيح, فبعد هذه المعركة التي انتهت بانتحار كليوباترا السابعة ومصرع أنطونيوس بعدهزيمته تحولت مصر إلى ولاية رومانية, وصارت الإمبراطورية الرومانية تحكم حوض البحرالمتوسط كله لدرجة أن الرومان أسموه (بحرنا(.
وفي تلك الفترة تعرضت مكتبة الإسكندرية لحريق جزئي أثناء حملة يوليوسقيصر على الإسكندرية, لأن النيران التي اندلعت في السفن الراسية بالميناء امتدت إلىبعض أجزاء المكتبة, ولكن المكتبة ظلت تعمل بعد ذلك, بدليل أن استرابون الذي زارهابعد عدة سنين وصف الأنشطة والحياة داخلها. ثم تعرضت المكتبة لحريق يبدو أنه كانمدمرًا بحيث وضع نهايتها المأساوية أثناء حوادث الشغب التي قام بها المسيحيون فيالإسكندرية أواخر القرن الرابع الميلادي ضد الوثنية ورموزها, وكانت مكتبةالإسكندرية من بينها بطبيعة الحال.
ثم جاء الفتح الإسلامي لمصر في النصف الأول من القرن السابع الميلادي، قد عقد عمرو بن العاص اتفاقية مع البيزنطيين حدد فيها شروط جلائهم عن مصر فيمايعرف باتفاقية الإسكندرية الأولى, ثم نقض البيزنطيون اتفاقهم وحاربهم المسلمونوهزموهم مرة أخرى, وتجددت شروط الجلاء في اتفاقية الإسكندرية الثانية.
واللافت للنظر هنا أن كتب تواريخ الفتوح الإسلامية التي تناولت فتحمصر (البلاذري, والطبري, وابن عبدالحكم, ومن نقل عنهم من المتأخرين وأهمهم تقيالدين المقريزي), لم يذكروا شيئًا عن مكتبة الإسكندرية القديمة, سواء ما يتعلقبوجودها, أو وجود أطلالها, حتى أي إشارات عن حرقها وتدميرها, على الرغم من اهتمامهذه المصادر بذكر تفاصيل الحصار لحصن بابليون, والمعارك التي جرت في الإسكندريةوغيرها, بل إن ابن عبدالحكم تحدث عن خطط الإسكندرية ولكنه لم يذكر شيئًا عن المكتبةأو غيرها من الملحقات مما يشير صراحة إلى أنها لم تكن موجودة, كما أن أطلالها كانتقد اندثرت. وهنا ينبغي أن نشير أيضًا إلى أن المؤرخ الأسقف يوحنا النقيوسي, الذيكان شاهد عيان لأحداث الفتح الإسلامي لم يقل شيئًا عن أعمال عنف قام بها المسلمونضد المكتبة على الرغم من أنه كان قاسيًا في الحديث عن المسلمين, ولم يكن متعاطفًامعهم بأي حال من الأحوال. كذلك لم يشر أي من المؤرخين المسيحيين الذين كتبوا عنتاريخ مصر, في سلسلة تمتد من أوائل الوجود الإسلامي في مصر حتى عصر سلاطينالمماليك, إلى شيء يتعلق بمكتبة الإسكندرية القديمة (ساويرس بن المقفع, وابنالعميد, ومفضل بن أبي الفضائل وغيرهم(.
لكن المدهش أن أول ذكر لهذه القصة جاء على لسان عبداللطيف البغداديالذي زار مصر سنة 595هـ/1200م في عبارة قصيرة, ثم وردت رواية تفصيلية لدى أحدالمؤلفين المسلمين, وهو ابن القفطي الذي كتب في القرن السابع الهجري/ الثالث عشرالميلادي يضع مسئولية حريق مكتبة الإسكندرية القديمة على عاتق المسلمين. وقد نقلهاعنه باختصار المؤرخ المسيحي (ابن العبري) دونما تعليق بعد عقود قليلة من الزمان.
وقد أثارت رواية ابن القفطي, بتنويعاتها المختلفة, كثيرًا منالمناقشات وحفزت كثيرًا من الدراسات والبحوث, فقد أخذها بعض المؤرخين الغربيينوسيلة للهجوم على الإسلام والمسلمين من ناحية, كما أخضعها نفر آخر من هؤلاءالمؤرخين للبحث والدراسة وأثبتوا عدم صحتها من ناحية أخرى. وأسهم عدد من المؤرخينالعرب المعاصرين في مناقشة الموضوع وبرهنوا على أن الرواية التي ساقها ابن القفطيبعد عدة قرون من الفتح مجرد قصة ركيكة رديئة التأليف ومليئة بالثغرات والثقوب, وبداالأمر وكأن نار المناقشات حول مصير مكتبة الإسكندرية القديمة قد باتت رمادًا.
بيد أن إحياء مكتبة الإسكندرية في السنوات الأخيرة, وتجسيد الحلم فيهذه المؤسسة الرائعة, وأنشطتها الفكرية والعلمية والفنية أعادت لمدينة الإسكندريةقدرًا كبيرًا من بريقها المفقود, وأعادتها قبلة ومصدرًا لأفضل العقول وأجمل المواهبمن أركان الدنيا. ولكن هذا الإحياء - من ناحية أخرى - جعل النقاش والجدل يتجدد حولمصير مكتبة الإسكندرية القديمة.
وربما يكون مناسبًا أن نورد رواية ابن القفطي عن مصير المكتبة, ثمنناقشها في محاولة للوصول إلى الصورة الأقرب للحقيقة, وعلى الرغم من أن هذه الدراسةتنطلق من فرضية تنفي التهمة عن المسلمين, فإن حق القارئ يفرض علينا أن تكونالمناقشة محايدة وموضوعية بقدر ما تسمح به الطبيعة البشرية.
تقول رواية ابن القفطي : إن الحاكم المسلم الأول لمصر بعد الفتح, وهوعمرو بن العاص كان شديد الإعجاب بيوحنا النحوي بسبب حكمته وعلمه, كما كان معجبًابآرائه في رفض الثالوث, ونهاية الزمان, وكان يحضر مجلسه ويستمع إليه ويتعلم منه!! ويستمر ابن القفطي ليقول: إن عمرو بن العاص قال لهذا العالم المسيحي إنه مستعد أنيلبي له أي مطلب, فطلب منه يوحنا النحوي أن يأذن له بأخذ ذخائر مكتبة الإسكندرية منالمخطوطات. وأجابه الحاكم المسلم بأنه لا يستطيع أن يفعل هذا دون موافقة الخليفةعمر بن الخطاب. وعندما أرسل للخليفة أجابه بأن (كتاب الله) يغني عما في هذه الكتب،وأمره أن يتخلص من الكتب!! ثم يقول الراوي: إن عمرو بن العاصأمر بتوزيع مقتنياتمكتبة الإسكندرية على حمامات المدينة لكي تستخدم وقودًا لتسخين المياه بها،واستغرقت هذه العملية ستة أشهر.
هذه هي رواية ابن القفطي باختصار. وقد تصدى ألفرد بتلر في كتابه (فتحالعرب لمصر) سنة 1902م لتفنيد هذه الرواية, وكان أهم ما ذكره أن يوحنا النحوي لايمكن أن يكون موجودًا أيام عمرو بن العاص لأنه كان نشيطًا قبل هذا التاريخ بمائةسنة, وبذلك هدم الأساس الذي قامت عليه رواية ابن القفطي ، كما أن د.مصطفى العباديأثبت أن المكتبة قد حرقت وهدمت مرة أثناء حرب الإسكندرية, ثم امتدت النيران إلىالمكتبة, والمرة الثانية عندما قام الأسقف المتعصب ثيوفانس بتدمير السرابيون سنة 391م بأمر الإمبراطور ثيودوسيوس الكبير.
رواية يعوزها المنطق
بيد أن هناك جوانب أخرى تجعل من هذه الرواية رواية ضعيفة متهافتة:
أولاً : أننا لو سلمنا جدلاً بأن يوحنا النحوي كان موجودًا زمن فتحمصر وأنه كان على علاقة طيبة بعمرو بن العاص, فهل كان يمكن أن يطلب مقتنيات مكتبةالإسكندرية التي استغرق حرقها, في جميع حمامات الإسكندرية, ستة أشهر? وهل كان يمتلكالمكان الذي يتسع لكل هذه الكتب؟
ثانيًا : لماذا يلجأ عمرو بن العاص إلى إحراق محتويات مكتبةالإسكندرية بهذه الطريقة الغريبة التي استغرقت ستة أشهر - حسبما تقول الرواية - وهوأمر يتطلب متابعة من حاكم كان بحاجة إلى توطيد نفوذه في الولاية الجديدة? ولماذا لميحرقها مرة واحدة في مكانها ؟
ثالثًا : إذا سلمنا جدلاً بأن محتويات المكتبة تم إحراقها بهذهالطريقة الغريبة, فماذا عن مبنى المكتبة نفسه? هل تم هدمه? أم ظل باقيًا? ولماذا لميتحدث عنه المؤرخون المسلمون الذين تحدثوا عن الآثار المصرية القديمة بشكل يشيبالانبهار والإعجاب? وقد كان عمود السواري بالإسكندرية من أهم الآثار التي كانالمؤرخون والرحالة المسلمون يتحدثون عنها, فإذا كانت المكتبة أو أطلالها, موجودةلما أغفلوا الحديث عنها بطبيعة الحال؟!
رابعًا : لم يتخذ المسلمون موقفًا معاديًا طوال تاريخهم الثقافي ضدالتراث الثقافي والعلمي الإنساني, بل إن حركة الترجمة من تراث الإغريق والفرسوالهنود والصينيين تحت رعاية الدولة, تؤكد أن الرواية التي رواها ابن القفطي تقف ضدطبيعة الأشياء وتعادي منطق التاريخ.
خامسًا : التناقض الصارخ في موقف (عمرو بن العاص) - حسب رواية ابنالقفطي - لا يمكن أن يكون حقيقيًا, فكيف يمكن لرجل معجب بالعلم والحكمة التي يتمتعبها يوحنا النحوي بحيث يجلس منه مجلس التلميذ والمريد, أن يأمر بحرق الكتب التيتحتضن الحكمة والمعرفة بين صفحاتها ؟!
ولكن يبقى السؤال الأهم مطروحًا: لماذا يكتب عبداللطيف البغدادي وابنالقفطي وابن العبري هذه الرواية التي ينسبون فيها تدمير مكتبة الإسكندرية القديمةإلى عمرو بن العاص وعمر بن الخطاب؟
لابد أولاً أن نستبعد رواية كل من عبداللطيف البغدادي, ورواية ابنالعبري, على أساس أن الأول ذكر عبارة قصيرة للغاية عنها في معرض حديثه عن عمودالسواري تشي بأنه سمعها من أحد, ولم يحقق فيها, وهو على حال رحالة لم يدقق كثيرًافيما أورده من أخبار في كتابه (الإفادة والاعتبار), كما أن الثاني أورد رواية ابنالقفطي نفسها في صورة مختصرة دون أن يتدخل فيها, وربما يكون قد نقلها عنه أو عنمصدر مشترك لهما.
تفسيرات أخرى للرواية:
تبقى رواية ابن القفطي: وهي مركبة من ثلاثة أجزاء: الجزء الأول منهاسبق أن أورده ابن النديم في الفهرست وهو الخاص بتأسيس المكتبة ومن يدعى زميرةالمسئول عنها, والقسم الثاني ورد لدى أحد المؤرخين البيزنطيين. وهكذا فإن هذينالقسمين ليست لهما أهمية تتعلق بقصة تدمير مكتبة الإسكندرية, أما القسم الثالث, فهوجزء صاغه ابن القفطي صياغة خيالية على شكل حوار بين عمرو بن العاص ويحيى النحوي،وهو ما يشكك في الرواية أصلاً.
فضلاً عن أن القصة نفسها تقريبًا جرت حول فتوح فارس والعراقوبالعبارات نفسها مع تغيير الأسماء, وهو الأمر الذي يشي بأنها كانت نوعًا منالفولكلور المتداول آنذاك, ويذكرنا بروايات أخرى مماثلة في موضوعات متنوعة, كانت منتقاليد الكتابة التاريخية العربية في تلك العصور.
والكتاب الذي وردت فيه هذه الرواية - من ناحية أخرى - وهو الذي يحملعنوان (إخبار العلماء بأخبار الحكماء) عبارة عن كتاب تراجم موجزة, فيه الكثير منالأخبار الأسطورية التي أوردها ابن القفطي باعتبارها من الحقائق التاريخية.
يقودنا هذا إلى الإجابة عن السؤال, لماذا أورد ابن القفطي هذه القصةالغريبة؟
يرى البعض أن الرجل الذي عمل في خدمة الأيوبيين هو وأبوه, رأى استياءالناس مما فعله صلاح الدين الأيوبي بمكتبة القاهرة حينما باع محتوياتها في مزادعلني كان يعقد مرتين أسبوعيًا, ثم هدم (دار الحكمة) وبنى محلها المدرسة الشافعية فيغمرة حماسته لاستئصال المذهب الشيعي من مصر, وأن ابن القفطي أراد أن يقول إنالخليفة العظيم عمر بن الخطاب سبق أن أحرق مكتبة الإسكندرية, فالبيع أهون من الحرقعلى أي حال.
وهناك رأي آخر يرى أن الشيعة أذاعوا قصة حرق المكتبة على يد عمرو بنالعاص بأوامر من عمر بن الخطاب مما يؤكد أن السنّة معادون للعلم والمعرفة, لاسيماأن هذه القصة كانت رائجة في الفترة الانتقالية ما بين نهاية الدولة الفاطمية وبدايةالدولة الأيوبية. وقد نقلها ابن القفطي كما سبق أن نقلها عبداللطيف البغدادي دونماتحقيق.
وعلى الرغم من أنني أميل إلى الأخذ بالتفسير الثاني, لاقترابه منالمنطق وسياق الأحداث التاريخية, فإنني أرى أن ابن القفطي أورد الرواية دون أن يكونفي ذهنه أي رسالة يمكن أن تحملها, فقد نقلها باعتبارها قصة متداولة, ولم يحاول أنيتوقف أمامها كما فعل في الكثير من الأساطير التي دخلت في ثنايا صفحات كتابه.
وعلى أي حال, فإن قصة تدمير مكتبة الإسكندرية القديمة تبقى دليلاًصارخًا على سوء استخدام التاريخ لحساب السياسة في الماضي وفي الحاضر على السواء.