مساهمات الأندلسيين والمغاربة في الحروب الصليبية في مصر والشام - د. علي أحمد
في الحديث عن المساهمات الأندلسية والمغربية في المعارك ضد الصليبيين في الشام ومصر، لابد من القول بادئ ذي بدء، إن الذين اشتركوا في هذه المعارك من الأندلسيين والمغاربة، كانوا مقيمين في مصر والشام، ولم يكونوا قد قدموا من الأندلس والمغرب لهذا الهدف كما قد يتراءى للبعض لأول وهلة. وهنا يمكن أن يُطرح السؤال التالي، هل كان في المشرق ولا سيما في الشام ومصر في فترة الحروب الصليبية مغاربة وأندلسيون مقيمون بصورة دائمة؟ للجواب عن هذا السؤال، لابد من القول، أن نسبة كبيرة إلى حد ما من الأندلسيين والمغاربة هاجرت إلى المشرق وصورة خاصة إلى مصر والشام، واستقرت حيث طاب لها الاستقرار والحياة. فما سبب هجرة هؤلاء من الأندلس والمغرب؟، وما هي العوامل التي شغلت دوراً فعالاً في اجتذاب واستقطاب هؤلاء المغاربة والأندلسيين إلى الشام ومصر؟
يمكن تقسيم وبحث هذه الأسباب والعوامل إلى قسمين، نبحث في القسم الأول وبشكل موجز الأسباب القاهرة، التي أجبرت عدداً كبيراً من الناس على مغادرة الأندلس، حيث توجهوا إلى المغرب والمشرق في وقت واحد، ثم بعد ذلك كان بعض من وصل منهم إلى المغرب، يتركها لأسباب اقتصادية ويتوجه إلى بلدان المشرق العربي وهكذا حتى نهاية القرن التاسع الهجري/الخامس عشر الميلادي. ونبحث في القسم الثاني العوامل الجاذبة، التي شجعت هؤلاء المهاجرين على الإقامة في أرض الشام ومصر وبقية أجزاء الوطن العربي الكبير.
فمنذ نهاية القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي/ وقبل ذلك بقليل بدأت تظهر على الساحة العربية في الأندلس عوامل جديدة، اتسمت في معظمها بالسلبية شبه المطلقة، ويقصد بهذه العوامل مجموعة الاضطرابات والتبدلات السياسية، التي حدثت على الصعيد الداخلي في الأندلس، وأيضاً تلك الأخطار التي أحدقت بالأندلس وسكانها من جراء الهجمات الإسبانية الفاعلة. فالاضطرابات الداخلية وعوامل عدم الاستقرار، أضحت عناوين مزعجة للعرب المسلمين في الجناح الغربي من ديار العرب والإسلام، ولا سيما خلال الفترة التي تلت نهاية العقد التاسع من القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي. فقبل هذه الفترة على سبيل المثال لم تكن الأندلس قد عانت من مثل هذه الاضطرابات، التي اتسمت بالقلق والتأثير على السكان، مما أدى إلى ظهور مجموعة كبيرة من الناس، لم يكن أمامها من خيار سوى الرحيل عن أرض الوطن إلى غير رجعة. فقد سقطت دول الطوائف نهائياً في الأندلس، وقامت على أنقاضها دولة المرابطين من سنة 485-541ه/ 1092-1146م، وخلفتها دولة الموحدين التي حكمت فترة لا بأس بها استمرت من سنة 541- 668ه/ 1146-1270م.
وهذا التبدل في الدول كان يترافق بتبدل عقائدي، الأمر الذي أثر على فئة ليست قليلة من الشعب الأندلسي، وكونت طبقة معارضة للحكم في عهد المرابطين والموحدين على حدٍ سواء. وهذه التبدلات العقائدية لم تتخذ شكلاً واحداً فقد تبلورت في اتجاهين رئيسين، الأول ظهر بالولاء السياسي من قبل فئة من الأندلسيين لبعض دول الطوائف. وهذا ما ظهرت نتائجه غداة سيطرة المرابطين على الأندلس.. الاتجاه الثاني ظهر من خلال التبدل على صعيد العقيدة الدينية نفسها عندما سقطت دولة المرابطين على أيدي الموحدين، فبينما كانت حركة المرابطين حركة فقهية مالكية مثلها الأعلى تطبيق الشرع الإسلامي وفق أحكام المذهب المالكي، كانت حركة الموحدين تجمع كل تيارات الفكر الإسلامي المعاصر"(1)" .
وهكذا فبعد أن سيطر المرابطون على الأندلس، ظهر في المجتمع الأندلسي فئة من الناس، تدين بالولاء السياسي للحكم البائد، الذي تمثل بحكام الطوائف وكذا الحال بالنسبة للمرابطين، عندما ظهر لهم مؤيدون، لم يتمكنوا بتأثير ولائهم من الاستمرار في ظل الدولة الموحدية. وقد شكل هؤلاء المعارضون مجموعة تضررت مصالحها العامة أكثر من غيرها. يضاف إلى كل ذلك أن عوامل الاستقرار في الأندلس منذ زوال الخلافة الأموية، لم تكن مدعاة للثقة والاطمئنان بشكل كامل، بحيث يمكن القول إن عوامل الاستقرار، كانت هشة الأسس والبنيان، بفعل الحروب التي كانت شبه مستمرة بين الدول والمعارضة في عهد المرابطين والموحدين على حد سواء. والأمثلة كثيرة في مجال التأثر من جراء تعاقب الدول وتبدلها على الساحة الأندلسية، أذكر منها على سبيل المثال والد أبي بكر بن العربي، الذي كان أحد الرجال الأقطاب المعروفين في إشبيلية، والذي غادرها على أثر سقوط دول الطوائف خوفاً من المرابطين"(2)". وعند سقوط دولة المرابطين وقيام دولة الموحدين، كان من الطبيعي نزوح من ينتمون للأسرة الحاكمة سابقاً، كما هو حال أمين الربوة، الذي تحدث عنه الرحالة الأندلسي ابن جبير عند زيارته لمدينة دمشق في أواخر القرن السادس الهجري/الثاني عشر الميلادي، بصورة وكأنه يشعر بمسؤولية الحاكم تجاه رعاياه، فيحاول تدبير أمور القادمين من الأندلسيين، الذين أصبحوا بدون أرض ولا مأوى فيقول: "والأمين فيها أي الربوة من بقية المرابطين ومن أعيانهم يعرف بأبي الربيع سليمان بن إبراهيم بن مالك، وله مكانة من السلطان ووجوه الدولة، وله في الشهر خمسة دنانير حاشا فائدة الربوة، وهو متسم بالخير ومرتسم به، وهو متعلق بسبب من أسباب البر في إيواء أهل المغرب من الغرباء المنقطعين بهذه الجهات، يسبب لهم وجوه المعايش من إمامة في مسجد أو سكن بمدرسة، تجري عليه فيه النفقة، أو التزام زاوية من زوايا المسجد الجامع، يجبى إليه فيها رزقه، أو حضور في قراءة سبع، أو سدانة مشهد من المشاهد المباركة يكون فيه، ويجري عليه بما يقوم به من أوقافه، إلى غير ذلك من الوجوه المعاشية على هذه السبيل المباركة مما يطول شرحه""(3)".
ولعل أوضح مثال على الحالة السياسية وتبدل الدول، هو ما جاء على لسان الوهراني بعد سقوط دولة المرابطين بقوله: "لما تعذرت مآربي واضطربت مغاربي ألقيت حبلي على غاربي، وجعلت مذهبات الشعر بضاعتي ومن أخلاق الأدب رضاعتي..."(4)" وقد عبر الوهراني عن كرهه الشديد للموحدين من خلال جوابه على سؤال حول رأيه في عبد المؤمن بن علي الموحدي وأولاده وسيرته ببلاده فقال: "مؤيد من السماء، خواض للدماء، مسلط على من فوق الماء، حكم سيفه في المعمم، وأعمه في رقاب الأمم... ولو أن للعلم لساناً والورقةإنساناً لتألمت وتظلمت ولأنشدتك في الملا قول الشيخ أبي العلا:
جلوا صارماً وتلوا باطلاً *** وقالوا صدقنا فقلنا نعم
ولكن السكوت على هذا أرجح ومسالمة الأفاعي أنجح"(5)".
من هذه الأمثلة يظهر بوضوح مدى تأثير الولاء السياسي، وعدم قدرة أصحابه على مسايرة التطورات الجديدة أو القبول بالأمر الواقع. وبعد أن تسلم الموحدون مقاليد الحكم في الأندلس والمغرب، حدث الشىء نفسه، وكان لا يقل في حال من الأحوال عن الذي حدث من جراء التبدل السياسي، ذلك لأن الموحدين اختلفوا عن المرابطين على صعيد العقيدة الدينية. فقد نظر الموحدون إلى الذين خالفوهم على صعيد العقائد والمباديء نظرة معادية، اتسمت بالحقد والكراهية، فعاملوهم بقسوة بالغة مما أثار لدى البعض منهم موجة من الذعر والخوف، وصلت إلى درجة قريبة من الجنون والخبل، كما حدث لأبي الوليد محمد بن عبد الله بن فيرة القرطبي، الذي وصف المقري أحواله في كتاب نفح الطيب بقوله: "وخرج في الفتنة بعدما علا ذكره في قرطبة، وأقام بالإسكندرية خوفاً من بني عبد المؤمن بن علي ثم قال، كأني والله بمراكبهم قد وصلت إلى الإسكندرية ثم سافر إلى مصر، وأقام بها مدة ثم قال: فوالله ما مصر والإسكندرية بمتباعدتين، ثم سافر إلى الصعيد، وحدث بقوص بالموطأ ثم قال: والله ما يصلون إلى مصر ويتأخرون عن هذه البلاد، فمضى إلى مكة وأقام بها ثم قال: ويصلون إلى هذه البلاد ولا يحجون، ما أنا إلا هربت منه إليه، ثم دخل اليمن، فلما رآها قال: هذه أرض لا يتركها بنو عبد المؤمن، فتوجه إلى الهند حيث أدركته منيته بها سنة 551ه/1147م وقيل مات باليمن"(6)".
ولم تكن هذه العوامل التي ذكرناها حتى الآن، والتي يمكن أن نسميها عوامل الطرد الداخلية، لم تكن تقاس بتلك العوامل الخارجية، التي حصلت بفعل التقدم الإسباني الجاد والمنظم باتجاه معاقل العرب المسلمين في الأندلس، والاستيلاء عليها واحداً تلو الآخر وبشكل نهائي فلم تأت سنة 659ه/1261م حتى وقعت جميع المدن الأندلسية تقريباً تحت وطأة الاحتلال الإسباني، فقد استولى الإسبان على لوشة وماردة وبطليوس وقرطبة وشاطبة وبلنسية ومرسية وإشبيلية وعلى شلب وطلبيرة. وهكذا لم يبق بيد العرب المسلمين غير غرناطة وضواحيها تحت حكم بني الأحمر. وليت الأمر توقف على الاحتلال فحسب، بل تبعته إجراءات قاسية، حيث فرضت على كل من آثر البقاء من العرب المسلمين في مدنهم شروطاً بلغت حداً من الإهانة والشراسة، لا يطاق بأي حال من الأحوال، فقد أجبروا على وضع إشارة على ثيابهم تميزهم عن غيرهم من السكان، وأنه لا يجوز لمسلم أن يستخدم مسيحياً على الإطلاق، ومن يخالف هذا الأمر تصادر أملاكه، ومن يفر منهم إلى بلاد المسلمين، يُعد أسيراً في حال القبض عليه، وبالتالي يصبح ملكاً لمن قبض عليه من الإسبان إلى غير ذلك من إجراءات ظالمة وغير إنسانية"(7)".
وبتأثير هذه العوامل مجتمعة أصبحت الهجرة جماعية أكثر من أي وقت مضى، وهذا ما يظهر بجلاء من خلال تتبع الأندلسيين، الذين وفدوا إلى المغرب، أو الذين وفدوا إلى المشرق العربي، وذلك في الفترة التي تبدأ من نهاية الثلث الأول من القرن السابع الهجري/الثالث عشر الميلادي. ففي هذه الفترة كثرت أعدادهم بشكل لافت للنظر، لا يمكن مقارنته بما حدث في الفترة السابقة، وبخاصة على صعيد بلاد الشام ومصر موضوع هذا البحث.
ومهما يكن الأمر، فقد أدت هذه العوامل إلى نتيجة واحدة، تجلت بضياع الجزء الأكبر من أرض العرب والإسلام في الأندلس، وبالتالي تشريد وإجبار أعداد كبيرة من الأندلسيين على النزوج عن أرضهم إلى بلدان عربية وإسلامية متعددة، ولا سيما مدن وحواضر المشرق وبخاصة مصر والشام. وعندما اقتصر حكم العرب في الأندلس على غرناطة وضواحيها، فإن من التجأ إليها أو من كان فيها من العرب، لم يكونوا في مجموعهم ينعمون بالاستقرار الحقيقي الكامل، إنما غلب القلق وعدم الإستقرار على حياتهم العامة، بسبب الحروب التي لم تنقطع تقريباً بينهم وبين الإسبان، وكانت نتائجها تتراوح بين حالة المد والجزر حتى سقوطها في السنوات الأخيرة من القرن التاسع الهجري/الخامس عشر الميلادي، لذلك فقد كان النزوح منها مستمراً بتأثير هذه العوامل.
وفي مقابل هذه العوامل السلبية القاهرة، التي حدثت على الساحة الأندلسية بشكل خاص، كانت عوامل مشجعة وإيجابية في كل بلدان المشرق العربي، ساعدت المهاجرين المغاربة والأندلسيين على الإقامة والعيش بأمان واطمئنان، مثلهم في ذلك مثل السكان الأصليين. فقد توجه المهاجرون الأندلسيون والمغاربة إلى جميع بلدان المشرق العربي لكن هجرتهم كانت أنشط وأكبر باتجاه مصر والشام، لأن جميع العوامل الطبيعية والسياسية والإقتصادية والثقافية وربما النفسية، كانت أكثر ملاءمة وتوافقاً لسكن وإقامة هؤلاء المهاجرين في ربوع هذه البلاد الطيبة. وسبب ذلك على سبيل المثال، أن مصر كانت تقع على طريقهم الرئيسة إلى الحج، هذا بالإضافة إلى غنى وتوفر الموارد المختلفة، التي تمكن من حرية الاختيار في السكن والإقامة في أية بقعة من بقاعها، يضاف إلى هذا أن مصر أصبحت منذ أوائل النصف الثاني من القرن السابع الهجري/الثالث عشر الميلادي مستقر إقامة السلطان والخليفة والحاشية من الحكام ورجال الدولة، فغدت مصدر كل أمر وسلطة، ويمكن القول أنها شغلت هذه المكانة منذ وصول صلاح الدين الأيوبي إلى الحكم خلال القرن السادس الهجري/الثاني عشر الميلادي، مما جعلها مأوى، يأوي إليها الأندلسيون بشكل مميز وملحوظ خلال هذه الفترة. وكذلك الأمر بالنسبة لبلاد الشام، التي كانت ملائمة لإقامة الأندلسيين والمغاربة من جميع النواحي، ولا سيما الطبيعية والاقتصادية، التي تجسدت بتوفر سبل العيش، إضافة إلى معاملة الأهلين، هذه المعاملة التي تميز بها الشاميون وأهل المشرق بشكل عام، لكن الشام كانت أكثر تميزاً وملاءمة إلى حد كبير بالاعتماد على بعض الملاحظات، التي ذكرها بعض زوار مصر والشام من أمثال ابن سعيد المغربي الذي قال عندما كان في صدد المقارنة بين مصر والشام، وقد نقل ذلك المقري في كتاب نفح الطيب يقول عن المصريين: "وسائر الفقراء لا يتعرضون إليهم بالقبض للأسطول، إلا المغاربة، فذلك وقف عليهم لمعرفتهم بمعاناة البحر، وقد عم ذلك من يعرف معاناة البحر منهم ومن لا يعرف، وهم في القدوم عليها بين حالين: إن كان المغربي غنياً طولب بالزكاة، وضيقت عليه السعاة، وإن كان مجرداً فقيراً حمل إلى السجن حتى يحين وقت الأسطول"(8)" وعلى الرغم من وجود مثل هذه المشاكل، فلم تكن تشكل عقبة يمكن الوقوف عندها في هذه المسألة. وقد توفرت في مصر والشام بشكل عام عوامل مشجعة غاية التشجيع منها النواحي الطبيعية، التي يقصد بها أحوال المناخ والطقس السائدة في هذه البلاد، حيث وجد تشابه بين عدة مناطق أندلسية وأخرى مشرقية في الشام ومصر، مما جعل الاستقرار سهلاً ومستطاعاً بالنسبة للأندلسيين القادمين إليهما، فدلل على ذلك أن الفاتحين العرب للأندلس، أخذوا هذا العامل بعين الاعتبار، فنزل كل جندي مشرقي في المنطقة التي تلائمه من حيث مناخها وطبيعتها"(9)".
إضافة إلى النواحي الطبيعية، فهناك العوامل الدينية، التي شغلت بعداً هاماً في مسألة استقرار الأندلسيين والمغاربة في المشرق بشكل عام، ومصر وبلاد الشام بشكل خاص، فقد وردت في كتب الصحاح وغيرها عدة أحاديث نبوية نوَّهت بمكانة وأهمية بلاد الشام على مختلف الصعد وفي شتى الميادين"(10)" وبصورة خاصة عن مدينة دمشق وبيت المقدس والخليل وغيرها من الحواضر الأخرى، التي لا يمكن ذكرها في هذا المكان لكثرتها وتشعبها ودقتها على مناح معينة في هذه المدن"(11)".
كما شغلت العوامل السياسية في مصر وبلاد الشام دوراً فعالاً في هذا المجال، فقد كانت برمتها تسير لصالح النازحين الأندلسيين والمغاربة منذ انحسار الحكم الفاطمي خلال الثلث الأخير من القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي وبخاصة في المدن التي لم تقع تحت الاحتلال الصليبي كدمشق والقاهرة وغيرهما. وتبلورت الملامح الأولى لهذه العوامل في ظل حكم البوريين في مدينة دمشق، الذي استمر حتى نهاية النصف الأول من القرن السادس الهجري/الثاني عشر الميلادي، وفي ظل حكم الزنكيين قبل ظهور نور الدين زنكي في مدن المنطقة الوسطى والشمالية، والشمالية الشرقية التي يجب أن تكون حسب نظرة ومفهوم الأندلسيين والمغاربة شرعية بسبب شرعية حكامها. وكذلك الأمر في زمن صلاح الدين الأيوبي في مصر في مرحلة ظهوره الأولى هناك، الأمر الذي جعل الأندلسيين والمغاربة يقصدون الشام ويستقرون فيها دون خوف أو حرج. فوجدوا فيها بيئة صالحة ومناسبة، تشبه إلى حدٍ كبير تلك البيئة التي عاشوا فيها، والتي تشدّد على التمسك بالسنة والشرع، وعدم اللجوء إلى الجدل في الأمور الدينية. ومما يعكس هذه الصورة وحال هذه البيئة ما يرويه المؤرخ الدمشقي المعاصر ابن القلانسي في حوادث سنة 543ه/1149م بقوله :" في رجب من هذه السنة أذن لمن يتعاطى الوعظ بالتكلم في الجامع المعمور بدمشق على جاري العادة والرسم فبدأ من اختلافهم في أحوالهم وأعراضهم، والخوض فيما لا حاجة إليه من المذاهب، ما أوجب صرفهم عن هذه الحال، وإبطال الوعظ لما يتوجه معه من الفساد مطمح سفهاء الأوغاد "(12)".
وخلال الفترة التالية، أي الفترة الزنكية النورية والأيوبية والمملوكية غدت الظروف أكثر إيجابية ووضوحاً، ففي الوقت الذي كانت فيه الأندلس تسير على طريق الإنهيار، وتعاني من اضطرابات سياسية حادة ومؤلمة، كانت مصر والشام قد قطعت شوطاً بعيداً على طريق الوحدة والوئام، الأمر الذي ساعد النازحين الأندلسيين على إيجاد المأوى البديل، وعندما حدثت تطورات بالغة الأهمية على الصعيدين السياسي والمذهبي، كانت في مجموعها لصالحهم"(13)".
لذلك فقد قدَّم نور الدين زنكي كل التسهيلات للأندلسيين القادمين من الأندلس والمغرب، وأحسن وفادتهم، وأنزلهم أحسن المنازل، وفضلهم في كثير من الأحيان على السكان الأصليين كما قال عن ذلك ابن جبير الأندلسي: "ومن مناقب نور الدين رحمه الله تعالى، أنه كان عيَّن للمغاربة الغرباء الملتزمين زاوية المالكية بالمسجد الجامع المبارك أوقافاً كثيرة منها طاحونتان وسبعة بساتين وأرض بيضاء وحمام ودكانان للعطارين، وأخبرني أحد المغاربة، أن هذا الوقف المغربي، يغلّ إذا كان النظر فيه جيداً خمسمئة دينار..."(14)".
وكما حدث في زمن نور الدين، حدث مثله في عهد صلاح الدين ومن جاء بعده من الأيوبيين والمماليك، نضرب على ذلك مثلاً مما قاله الرحالة ابن بطوطة عند زيارته للمشرق العربي وبالذات لمدينة دمشق: ".. كان بدمشق فاصل من كتاب الملك الناصر (دينكز) يسمى عماد الدين القيصراني، من عادته أنه متى سمع أن مغربياً وصل إلى دمشق بحث عنه وأضافه وأحسن إليه، فإن عرف عنه الدين والفضل أمره بملازمته وكان يلازمه منهم جماعة، وعلى هذه الطريقة علاء الدين بن غانم وجماعة غيره"(15)".
أما العوامل الأخرى الاقتصادية والعلمية، فقد توافقت هي الأخرى مع مصالح الأندلسيين وتوجهاتهم وتطلعاتهم العامة، لأن الشام ومصر كانت من البلدان الغنية على هذين الصعيدين، مما ساعد الأندلسيين والمغاربة على إيجاد أعمال مناسبة، سواء كان ذلك في الزراعة أو الصناعة أو التجارة، وكذلك الأمر في الميدان العلمي، حيث كانت مراكز العلم من مدارس وكتاتيب وزوايا وخوانق متوفرة بشكل لا مثيل له في العصور الوسطى، ولا سيما في المدن الكبرى كدمشق والقاهرة وحلب وبيت المقدس. وقد صور ابن جبير ذلك تصويراً واقعياً رائعاً بقوله: "وكل من وفقه الله بهذه الجهات من الغرباء للانفراد يلتزم إن أحب ضيعة من الضياع، فيكون فيها طيب العيش ناعم البال، وينهال الخير عليه من أهل الضيعة، ويلتزم الإمامة أو التعليم أو ما شاء ومتى سئم المقام خرج إلى ضيعة أخرى..."(16)" ويتابع قوله: "...فهذا الشرق بابه مفتوح لذلك، فادخل أيها المجتهد بسلام، وتغنم الفراغ والانفراد قبل علق الأهل والأولاد، ولو لم يكن بهذه البلاد الشرقية كلها، إلا مبادرة أهلها لإكرام الغرباء وإيثار الفقراء ولا سيما أهل باديتها، فإنك تجد من يبادر إلى كرم الضيف عجباً، كفى بذلك شرفاً لهم "(17)" وبالجملة فقد ساعدت جميع العوامل السابقة الذكر الأندلسيين والمغاربة وأثَّرت بهم بشكل جعلهم يقبلون على بلدان المشرق وبخاصة مصر والشام وبصورة مستمرة. وقد عملوا خلال وجودهم في المشرق في شتى مجالات الحياة العامة دون استثناء مثلهم في ذلك مثل بقية سكان المنطقة الأصليين. وانطلاقاً من ذلك فلم يكونوا بعيدين عن المعارك التي خاضها العرب المسلمون ضد الصليبيين وغيرهم. ومسألة اشتراكهم في الحرب وبخاصة ضد الصليبيين ، تبدو من المسائل الصعبة جداً ولا سيما أنهم كانوا في حروب شبه دائمة مع المسيحيين قبل أن تنشب الحروب الصليبية في المشرق"(18)". لكن المؤرخين لم يشيروا إلى هذا الاشتراك بشكل مباشر بمعنى لم يتحدثوا عن مجموعة معينة منهم شاركت بشكل مستقل عن الجيش الشامي وكل ما كتبوه حول هذا الموضوع، اقتصر على ذكر حوادث فردية باستثناء واحدة سنأتي على ذكرها في السطور التالية، والتي سيظهر من خلالها، أن الأندلسيين والمغاربة، اشتركوا بمجموعات كبيرة إلى حد ما، ومشاركتهم ضد الصليبيين في الحرب ومن بعدهم التتار، لم تكن على صورة واحدة فحسب، بل قام بعضهم بتقديم المال لتجهيز عدد من المقاتلين إلى غير ذلك. ولعل أشهر الحوادث المعروفة عن الأندلسيين والمغاربة في هذا الميدان، تعود إلى النصف الأول من القرن السادس الهجري/الثاني عشر الميلادي فعندما حاول الصليبيون احتلال مدينة دمشق سنة 543ه/1149م اجتمع أهلها لتدارس الطرق والأساليب الناجعة، من أجل الدفاع عن مدينتهم، فكان يوسف بن دوباس المغربي العندلاوي أشدهم حماساً واستعداداً لخوض الحرب، من أجل أن تبقى دمشق عزيزة نظيفة من دنس المعتدين، وذلك على الرغم من تقدمه في السن. وقد اندفع للقتال غير عابىء بالنصيحة، التي قدمها له حاكم دمشق معين الدين أنر بعدم الاشتراك في الحرب. وكان رده رائعاً جسد من خلاله العزم والتصميم، عندما خاطب حاكم دمشق قائلاً: "قد بعت واشترى فوالله لا أقيله ولا أستقيله وتلا الآية الكريمة: "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم" وقد ظل يقاتل رحمه الله، حتى استشهد بأرض النيرب بالقرب من الربوة، وحمل جثمانه الطاهر إلى مقبرة باب الصغير حيث دفن"(19)".
ويلقب بأبي الحجاج المغربي، قدم الشام وسكن بلدة بانياس في محافظة القنيطرة العربية السورية مدة، ثم انتقل إلى دمشق واستوطنها ودرّس بها على مذهب الإمام مالك بن أنس، وحدَّث بكتاب الموطأ وغيره، وقد وصف بأنه شيخ حسن المفاكهة، حلو المناظرة، كريم النفس، قوي القلب، صاحب كرامات.
وقد قيلت فيه أشعار كثيرة نختار منها ما قاله ابن الحكم الأندلسي:
بشطِّ نهر داريّا *** أمور ما تواتينا
أتانا مائتا ألف *** عديداً أو يزيدونا
ورايات وصلبان *** على مسجد خاتونا
فقلنا إذ رأيناهم *** وقد جاءوا يريدونا
وشيخاً فندلاوياً *** فقيهاً يعضد الدينا
ولكن غادروا القسيس *** تحت الأرض مدفونا"(20)"
ويعد الفندلاوي من الشخصيات المغربية، التي طار ذكرها، وخلد على صعيد مدينة دمشق، فقد ذكر الذهبي من مؤرخي القرن الثامن الهجري/الرابع عشر الميلادي، أن قبره على عهده، كان مايزال يقصد بالزيارة والتبرك على الرغم من مضي أكثر من مئتي عام على وفاته"(21)".
ولدينا دليل أكثر وضوحاً وأكبر أهمية على صعيد اشتراك الأندلسيين والمغاربة في الحرب ضد الصليبيين، ويتجلى هذا الدليل بالملاحظة التي دوّنها الرحالة ابن جبير الأندلسي خلال زيارته لبلاد الشام في الربع الأخير من القرن السادس الهجري. ويبدو أن هذا الاشتراك، لم يكن قد اقتصر على فرد بعينه، بقدر ما كان على شكل مجموعة كبيرة العدد، الأمر الذي جعل الصليبيين يلجؤون إلى اتخاذ إجراءات مضادة للأندلسيين، تجسَّدت بفرض ضريبة عليهم دون غيرهم، وذلك جزاء اشتراكهم مع العرب المشارقة ضدهم. يقول ابن جبير عندما زار حصن تبنين: "وكان مكاناً لتمكيس القوافل.. ولا اعتراض على غيرهم. وسببها أن طائفة من أنجادهم غزت مع نور الدين أحد الحصون، فكان لهم في أخذه غنى ظهر واشتهر، فجازاهم الإفرنج بهذه الضريبة المكسية، ألزموها رؤوسهم، فكل مغربي يزن على رأسه الدينار المذكور في اختلافه على بلادهم. وقال الإفرنج: إن هؤلاء المغاربة، كانوا يختلفون على بلادنا، ونسالمهم ولا نرزؤهم شيئاً، فلما تعرضوا لحربنا، وتألبوا مع إخوانهم المسلمين علينا، وجب أن نضع هذه الضريبة عليهم. فللمغاربة في أداء هذا المكث سبب من الذكر الجميل في نكايتهم العدو يسهله عليهم ويخفف عنتهم "(22)".
ويستمر اشتراك الأندلسيين والمغاربة في الفترة، التي تلت انتهاء حكم نور الدين زنكي ويمكن القول إن أعدادهم ازدادت بشكل كبير على عهد صلاح الدين الأيوبي، فظهرت مشاركتهم على وجهين، الأول كمحاربين أساسيين، والثاني كمرافقين للجيش يقومون بتقديم الخدمات المختلفة، التي لا تقل عن غيرها في ميدان الحرب. مثال الوجه الأول، الحادثة التي ذكرها العماد الكاتب الأصفهاني في كتابه الموسوم ب(الفتح القسي في الفتح القدسي) حيث يظهر من خلالها قيمة الدور الذي شغله هؤلاء المغاربة على الصعيد العسكري، كمقاتلين أشداء نذروا أنفسهم لتنفيذ مهمات في غاية الخطورة. ففي سنة 587ه/1191م وفي أثناء حصار العرب المسلمين لمدينة عكا، جاء رسول من قبل أحد قادة الصليبيين ومعه أسير مغربي، قدمه إلى السلطان صلاح الدين على سبيل الهديّة، فاستقبل الأسير بحفاوة بالغة وتقدير عظيم، الأمر الذي يدل على مدى إعجاب صلاح الدين الأيوبي بالمغاربة والأندلسيين وتقدير جهودهم في الحرب التي خاضها ضد أعدائه"(23)".
أما الأمثلة على الوجه الثاني فهي متعددة نذكر منها على سبيل التعريف بدورهم ما هو أهم وأبلغ للتدليل على عمق هذا الدور وخلوده في ميدان التعاون العربي ونجاحه. من ذلك أن قسماً منهم لم يشتركوا على هيئة محاربين كجنود يحملون السلاح، بل تجلى بمرافقة الجيش، وتقديم خدمات كبيرة، ساهمت إلى حدٍ كبير برفع معنويات الجيش القتالية، وأذكت في عناصر هذا الجيش الروح القتالية العالية. فقد عرفت أعداد كبيرة منهم كانت مهمتهم الرئيسة تحضير الطعام وتجهيز الحمامات للجنود من أجل الاغتسال وتوفير أسباب النظافة العامة، التي تضفي على النفس الإنسانية نوعاً من البهجة والسرور والراحة. ويمكن تقدير عدد هؤلاء الأندلسيين والمغاربة بأكثر من ثلاثة آلاف رجل"(24)" لذلك يمكن النظر إلى الوظائف العالية، التي نالها المغاربة والأندلسيون في القدس بعد تحريرها على أنها تعبير عن المكافأة على خدماتهم والرغبة في استمرار هذه الخدمات في الوقت نفسه. وسوف نذكر كيف أن صلاح الدين الأيوبي عبر عن ذلك، وسار ابنه الأفضل وغيره من الحكام الأيوبيين على الطريق نفسه. فقد كانت صلة الأفضل بالقدس قوية منذ أن حررت، لأنه كان الموكل من قبل أبيه بحفظ ما حرر منها. كما يستفاد من رسالته للعماد الأصفهاني على لسان صلاح الدين الأيوبي في معرض ذكره لانتصاراته وما فتحه عام 583ه/ ومما ورد فيه: "والآن فقد خلص لنا جميع مملكة بيت المقدس وحدها في سمت مصر من العريش وعلى صوب الحجاز من الكرك والشوبك. وتشتمل على البلاد الساحلية إلى منتهى أعمال بيروت. ولم يبق من هذه المملكة إلا صور... وأنه قد رتب الجانب القبلي والبلد القدسي. وشحن الثغور من حد جبيل إلى عسقلان بالرجال والأموال وآلات العدد والعدد المتواصل الممد. ورتب فيها ولده الأفضل علياً لحمايتها وحفظ ولايتها..."(25)".
وقد تجلت إنعاماته على الأندلسيين والمغاربة أيام سلطنته. وعندما خلف والده عند وفاته بدمشق سنة 589ه/1193م ليبقى على عرش السلطنة قرابة تسع سنوات، خضع بعدها لعمه العادل في سنة 598ه/1202م. وفي أيام سلطنته وعندما أصبح قادراً على منح الإقطاعات وقف على فقهاء المالكية المدرسة الأفضلية، وبجوارها أوقف قطاعاً من المدينة يقع بجوار المسجد وسور الأقصى من جهة الغرب، ويخرج إليها من أحد أبوابه، علماً بأن المسجد الأقصى يقع في الجنوب الشرقي من مدينة القدس، وأضحى معروفاً باسم حارة المغاربة، كانت وقفاً كما يقول صاحب الأنس الجليل: "على طائفة المغاربة على اختلاف أجناسهم ذكورهم وإناثهم، وكان الوقف حين سلطنته على دمشق ولم يوجد لها كتاب، فكتب محضراً بالوقف لكل جهة، وثبت مضمونه لدى حكام الشرع الشريف بعد وفاة الواقف "(26)" وكان للمغاربة مسجد تقام فيه الصلاة على المذهب المالكي، وكان حي المغاربة يتضخم مع الزمن ويكتظبالمغاربة والأندلسيين الوافدين، منهم الميسورون ومنهم الفقراء أيضاً، وقام الشيخ عمر بن عبد الله بن عبد النبي المغربي المصمودي المجرد بتعمير زاوية بأعلى الحارة أنفق عليها من ماله، ووقفها على الفقراء والمساكين سنة 703ه/1304م وإذا كان عمل الأفضل هذا تجاه المغاربة نوعاً من المكافأة على خدماتهم في جيش أبيه فإن ظروفه فيما بعد وفاة أبيه، تجعل الاعتقاد أنه فعل ذلك بدافع من الاستعانة بقوتهم العسكرية للدفاع عن القدس. فالمدينة فقيرة ولاتكفي وارداتها وواردات الأراضي التابعة لها للقيام بكلفتها، مما أدى إلى تخصيص ثلث وارد إقطاع نابلس لها. وكذلك فإن ضياء الدين بن الأثير وزير الأفضل أقنعه بالتنازل عن القدس، لأسباب منها التخلص من النفقة عليها، لكن المكانة الدينية للمدينة جعلها قوة معنوية لمن تتبعه. وربما كان هذا أيضاً من جملة الأسباب، التي جعلت نواب الأفضل في فلسطين العربية، وفي مقدمتهم عماد الدين بن المشطوب مقطع نابلس يعرضون على سيدهم الرفق، ويتعهدون بالقيام بأودها وأود رجالها كما أنها كانت حتى ذلك الوقت هدفاً رئيساً للصليبيين، وكان بيدهم رأس جسر مناسب للهجوم عليها، يتمثل في ميناء عكا الحصين، وكان على الأفضل والمشيرين عليه والمحيطين به أخذ هذا التهديد بعين الاعتبار، خاصة وأن الأفضل لم يكن حاكم الإمبراطورية الأيوبية فعلياً كأبيه، بل إن سلطانه اقتصر على الشام بكل ما حفلت به آنذاك من عوامل تمنع من قيام سلطة مركزية بها، كما أنها كانت عاجزة عن تمويل جند كثيف، فقد كانت غير قادرة على تمويل أكثر من أربعة آلاف جندي نظامي. وبهذه القوة الضئيلة كان عليه مجابهة الخطر الصليبي، وكذلك خطر أفراد أسرته المستضعفين له وكان أخوه العزيز صاحب مصر على رأسهم في الظاهر. وضمن هذه الأوضاع يبدو منطقياً الإفتراض بأن الأفضل كان يرى في المغاربة والأندلسيين قوة عسكرية مناسبة، يمكن أن يفيد منها في الدفاع عن القدس على الأقل.
ومما يؤكد اشتراك المغاربة بالحرب مع صلاح الدين في معارك التحرير في حال غياب الإحصاءات الدقيقة، أن هؤلاء المغاربة هم كالكثير من الشاميين والمصريين، الذين شاركوا بهذه الحرب من غير الجيش النظامي، الذي لم يكن يشكل كل القوة المحاربة ولا حتى النسبة العددية الأكبر. فقد بيّن الإنكليزي جب، أن عدد الجند النظامي لدى جيش صلاح الدين الأيوبي في موقعة حطين، لم يكن يتجاوز الأربعة عشر ألف مقاتل"(27)" أما المحاربون الآخرون فكانوا متطوعة ومتصوفة مع أتباعهم، ومنهم الأندلسيون المغاربة من غير المؤهلين للحرب بشكل نظامي مرتب. ولم يكن الإفرنج على ما يبدو غافلين عن هذه القيمة أو المكانة التي يشغلها المغاربة عند حكام الشام. فقد حدث في سنة 626ه/1230م أن حمل عدد كبير من أسرى جزيرة ميورقة إلى الساحل العربي الشامي، حيث تم فكاكهم وقدموا إلى دمشق. يقول أبو شامة في كتابه (الذيل على الروضتين) في صدد حديثه عن سنة 627ه/1230م: "في هذه السنة جاء الخبر بأن الفرنج استولوا على جزيرة ميورقة، وقتلوا خلقاً كثيراً وأسروا كذلك، وقدموا بعض الأسرى إلى ساحل الشام، فاستفك منهم طائفة، فقدموا علينا دمشق وأخبروا بما جرى عليهم"(28)" وهذا إن دل على شىء، فإنما يدل على مدى التقدير الذي أظهره الأيوبيون للأندلسيين والمغاربة، لما قاموا به من أعمال مميزة ومخلصة خلال الحرب ضد الصليبين، يضاف إلى ذلك، أنهم قوة جديدة تضاف إلى الموجودين القدماء.
وفي هذا الميدان يمكن أن نذكر أيضاً تلك الخدمات الجليلة، التي قدمها أطباء أندلسيون لصلاح الدين وجيشه وشعب الشام، الذي وقف كتلة واحدة شامخة ضد الصليبيين. فمنذ النصف الأول من القرن السادس الهجري/الثاني عشر الميلادي، بدأ الأطباء الأندلسيون المشاهير يتوافدون إلى دمشق بعد أن سمعوا بمحاولات الصليبيين احتلالها، وكأنهم كانوا يشعرون أن من واجبهم وهم من بلاد اعتاد أهلها محاربة الصليبيين باستمرار، المساعدة في الدفاع عن دمشق وغيرها من بلاد الشام. من هؤلاء الأطباء أبو الحكم تاج الحكماء عبد الله بن المظفر الباهلي المولود بمدينة المرية في جنوب الأندلس أو بمدينة مرسية في شرق الأندلس سنة 486ه/1076م وقد درس الطب بالأندلس وبمصر، حتى اشتهر به كطبيب معروف. وفي بداية أمره توجه إلى بغداد، وفيها شغل طبيب البيمارستان، الذي كانت تحمل عقاقيره وأدواته في المعسكر السلطاني على أربعين جملاً"(29)"، ولما سمع بتهديد الصليبيين لدمشق غادر بغداد، وأقام بدمشق، يداوي الناس بدكان عند باب جيرون بالقرب من المسجد الأموي الكبير حتى وفاته في سنة 549ه/1155م"(30)" وكذلك فعل ابنه أبو المجد محمد بن عبد الله الباهلي الملقب بافضل الدولة، وتفوق على والده، فصار في علوم الطب من أحذق أطباء زمانه، الأمر الذي جعل نور الدين زنكي يعتمده كمسؤول أول عن إدارة البيمارستان، الذي أنشأه في دمشق خلال السنوات الأولى من النصف الثاني للقرن السادس الهجري/الثاني عشر الميلادي. وقد أدى خلال حياته، التي انتهت في الربع الثالث من القرن السادس الهجري أو قبل ذلك بسنوات قليلة، خدمات رائعة في ميدان الطب، فقد كان عمله اليومي مقسماً إلى ثلاث فترات، خصص الأولى لزيارة مرضى البيمارستان سابق الذكر، وخصص الثانية لزيارة مرضى القلعة من الحكام وأتباعهم، وخصص الثالثة للتدريس في إيوان البيمارستان النوري"(31)".
كما قام الطبيب الأندلسي عمر بن علي البذوخ القلعي المتوفى بدمشق سنة 579ه/1181م"(32)" بممارسة المداواة العامة، واختلف عن بقية زملائه من الأندلسيين بتصنيع الدواء وتحضيره بنفسه"(33)".
ومن هؤلاء، الأطباء أيضاً عبد المنعم الجلياني نسبة إلى جليانة على مقربة من غرناطة في جنوب شرق الأندلس المتوفى بدمشق سنة 603ه/1207م. اشتغل منذ وقت مبكر في ميدان الطب والأدب، وتفوق فيهما بشكل ملحوظ، رحل إلى المغرب ومنها إلى بغداد، حيث اطلع على خزائن الكتب الطبية الفنية، ولما سمع بما يحدث في الشام من حرب ضد الأعداء الصليبيين، ترك بغداد متوجهاً إلى دمشق، حيث عمل طبيباً رئيساً في البيمارستان السلطاني في السفر والحضر أيام صلاح الدين الأيوبي، وظل هكذا حتى وافته المنية"(34)" وقد حظي عند صلاح الدين الأيوبي طبيب أندلسي آخر، هو يحيى البياسبي الملقب بأمين الدين. بعد أن ترك الأندلس، وصل إلى مصر واستقر فيها مدة قصيرة من الزمن توجه بعدها إلى مدينة دمشق، واستقر فيها بشكل نهائي. ويُعد البياسي طبيباً أندلسياً درس الطب في بلاد الشام، حتى اشتهر وعلا ذكره، مما جعل صلاح الدين الأيوبي، يعتمده في قائمة أطبائه الرئيسين، الذين رافقوه في أثناء غيابه عن مدينة دمشق لمحاربة الصليبيين"(35)".
وقد قام ابن جبير الأندلسي خلال زيارته لمدينة دمشق سنة 580ه/1185م بالدعاية لصلاح الدين الأيوبي، لما يقوم به من أعمال جليلة لتحرير ما احتل من فلسطين، ولا سيما بيت المقدس من قبل الصليبيين، الأمر الذي ساعد على استقطاب جالية أندلسية للمحاربة ضد هؤلاء الأعداء"(36)" وقد احتوت كتب الحديث النبوي الشريف كما هو معروف العديد من الأحاديث"(37)"، التي تنوه بمكانة فلسطين ولا سيما مدينة بيت المقدس، فقام الأندلسيون والمغاربة بعد احتلال بيت المقدس من قبل الصليبيين بالتذكير بهذه الأحاديث في كل مناسبة دينية وبخاصة خلال خطب أيام الجمع، الأمر الذي ولَّد في النفوس شعوراً قوياً في الرغبة لزيارة بيت المقدس والمساهمة في تحريرها، وهذا الشعور كان سائداً في الأندلس والمغرب قبل ذلك، لكنه بعد الاحتلال الصليبي للقدس وبعض مدن فلسطين الأخرى، أصبح أقوى من ذي قبل، وغدت قدسيته هي الأخرى أعظم من أية فترة أخرى، وأصبحت زيارتها لا تقتصر على كسب الثواب من جراء الصلاة فيها فحسب، بل هدفت إلى جانب ذلك زيارة المشاهد الموجودة ضمنها، وتلك التي حولها في مواقع فلسطين الأخرى. وخير ما مثل حدة الشوق إلى زيارتها مسلك ابن جبير الأندلسي، الذي قال عنه المراكشي: "ولما شاع الخبر المبهج للمسلمين جميعاً حينئذ بفتح بيت المقدس على يد السلطان الناصر صلاح الدين أبي المظفر يوسف بن أيوب. وكان فتحه يوم السبت لثلاث عشرة ليلة بقيت من رجب سنة ثلاث وثمانين وخمسمئة. وكان ذلك من أقوى الأسباب، التي بعثته على الرحلة الثانية. فتحرك من غرناطة أيضاً يوم الخميس لتسع خلون من ربيع الأول من سنة خمس وثمانين وخمسمئة. قال: وقضى الله برحمته لي بالجمع بين زيارة الخليل عليه السلام وزيارة المصطفى وزيارة المساجد الثلاثة في عام واحد..."(38)" وقام خلال ذلك بمدح صلاح الدين الأيوبي بشىء من الصدق والأمانة، وكان محقاً ومصيباً في ذلك، انطلاقاً من المهمة الجليلة، التي تصدى لتنفيذها صلاح الدين، والتي تتجلى بالسعي الحثيث الصادق من أجل رد عادية الصليبيين وتحرير مااغتصب على أيديهم من أرض العرب والإسلام، وبخاصة مدينة بيت المقدس"(39)" وكما كان الحال في زمن البوريين والزنكيين والأيوبيين، فإن الأمر لم يتبدل في زمن المماليك. فقد ظل الأندلسيون والمغاربة في مقدمة المتحمسين للدفاع عن أرض العرب في الشام ومصر وكرامتهم ضد الصليبيين وغيرهم. والأمثلة كثيرة في هذه الفترة، نذكر منها على سبيل المثال حادثة وقعت في سنة 785ه/1383م عندما هاجم الإفرنج مدينة بيروت. فعلى أثر اتصال المسؤولين عن إدارتها مع نائب دمشق بقصد المساعدة لحمايتها والدفاع عنها، تذرع بأنه يحتاج إلى أمر سلطاني، فقام بعض المتنفذين من المماليك بدعوة الناس للتطوع من أجل الجهاد، فكان في مقدمة الذين استجابوا لهذه الدعوة، القاضي المالكي آنذاك مع مجموعة كبيرة من الأندلسيين والمغاربة الموجودين بدمشق"(40)".
ويفهم للوهلة الأولى من كل ما تقدم من أمثلة ووقائع، أن اشتراك الأندلسيين والمغاربة كان رهناً بمداهمة بلاد الشام ومصر من قبل الجيوش الغازية المعتدية، بحيث يشتركون لفترة معينة وينصرفون. لكن الحقيقة كانت غير ذلك، فمن خلال الأمثلة يتبين أنهم انخرطوا في صفوف الجيش النظامي كمتطوعين ومحترفين للعمل العسكري، مثلهم في ذلك مثل أبناء البلاد الأصليين تماماً. والقاضي محمد بن محمد الدمشقي المالكي الملقب بعلم الدين القفصي ووالده خير مثال على ذلك. فقد كان عمله الرئيس قبل تسلمه القضاء في عدة مدن شامية كحلب ودمشق وحماة، كان جندياً في الجيش المملوكي، وكذلك الأمر بالنسبة لوالده"(41)".
أما الوجه الثالث لمشاركتهم وإسهامهم في الدفاع والذود عن حياض مصر وبلاد الشام، فقد تجلى بتقديم الأموال من أجل تجهيز المقاتلين بالسلاح والعتاد وما إلى ذلك. مثال ذلك: محمد بن محمد أبو الوليد التجيبي الأندلسي إمام محراب المالكية المتوفى بدمشق سنة 718ه/1319م. والذي يقول عنه ابن حجر العسقلاني في كتابه الدرر الكامنة: "... وكانت له عدة كاملة من السلاح والخيل أعدها للغزاة من ماله...""(42)". لذلك فليس غريباً أن يكون جزءاً كبيراً من تصرفات الحكام المماليك الإيجابية تجاه الجالية الأندلسية المغربية في الشام ومصر، مثل تخفيض الضرائب على البضائع التجارية، التي يأتي بها إلى الشام ومصر التجار المغاربة والأندلسيون وغيرهم، تكون بسبب موقفهم العسكري ضد الأعداء.
وقد أسهم الأندلسيون والمغاربة في الدفاع عن الشام على وجه آخر، يختلف عن الوجوه سابقة الذكر من حيث الأسلوب. وقد تجلى هذا الوجه بالدبلوماسية الفذة، التي قدر لها أن تنجح وتثمر نتائجها في عدة مناسبات، ولكن ليس مع الصليبيين، إنما مع تيمورلنك وجيشه، كما فعل عبد الرحمن ابن خلدون، الذي تمكن بعد لقائه مع تيمورلنك من إنقاذ دمشق من المزيد من التدمير والقتل وتشريد الناس"(43)" وقد سقت هذا المثال في هذا الميدان على الرغم من حدوثه بعد رحيل الصليبيين عن المنطقة بمئة عام، لأدلك على مدى حرص الأندلسيين والمغاربة على أرض المشرق العربي في كل زمان ومكان تعرضت فيهما للخطر.
وقد ساهموا في وجه آخر لا يقل أهمية عن بقية الوجوه، تجسد في تحديد الخطر الذي يتهدد المنطقة العربية، التي تضم جناحي الوطن العربي الكبير (المغرب والمشرق) فقد توصل بعض خطباء جامع بيت لهيا القريبة من دمشق من الأندلسيين والمغاربة إلى تحديد أبعاد الغزو الفرنجي المتوجه ضد العرب المسلمين ضمن ثلاث شعب، إلى الأندلس وصقلية والشام"(44)" كما رسم طريق الخلاص بالجهاد الذي دعا إليه الله ورسوله في الآيات الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة، وأكمل غيره البحث عن طريق الخلاص بالدعوة لإزالة الأسباب التي أدت لنجاح الغزو على المستويين السياسي والمذهبي"(45)".
وبالجملة فقد بدا واضحاً، أن الأندلسيين والمغاربة، سواء منهم الذين أقاموا بصورة دائمة في مصر والشام، أو الذين بقوا فيها لفترات متفاوتة خلال القرون الأربعة الأخيرة من العصور الوسطى موضوع هذا البحث، لم يقفوا مكتوفي الأيدي حيال ما يجري من أحداث ومعارك، كان القصد منها السيطرة على هذه البقعة من أرض العرب والإسلام. وقد سطروا من خلال اشتراكهم بالدفاع عنها أنصع الصفحات وأنقاها. فبرهنوا بذلك على صدق انتمائهم العربي الإسلامي. فلم تقعدهم الشيخوخة أو التقدم في السن، ولم يرهبهم الموت ولا زوال المناصب الإدارية، أو فقدان الأموال، أو أي شيىء من هذا القبيل، فاستحقوا بذلك كل تقدير واحترام. ويمكن القول، أنهم كانوا في أحيان كثيرة أشد اندفاعاً وحرصاً من أهل البلاد الأصليين. وهذا ما جعل نور الدين زنكي يهتم بأمر الأندلسيين والمغاربة القادمين إلى المشرق إلى حد وصل إلى أنه فضلهم على أهل البلاد المحليين. إذ يروي ابن جبير عنه، أنه اهتم بفك الأسرى منهم قبل أسرى الشام بقوله: "وكان نور الدين رحمه الله نذر في مرضة أصابته تفريق اثني عشر ألف دينار في فداء اسرى من المغاربة، فلما استبل من مرضه، أرسل في فدائهم فسيق فيهم نفر ليسوا من المغاربة، وكانوا من حماة من جملة عمالته، فأمر بصرفهم وإخراج عوض عنهم من المغاربة وقال: هؤلاء يفتكهم أهلوهم وجيرانهم، والمغاربة غرباء لا أهل لهم""(46)" وكذلك فعل صلاح الدين الأيوبي ومن خلفه من أولاده وأقربائه ومن المماليك"(47)" وكذلك فعلت بعض النساء، وبعض التجار من الأغنياء والأثرياء، نذكر منهم نصر بن قوام، وأبا الدر ياقوت مولى العطافي، وكانا من أشهر تجار الساحل الشامي، وقد قاما بافتكاك عدد كبير من أسرى المغرب والأندلس بأموالهم الخاصة، وأموال ذوي الوصايا، لأنهما اشتهرا بأمانتهما وثقتهما وبذلهما الأموال في هذا السبيل النبيل"(48)".