السلام عليكم اخوتي في الله امة لا تعرف تاريخها لا يمكن ان تبني مستقبلها
الحضارة القرطاجية
تاريخ قرطاجة:
تقع مدينة قرطاج في بلاد تونس بالقرب من مدينة تونس الحاضرة، أسسها الفينيقيون وأصبحت مركز إمبراطورية كبيرة حكمت شواطئ المغرب الكبير وصقلية وأسبانيا حتى سقوطها في حروب مع الرومان.
بداية يمكن القول بأن دخول المغرب في التاريخ المكتوب بدأ مع وصول البحارة والمستوطنين الفينيقيين إلى سواحله. لكن محاولة معرفة تاريخ هذه الحضارة تكتنفها الكثير من الصعوبات التي يمكن إرجاعها إلى كون المصادر المتوفرة عن تلك المرحلة التاريخية كلها تقريباً يونانية ولاتينية، وأن الفينيقيون في الغرب بالنسبة للإغريق والرومان – وبخاصة تحت قيادة قرطاجة – أعداء ألداء، ومن هنا فإن صورتهم في هذه المصادر سوف تكون مشوهة ومشوبة بالتجني والتحامل عليهم، مما يقلل من القيمة المعرفية لهذه المصادر حول الحضارة القرطاجية.
والصعوبة الأخرى، تتمثل في أن الزمن لم يبقي لنا مؤلفات قرطاجية، وأن علم الآثار لن يفيدنا كثيراً لأنه في معظم الحالات قد أقيمت فوق المستوطنات الفينيقية مدن رومانية ضخمة، ومع ذلك هناك عدد كبير من النقوش المدونة بمختلف صور اللغة الفينيقية غير أنها في الغالب نقوش مقبرية ولا تحكي لنا عن تلك الحقبة إلا القليل.
المستوطنات الفينيقية:
تشير المصادر التاريخية المتوفرة عن العالم القديم إلى أن "صور" هي المدينة الفينيقية التي انطلقت منها حملات الفينيقيين إلى العرب، والتي أدت إلى إقامة العديد من المستوطنات. وتنص التوراة والمصادر الأخرى صراحة على تفوق "صور" على المدن الفينيقية في الشرق الأدنى في القرن الثالث عشر، وكانت "صور" والمدن الأخرى مثل صيدا، وبيبلوس منذ حوالي سنة 1000 ق.م، من أنشط المدن التجارية في شرق البحر الإيجي والشرق الأدنى، وإن تأثرت قليلاً بنمو الإمبراطورية الآشورية.
ولقد كان البحث عن موارد معدنية - وبصفة خاصة – الذهب والفضة والنحاس والقصدير هو الذي حمل التجار الفينيقيين إلى غرب البحر المتوسط، وقد انطلقت أعداد من المهاجرين الفينيقيين إلى صقلية والجزر المجاورة وإفريقيا وسردينيا وأسبانيا ذاتها. ومن المتعارف عليه أن أول مستعمرة فينيقية في الغرب كانت في موقع قادس (كاديز) الحالية وقد أخذ الاسم من الكلمة الفينيقية "جادير Gadir" وتعني القلعة وربما يوضح هذا أصلها كمركز تجاري.
وكان الطريق البحري الطويل إلى الأسواق الجديدة في إسبانيا بحاجة إلى الحماية نظراً لظروف الملاحة في العصور القديمة إذ كان المتبع – بصفة عامة – أن تحاذي السفن الساحل وتلقي مراسيها أو تسحب في الليل إلى الشاطئ. وقد استخدم الفينيقيون طريقين: طريقاً شمالياً، بمحاذاة الشواطئ الجنوبية لصقلية وسردينيا وجزر البليار. وطريقاً جنوبياً، بمحاذاة ساحل شمال إفريقيا.
ويمكن أن نستنتج بطول الساحل الأخير، احتمال وجود مراسٍ استخدمها الفينيقيون كل 30 ميلاً أو نحو ذلك، على الرغم من أن تطور هذه المراسي إلى مستوطنات دائمة كان يعتمد على عوامل مختلفة، وكانت المواقع القديمة جزر قريبة من الساحل، أو ألسنة صخرية يمكن الرسو عليها على كلا الجانبين، ولم يكن انتفاع الفينيقيين بهذه المواقع أمراً صعباً نظراً لأن المستوى الثقافي ومن ثم السياسي والعسكري لسكان المغرب، ومثله في هذا الخصوص مستوى معظم سكان غربي البحر المتوسط كان منخفضاً مقارنة بمستوى الفينيقيين.
ولعب العامل الاستراتيجي دوراً مهماً في تقدم بعض هذه المواقع بالمقارنة بمواقع أخرى، وما يلفت الانتباه، أن ثلاثة مواقع من أهمها: قرطاجة، وأوتيكا Utica في شمال إفريقيا وموتيا Motya في صقلية كانت كلها تتمتع بمواقع ممتازة على الممرات الضيقة من شرق إلى غرب البحر المتوسط، وتسيطر على كل من الطرق الشمالية والجنوبية.
تأسيس قرطاجة:
تشير المراجع التاريخية إلى أن اسم قرطاجة (Carthage) وباللاتينية (Corthago) هي صورة (محرفة) من الاسم الفينيقي "قرت حدتش" الذي يعني "المدينة الجديدة" ويدل هذا ضمناً على أن المكان قدر له منذ البداية أن يكون المستوطنة الرئيسية للفينيقيين في الغرب، وإن كنا لا نعرف عن آثارها في أقدم فترات تاريخها سوى قدر ضئيل لا يسمح بالتأكد من هذا الأمر. والتاريخ المتعارف عليه لتأسيسها هو 814 ق.م.
ويشير الترابط العام للشواهد الأثرية أنه بينما كانت الرحلات الفردية تتم في فترة مبكرة فإن المستوطنات الدائمة على ساحل المغرب لم تتم قبل سنة 800 ق.م. وأنه لم المؤكد إنه على عكس المستوطنات التي أقامها الإغريق في صقلية وإيطاليا وغيرها في القرنين الثامن والسابع.
إمبراطورية قرطاجة:
أ_ نمط الحكم والسياسة:
تشير المصادر التاريخية إلى أن قرطاجة قد تعرضت للنقد من قبل أعدائها بسبب المعاملة القاسية واستغلال رعاياها الذين كانوا بالتأكيد عدة طبقات، وكان أصحاب أكثر الامتيازات هم سكان المستوطنات الفينيقية القديمة والمستوطنات اللاحقة التي أقامتها قرطاجة بنفسها وهؤلاء السكان هم من أطلق الإغريق عليهم اسم "الفينيقيين الليبيين" "الفينيقيين الإغريقيين" ويبدو أنه كان لهذه المستوطنات إدارة محلية ونظم حكم مشابهة لما كان لدى قرطاجة، وكان سكان هذه المستوطنات يدفعون الرسوم على الواردات والصادرات، وأحياناً كان يتم تجنيد القوات من بينهم ومن المرجح كذلك أنهم وردوا البحارة لسفن الأسطول القرطاجي وبعد سنة 348 ق.م، يبدو أنه حرّمت عليهم التجارة مع أي أحد عدا قرطاجة.
وفي صقلية تأثر وضع الرعايا القرطاجيين هناك بسبب مجاورتهم للمدن الإغريقية، فسمح لهم بأن تكون لهم مؤسساتهم الخاصة بهم، وأن يصدروا عملتهم الخاصة خلال القرن الخامس، في وقت لم تكن قرطاجة نفسها تصدر عملة، ويبدو أن تجارتهم لم تفرض عليهم قيود، وعلى غرار ما قام به الرومان عندما سقطت صقلية في يد روما، فقد فرضت ضريبة مقدارها عشر الإنتاج. وكان أسوأ الجميع حالاً هم الليبيون في الداخل وإن كانوا على ما يبدو قد سمح لهم بإقامة تنظيمات قبلية ويبدو أن الموظفين القرطاجيين قد أشرفوا بطريقة مباشرة على جباية الضريبة وتعبئة الجنود وإن الضريبة العادية المفروضة كانت ربع المحصول وزيدت إلى خمسين في المائة منه عندما تأزم الموقف في الحرب البونية الأولى مع روما.
وطبقاً لما ذكره المؤلف الإغريقي بوليبوس (القرن الثاني ق.م) فإن عدداً من الليبيين شاركوا في ثورة المرتزقة الليبية التي أعلنت هزيمة قرطاجة في الحرب بسبب كراهيتهم لهذا الوضع ولغيره من الأوضاع "ولم يكن القرطاجيون ينظرون بعين الإعجاب أو الاحترام إلى هؤلاء الحكام الذين يعاملون رعاياهم بالاعتدال والإنسانية، وإنما كانوا يعجبون بأولئك الذين ينتزعون أكبر قدر من المؤن ويعاملون السكان بلا رحمة".
ويبدو أنه كان لهذا الانتقاد ما يبرره، إذ نشب عدد من الثورات الليبية غير الثورة المذكورة وعجز القرطاجيون – على ما يبدو – عن انتهاج سياسة من شأنها دفع الشعوب المغلوبة إلى قبول حكمهم.
وبعد الإشارة إلى نمط النشاط التجاري لقرطاجة، قد يكون من المفيد الإشارة سريعاً إلى المظم السياسية القرطاجية، إذ كان المظهر الوحيد في قرطاجة والذي حظي بإطراء الإغريق والرومان هو الدستور السياسي لقرطاجة الذي يبدو أنه يكفل لها الاستقرار، وهو مطلب عزيز كانت تنشده المدن في العصور القديمة.
وإذا كان من الصعب التعرف على نمط الحكم في قرطاجة فإن الخطوط الرئيسية لنظامها السياسي تبدو على النحو التالي: سادة المدن الفينيقية الملكية الوراثية حتى العصر الهيلنستي، وكل مصادرنا تشير كذلك إلى الملكية في قرطاجة، وخلال القرن الخامس حدث تطور كبير، تناقصت خلاله قوة الملوك، ويبدو أن هذا التطور صاحب نشأة سلطة "الشفطان" “Sufetes” والكلمة تتضمن معنى القاضي والحاكم، ومنذ القرن الثالث كان ينتخب منهم اثنان وربما أكبر سنوياً. ومن السهل مقارنتهم بالقناصل الرومان، وقد ظل مصطلح "الشفيط" مستخدماً في شمال إفريقيا في مناطق الثقافة القرطاجية لمدة قرن على الأقل بعد الغزو الروماني، ليشار به إلى الحكام الرئيسيين للمدينة، وفي الوقت نفسه ازدادت قوة الأرستقراطية الثرية.
وفي القرن الرابع أو الثالث فصلت قيادة القوات المسلحة فصلاً تاماًُ عن الوظائف الأخرى، وكان القوات يعينون فقط في حالة الحاجة ولحملات محددة الجهة، حيث لم يكن للدولة جيش ثابت يتطلب قائداً دائماً، وانتهجت العديد من الأسر نهجاً عسكرياً مثل آل ماقون في أوائل التاريخ القرطاجي، وآل برقا فيما بعد. ومن الملاحظ أن قرطاجة لم تخضع لانقلاب عسكري يقوده قائد طموح مثلما تكرر هذا المصير في المدن الإغريقية وبخاصة في صقلية.
ولعل إعفاء المواطنين القرطاجيين من الخدمة العسكرية، منذ بداية القرن الخامس – عدا فترات قليلة – قد حال دون تعميق الشعور بمدى قوتهم الذاتية التي كانت عاملاً فعالاً في تطور الاتجاهات الديموقراطية في بلاد الإغريق وروما.
ب – التجارة القرطاجية والاستكشاف:
لقد كان نشاط القرطاجيين التجاري امتداداً للنشاط التجاري الفينيقي، فقد كانت لقرطاجة تجارتها في غرب إفريقيا والمحيط الأطلسي والبحر المتوسط، كما كان لها تجارتها الصحراوية.
العقيدة القرطاجية:
لقد تعرضت الحياة الدينية القرطاجية لنقد شديد بسبب تقديمهم للقرابين (الضحايا البشرية)، وكان الإله الأعلى في العالم الفينيقي يعرف في إفريقيا باسم بعل حمون ومعنى اللقب حمون على ما يبدو وهو الناري، ويعبر عنه بشكل الشمس، وفي القرن الخامس برزت عليه كمعبودة شعبية آلهة تدعي ثانيت ويبدو أن اسمها ليبي وقد توافق انتشار عبادتها مع التوافق الروماني في إفريقيا لأنها تبرز مظاهر الإخصاب فهي تدين بالكثير للإلهتين الإغريقيتين هيرا وديميتر وقد مثلت في أشكال أنثوية.
وكان القرطاجيون حتى تاريخ متأخر أقل تأثراً بالحضارة الإغريقية من الاتروبيين والرومان، رغم أنهم لم يكونوا على الإطلاق بمنأى عن تأثرها، فقد أقرت عبادة ديميتر وكوري رسمياً في المدينة ولكن العبادات المحلية لم تتأثر بالديانة الإغريقية على نطاق واسع.
ومن الناحية الفنية لا يظهر في الحرف القرطاجية الصغيرة سوى أثر يوناني طفيف ولكن القليل المتبقي من القرن الثاني يتبين منه أنه عند هذا التاريخ لم يعد التأثير المعماري القادم من العالم الإغريقي ملموساً في موقع قرطاجي (دار الصافي في رأس آذار)، بل كذلك في الأراضي الليبية (دجة = دقة) وقد استخدمت الفينيقية كلغة أدب ولكن لم يبق شيء من إنتاجها.
حروب قرطاجة:
بداية لا بد من الإشارة إلى أن الصراعات في الغرب قد انحصرت في حصار ضيق بالمقارنة بالتغييرات الثورية في الشرق خلال الفترة نفسها، ولكن قرطاجة لم تلبث أن تورطت في صراع له أهميته البالغة بالنسبة للتاريخ العالمي وهو الصراع مع روما وقد عقدت معاهدات بين الجانبين منذ وقت مبكر في سنة 508 ق.م. عندما عندما كانت روما مجرد مدينة من مدن إيطاليا المتوسطة الحجم، ويمكن الإشارة إلى عدد من الحروب التي خاضتها قرطاجة، والتي يمكن إيجازها فيما يلي:
- الحرب الصقلية الأولى
- الحرب الصقلية الثانية
- الحرب الصقلية الثالثة
- حروب بيبروس الأبيري
- الحرب البونيقية الأولى
- حرب الأجراء
- احتلال أسبانيا
- الحرب البونيقية الثانية
- حرب ماسينيسا
- الحرب البونيقية الثالث
تدمير قرطاجة:
لقد أشرنا فيما تقدم إلى حرب ماسينيسا، ورغم كل ما أبداه ماسينيسا من تواطؤ مع روما، وخضوع وعون لها. رغبة منه في إعطائه حكم قرطاجة من قبل الرومان، إلا أن ذلك لم يحل دون حرب الرومان لقرطاجة ورغم التفوق الساحق لروما فإن قرطاجة صمدت حتى سنة 146 ق.م، واستاء ماسينيسا عندما حرم من أمله في حكمها، لكنه أذعن وانضمت معظم المستوطنات الفينيقية والقرطاجية القديمة إلى روما وتجنبت بذلك التدمير المحتم وسويت قرطاجة بالأرض ولعن مكانها في احتفالاً طبقاً لتقليد روماني، وهو عمل رمزي يدل على مدى الخوف والحقد اللذين اختزلتها روما زهاء قرن للدولة التي قاومت بضرواة سياتها على عالم البحر المتوسط.
تاريخ قرطاج
تأسيس قرطاج
أسست الأميرة ديدون قرطاج عام 814 قبل الميلاد، حسب رواية المؤرخين القدماء. وجاءت الأميرة هاربة مع أصحابها من مدينة صور في لبنان، وسموا المدينة "قَرْتْ حَدَشْتْ"، وتعني "مدينة جديدة"، فأصبح الاسم "قرطاج" عن طريق النطق اللاتنية. كانوا يعبدون خاصة "ملقرت، واسمه يعني "ملك المدينة".
واقعة في مكان مهم بين شرق وغرب البحر الأبيض المتوسط، سهل عليها التجارة، فذهبت سفنها إلى كل أنحاء البحر، من المشرق حتى أبعد من موريتانيا، وأسسوا مدن صفيرة على شواطئ صقلية والمفرب وسردينية واسبانيا. وأيضا بدأوا استعمار بلاد تونس نفسها، فكانوا أصلا يسكنون الشوطئ فقط خوف الحرب مع البربر الذين سكنوا البلاد. فأصبحت المركز التجاري لغرب البحر الأبيض المتوسط كله قبل القرن الخامس قبل الميلاد.
الحروب الصقلية
الحرب الصقلية الأولى
كان هدف معظم المدن اليونانية هدف قرطاج نفسه - السيطرة على التجارة في البحر الأبيض المتوسط. ولهذا أصبحت بينهما عداوة دائمة. وكلاهما بدأ باستعمار جزيرة صقلية منذ زمن، ولما رأت قرطاج أن جيلون، دكتاتور مدينة سيراكوزا، كان يحاول توحيد المدن اليونانية في صقلية، قررت محاربته في عام 480 قبل الميلاد. فأرسلت جيشا كبيرا بقيادة هملقار، ولكن الكثير من الجيش غرق مع سفنه، فهزم في هيميرا قرب باليرمو، وعليه انتحر هملقار وتحولت حكومة قرطاج من أرستقراطية إلى جمهورية.
الحرب الصقلية الثانية
بعد أقل من سبعين عام رجعت قرطاج إلى قوتها الأصلية. أنشأت مدن كثيرة في شمال تونس. ففي عام 409 ق م ذهب حنبعل ماجو حفيد حملقار ليحارب ضد مدن صقلية اليونانية وفتح مدن سلينونتي وهيمبرا. كلها، وخاصة المدينة الأقوى سيراكوزا، لكن دخل الطاعون في جيشه، فماتوا الكثير ومنهم حنبعل ماجو. استنمر القائد حملكو الحرب، واحتل مدينة جيلا، لكن أثر الطاعون عليهم كثير فاتفقوا مع ديونيزيوس ديكتاتور سيراكوزا رجعوا.
بعد قلبل - في عام 398 ق م - رفض ديونيزيوس اتفاقهم وهاجم على المدينة القرطاجية موتيا في صقلية، فدافع عليها القائد حملكو وبعد نجاحه احتل المدينة اليونانية مسينا أيضا. أخيرا هاجم على سيراكوزا طول عام 397، لكن عاد الطاعون في 396 فهربوا.
بعد ذالك حاربوا مرات عديدة طول 60 سنة، وانتهت الحروب في 340 ق م بتقسيم الجزيرة بين قرطاج في الجنوب الغربي والمدن اليونانية على الشواطئ الأخرى.
الحرب الصقلية الثالثة
في عام 315 ق م أخذ اغاثوقليس (دكتاتور سيراكوزا) مدينة مسينا، ثم رفض اتفاق السلام بينه وبين قرطاج وهاجم على الجزء القرطاجي لصقلية، وأيضا مدينة اكراغاس. فأرسلت قرطاج حملقار حفيد حنى الطيار ليحاربهم، وكان نجاح عظيم، ففي عام 310 ق م كان يحكم تقريبا كل الجزيرة وكان جيشه حول سيراكوزا نفسها. لاكن اغاثوقليس ذهب سرا مع جيش 14000 جندي ليهاجم عن قرطاج نفسها، فدعى مجلس قرطاج حملقار ليعد ويدافع المدينة. فربحت قرطاج جزء كبير من صقلية، لكن حتى بعد نصره على جيش اغاثوقليس لم يقدر على سيراكوزا.
حروب بيروس الأبيري
كان بيروس الأبيري ملك يوناني في البانيا دعته المدن اليونانية في جنوب ايطاليا وصقلية ليحكمهم ويدافع عنهم، فبين الأعوام 280 و 275 ق م، حارب عدويه اللدودين روما وقرطاج. خسر في حروبه، فرجعت صقلية إلى ما كانت وحكمت روما كل جنوب ايطاليا، فقربت إلى قرطاج للمرة الأولى.
الحروب البونية (الرومانية)
الحرب البونية الأولى
لما مات الدكتاتور اغاثوقليس عام 288 ق م، الأجراء الإيطالية في جيشه فقدوا خدمتهم، فغضبوا وحكموا مدينة مسانا وسموا أنفسهم "ماميرتين" يعني "تابعي اله الحرب" وأخذوا يحاربون على كل مدن صقلية. فبعدما أصبح هييرون الثاني دكتاتور سيراكوزا في عام 265 ق م هاجم عليهم، فأرسل الماميرتين سفير إلى روما ليطلب عونهم، وسفير ثان إلى قرطاج. وأجابت قرطاج وبعثت جيش إلى مدينة مسانا ومجلس أعيان روما لم تزل تتناق. لاكن بعد قليل اتفقوا القرطاجيون مع سيراكوزا، فطلبوا الماميرتين عونة روما ليخرجون جيش قرطاج. لم تقبل روما أن يكون دولة قوية في مسانا لأنها قريبة جدا إلى جنوب ايطاليا، فقرروا أن يبعثوا جيس لتأييد الماميرتين، وبدأت الحرب البونيقي الأولى.
الجيش الروماني الأول لم يربح، لاكن في عام 263 ق م، بعثت روما جيشا ثان، وبعدما أخذت بعض المدن الصقلي، رفض هييرون الثاني اتفاقه بقرطاج وحالف روما. رأت روما أن الحرب أصبحت فرصة لاحتلال صقلية كلها، ولذالك بدأت تبني سلاح البحر. لم يكن في روما أي سفينة في البداية، فصعبت عليها، لاكن ازدادت إلى السفن سلاح جديد تسمى الـ"كورفوس" (يعني الغراب) وهو حطب طويلة بزرة تستعمل كجسر لدخول سفن الأعداء. وبها ربحوا في البحر وفي 255 هاجموا على قرطاج نفسها. وتقريبا أسلمت قرطاج، لاكن لما سمعوا شروط روما استمرت الحرب وطاردوهم من افريقية، ثم حاربوا الرومان في صقلية وبدأوا حرب ثاني ضد نوميديا في افريقية. ولما كان النصر قريب في صقلية، قرروا أن يرسلوا معظم سفنهم إلى نوميديا في عام 247 ق م، فلم يربح أي واحد في صقلية وقتا طويلا. لاكن أخيرا بنت روما سلاح البحر جديد ودمرن صفن قرطاج، فأسلمت قرطاج كل صقلية إلى روما وانتهت الحرب البونيقية اللأولى في عام 241 ق م.
حرب الأجراء
خسروا القرطاجيون مالا كثير للرومان كجزء من اتفاقهم، فلم يكن لهم مال لقبض أجرائهم، ففضبوا وبدأوا حربا ضد قرطاج بعون نوميديا في عام 241 ق م. كان قائدا الأجراء ماثوس اللوبي وسبينديوس العبد الروماني، ويقال أنهم رجموا كل من تكلم عن هدنة، ولهذا أيضا تسمى "حرب لا هدنة". وبعد سنين ربح القائد القرطاجي العظيم حملقار برقة بجند 10000 مواطني قرطاج (وكان معظم الجيش القرطاجي قبل ذالك أجراء وليس مواطنين). وبعد نصره أصبح حملقار برقة رئيس الدولة وذهب ليستعمر اسبانيا.
احتلال إسبانيا
في عام 236 ق م هاجم حملقار برقة على اسبانيا، وحارب هناك حتى موته في القتال في عام 228. وبعده قاد جيشه عزربعل، وكان حملقار برقة قبل موته في 228 ق م قد فتح اسبانيا حتى نهر الايبرو واتفق مع روما ألا يعبر ذلك النهر. وبعده أصبح قائد الجيش حنبعل ولد حملقار برقة المشهور. كان حنبعل يكره الرومان وظن أنه على قرطاج أن تحتل روما وإلا فستفشل بالكامل. وفي عام 219 هاجم على ساغونتوم، مدينة مستقلة وراء نهر الايبرو، وكذالك رفض اتفاق عزربعل، فبدأ الحرب البونيقية الثانية.
الحرب البونية الثانية
بعد ما عبر الايبرو سار حنبعل وجيشه بسرعة، وعبروا جبال الالب في 218 ق م. لما وصلوا إلى ايطاليا دخل في جيشهم كثير من الأجراء والحلفاء من عند قبيلة الگول وهزم الجيوش الرومانية في المنطقة بسهولة، ولما رأوا هذا حالفه الكثير من مدن ايطاليا ومنهم سيراكوزا. في نفس الوقت كان جيش روماني يحارب في اسبانيا. وقرب إلى روما حتى وصل إلى ميناء كابوا في 211 ق م، لكن بعد موت أخوه عزربعل في عام 207 رجع إلى مدينة بروتيوم في جنوب ايطاليا. وأخيرا حالف الرومان الملك النوميدي ماسينيسا وأرسلوا جيشاً ليهجم على افريقيا نفسها، فبعد قليل نجت روما ودخلت اسبانيا كلها في اتفاق السلام، ومنعت قرطاج من أي حرب - حتى ولو كانت في دفاع نفسها - إلا بإذن روما.
حرب ماسينيسا
في 195 ق م، بعد أن طردوا الرومان حنبعل من قرطاج، أخذ ماسينيسا ملك نوميديا جزءا كبيرا من ما كان ملك قرطاج في افريقيا، من عنابة في الجزائر حتى لفقي في ليببا، وهو يعرف أنهم لا يستطيعون أن يدافعوا على أنفسهم إلا بإذن حليفه روما. في 160 أخذ المزيد من أراضي قرطاج، فبعثت قرطاج سفير إلى روما لتطلب إذنهم الحرب، وأمر روما ماسينيسا أن يرد لقرطاج بعض المدن، لكن لم يكفي في رأي قرطاج، ففي عام 151 ق م، حاربوا ضد ماسينيسا وخسروا بسرعة. وكان فريق كبير في روما يريد تدمير قرطاج شامل - وأشهرهم مارقوس كاتون الذي زار قرطاج في عام 155 ق م وبعد زيارته كان يكمل كل خطاب له في المجلس بصرخة "Carthago delenda est" "علينا أن ندمر قرطاج" - فقالوا أن قرطاج نقضت الاتفاق وهجموا عليها.
الحرب البونية الثالثة
كان الحرب البونيقية الثالث أسرع من الحروب قبلها. أولا حاصر جنود روما قرطاج طول 3 سنين، وأخيرا نجحوا ودمروا قرطاج تدمير شامل. ذبحوا معظم المدنيين وباعوا الآخرون كعبيد، وحرقوا المدينة ودمروا جدرانها، ويقال أنهم حرثوا الأرض بالملح لكي لا ينمو فيها أي نبات أبدا ولا يسكنها أحد. وانتهت شهرة قرطاج وثبتت إمبراطورية روما.
قرطاج الجديدة
لم يبق شيء من قرطاج، لاكن موقعها لم تزل من أفضل أماكن البحر الابيض المتوسط لبناية مدينة. وبعد قرون، قرر يوليوس قيسر في عام أن يبني هناك قرطاج جديدة ليسكنها الرومان. وأصبحت قرطاج الجديدة عاصمة افريقية الرومانية. في عام 439 م أخذ غيسريك ملك قبيلة الفاندال الألمانية قرطاج، وحكموها حتى عودة الرومان البيزنطيين 15 أكتوبر 533 بقيادة بيليساريوس. لكن في أواخر سنين الإمبراطورية الرومانية قل عدد سكان افريقية الشمالية، وبعد فتح قرطاج في 698 م أصبحت مدينة قريبة منها تسمى تونس أهم منها، وأخيرا رجع قرطاج أثر غير مسكون، يبنون بها سكان تونس بيوتهم.
مجتمع قرطاج
حكومة قرطاج
وصف ارسطو حكومة قرطاج في 340 ق م وقال أنها كانت أساسا حكومة أغنياء المدينة، وأن أساس نجاحها كانت نموها اقتصادية الدائمة واستعمارها، فهكذا كل مواطن رأى أن حاله كان يتحسن. وكان أكبرهم الـ"شوفط"، قاض القضات، وقائد الجيوش الذي لم يدخل في حكومة المدينة، وفي القديم أيضا كان لهم ملوك. تحتهم كان مجلس الشيوخ وتحتهم مجلس المدنيين. واختيار الشوفطين والملوك كان حسب حسنهم ومالهم، ولا يرتبط بعائلتهم. وسذكر أرسطو أن من أراد أن يجادل رأي الملوك والشوفطين يستطيع أن يفعل ذالك لما خاطب الملوك والشوفطين الشعب. ولمعظم تاريخهم كان جنودهم أجراء وليس حلفاء، وأحيانا أصبح هذا مشكلة كبيرة كما رأينا.
دين قرطاج
كان شعب قرطاج يعبد الأصنام كعادة الكنعانيين، وأهم آلهتهم بعل وملقرت وتنيت. وفي حال خطر كبير للمدينة يبدو أنهم كانوا يرمون أطفالهم في النار قربانا لآلهتهم، وفي الأحوال العادية يذبحون الحيوانات فقط.
فنون قرطاج
للأسف الشديد، لم يبق أي كتاب بونيقي (ولا فينيقي) إلا ترجمة يونانية لكتاب ماجو حول الزراعة. لكن يذكر الكاتب الروماني سالوست في كتابه حرب يوغرطا أن قرطاج كانت فيها كتب عديدة تاريخية وجغرافية، وأنها لم تحترق في تدمير قرطاج، بل استولى عليها أهل نوميديا المجاورة. يبدو من ما اكتشف في رأس الشمرة أن أساطيرهم كانت طويلة ومتنوعة. وأتقن الفينيقيون صناعة الزجاج، وكانوا هم أول من صنعوه، واشتهروا أيضا بصبغ الملابس باللون القرمزي.
دين قرطاج
كان شعب قرطاج يعبد الأصنام كعادة الكنعانيين، وأهم آلهتهم بعل وملقرت وتنيت. وفي حال خطر كبير للمدينة يبدو أنهم كانوا يرمون أطفالهم في النار قربانا لآلهتهم، وفي الأحوال العادية يذبحون الحيوانات فقط
تاريخها الثقافي
فنون قرطاج
للأسف الشديد، لا يبقى أي كتاب بونيقي (ولا فينيقي) إلا ترجمة يونانية لكتاب ماجو حول الزراعة. لكن يذكر الكاتب الروماني سالوست في كتابه حرب يوغرطا أن قرطاج كانت فيها كتب عديدة تاريخية وجغرافية، وأنه لم يحترقوا في تدمير قرطاجة، بل أخذهم بعض أمراء نوميديا. يبدو من ما اكتشف في رأس الشمرة أن أساطيرهم كانت طويلة ومتنوعة. كانوا يتقنوا صناعة الزجاج، والفينيقيون هم الذين اكتشفوا الزجاج، واشتهروا أيضا بصبغ الملابس.
اللغة و الثقافة
اللغة البونيقية هي اللهجة الإفريقية للغة الفينيقية، ومن تأسيس قرطاجة حتى نهاية الإمبراطورية الرومانية كانت من أهم لغات شمال إفريقية. إنها لغة سامية مثل العربية الفصحى، ولذا معظم مفرداتها شبيهة بها، لكنها أقرب إلى العبرية القديمة، ومن أراد أن يتقن البونيقية فيجب أن يتقن العبرية. الأبجد البونيقية هي التالي:
كتب القديس أوغسطين في القرن الخامس م أي بعد ستة قرون مرت على تدمير قرطاجة و مسحها عن الخريطة ،(( إذا سألت أحد سكان هذا البلد عن هويته ، سيقول لك بلسانه البونيقي أنه كنعاني ...)) . اللسان البونيقي الذي يشير إليه القديس أوغسطين هو التسمية الرومانية للغة الكنعانية ،أي لغة قرطاجة الفينيقية، فقد دأب الرومان على تسمية الكنعانيين الذين أستوطنوا الشواطىء البحر الأبيض المتوسط الغربية بدءاً من القرن الثالث عشر ق.م بالبونيقيين ترجمة للكلمة اليونانية الفينيقيين ، ومازالت التسمية اليونانية شائعة حتى اليوم على الرغم أن من يشار إليهم بهذه التسمية لم يستخدموها حتى بعد أن أصبحت بلادهم على ساحل المتوسط الشرقي تحت الهيمنة اليونانية بدءاً من عام 332 ق.م ، وأصبحت بلادهم على ساحل أفريقيا الشمالي تحت الهيمنة الرومانية بدءا من عام 146 ق.م .
للأسف الشديد لم يتبقى أي كتاب بونيقي (ولا فينيقي) ولكن لدينا أرقام مؤكدة عن عدد من النصوص البونيقية التي ترجمت إلى اللغتين اليونانية و اللاتينية خصوصا ، رحلة حانون الملاح ، الترجمة اليونانية لكتاب ماقون حول الزراعة ، لكن يذكر الكاتب الروماني سالوست في كتابه (حرب يوغرطا) أن قرطاجة كانت فيها كتب عديدة جغرافية وتاريخية ، و أنها لم تحرق في تدمير قرطاجة ، بل أخذها بعض أمراء نوميديا. يقول أميانوس (إن الملك جوبا الثاني ،يقول نسبة للمراجع البونيقية أن نبع نهر النيل يقع على جبل في موريتانيا ويطل على المحيط ). ويذكر سالوست أيضا أن الملك النوميدي هيمبسال الثاني كان قد كتب عملا أو أكثر باللغة البونيقية
و يقال إن حنبعل برقة نفسه كان قد ألف أعمالا باللغتين البونيقية و اليونانية
إن القرطاجيين قاموا بنسخ نموذج الملك الآشوري (آشوربانيبعل) من القرن السابع ق.م
ففي قرطاجة، ما إنفكّ الإعتراف بالآخر من تقاليد السلف والخلف، فلقد كانت قرطاجة، وهي ملكة في المتوسط، تترك أبوابها مفتوحة على مصراعيها أمام قصّادها والذين يبغون الإقامة فيها، فآوت جاليات لوبية ومصرية وأتروسكانية وإغريقية وأخرى كثيرة وإن لم تذكرها النصوص المتوفّرة. وكان القرطاجيون لا يتعففون من الزواج المختلط بل يقبلون على مصاهرة المقيمين عندهم : فمن بين القادة العسكريين في جيش حنبعل ضابطان يشعران بالإنتماء إلى قرطاجة دون ما تنكّر لجدّهما الإغريقي الأرومة علّه جاء إلى العاصمة البونيقية مهاجرا. ولمّا استطاب العيش فيها تزوّج قرطاجية أنجبت له طفلين ترعرعا في قرطاجة وفيها تعلّما ثم انخرطا في سلك الجيش الحنبعلي وكان أحدهما يسمى (أيْفيقيدس) والثاني (هيبُّقراتس) .
وتجدر الإشارة أيضا إلى فيلسوف قرطاجي اسمه (عزربعل) وكان يسمّى في الأوساط الإغريقية) اقليتوماكوس) وهو من أمّ قرطاجية لم يحتفظ التاريخ باسمها ومن أب إغريقي يسمّى ديوجنيتوس ولعلّه من الجالية الإغريقية التي كانت تقيم بقرطاجة وفيها تشتغل ، لاسيما وقد توفّرت لها ظروف إقامة طيّبة، تنعم بالسّلم والرّخاء وقد تمكّنت تلك الجالية من إنشاء مقدس تمارس فيه عبادة الإلهة ديمتره السيراكوسية. ولم تكن هذه الشعائر الإغريقية تزعج الإلهة القرطاجية تعنيت بل كان إحترام متبادل بين الإلهتين. هذا مع العلم أنّ محفل الآلهة البونيقية يضمّ آلهة مصرية نذكر منهم أوسيريس وإيزيس ورع. وممّا يثبت قبول هؤلاء الآلهة المصرية وجود أسمائهم في أسماء القرطاجيين والقرطاجيات : فكثيرون من كانوا يتسمّون عبد إيزيس أو عبدرع وهو ما يثبت أنّ القرطاجيين لم يقبلوا على ترجمة أسماء الآلهة الذين يدخلون ديارهم. فالإلهة إيزيس المصرية تحافظ على إسمها في قرطاجة. ولئن أشرت إلى هذه الظاهرة، فذلك لأنّ الإغريق لا يعترفون إلاّ بقوالب لسانهم ومقاييسه، حتّى أنّهم إذا تحدثوا عن تعنيت أو عشتروت رأيتهم يذكرون هذه أو تلك مستعملين إسما إغريقيا يعتبرونه مناسبا. ففي النصوص الإغريقية لا تجد اسم تعنيت لأنّه يحجب ويعوّض بإسم( هيرا)أمّا في النصوص اللاتينية فقد تتوارى تعنيت خلف الإلهة( يونو) . ولم تكن تلك المعادلات من باب الإعتباط بل لها أصول وقواعد ليس المجال هنا للخوض فيها.
الامبراطورية الرومانية شرّعت حق استقبال اللاجئين السياسيين. وهو بخاصة ملتقى حضارات الشرق الادنى. واورد عن المؤرخ فيلوستراتس وصفا جميلاً لمدينة قادش التي اسسها أبناء صور في نهاية الالف الثاني قبل الميلاد - نتباهى بمثله اليوم بعد اربعة آلاف سنة - قال:(( إن فيها معبداً للعصور القديمة إلى جانب معابد للفكر والفن، ومعبد مكرس للحكمة في جميع انحاء الارض، من دون عصبية او تمييز عرقي او ديني او لغوي)).
وما دمت أتحدث عن قرطاجة، أشير إلى تجربة خاصة : كنّا في شهر أوت من سنة 1992 ضمن ملتقى دولي يعنى بالتاريخ القديم والآثار وقد إلتأم بالوطن القبلي في مدينة بونيقية قرطاجية تقع بين قليبية والهوارية وتسمّى كركوان. ولما كنت أشرف ميدانيا على هذا الملتقى، تولّيت كشف الغطاء عن قبر نقر في الصخر من المدرج إلى الغرفة الجنائزية مرورا بمعبر ضيق طويل، وعند دخول الغرفة الجنائزيّة تبيّن أنّ الضّريح يأوي رفات شخصين دفن أولهما كالجنين، وهي طريقة إقبار شائعة في الأوساط اللّوبية عيانها علماء الآثار في شمال إفريقيا منذ أقدم العصور القديمة. أمّا الآخر، فثبت أنّها امرأة وذلك على أساس الظّهرة الجنائزية ومنها مرءاتان من برونز، والجدير بالذكر أيضا أنّها أقبرت ترميدًا وجمعت عظامها المحروقة في تابوت من الحجر الجيري.
ففي هذه الغرفة الجنائزية تواجد نوعان من طرق الإقبار : الدفن على هيأة الجنين والترميد، وإستنادا إلى معطيات مادية ثابتة أمكن إستخلاص النتائج التالية : يعود هذا القبر القرطاجي البونيقي إلى ما بين القرن الرابع والقرن الثالث ق.م. تأوي الغرفة الجنائزية رفات رجل أصوله إفريقية وقد يكون من أرومة محليّة. وإلى جانبه رفات زوجته المرمّدة.
تواجد طريقتي إقبار مختلفتين في نفس الغرفة الجنائزية وهو ما يجعلنا نفترض أنّ الرجل الإفريقي تزوّج من امرأة أجنبية قد تكون إغريقية أو أتروسكية مع العلم أنّ الإغريق والأتروسكيين كانوا يرمّدون أمواتهم في غالب الأحيان. تمكّنت المرأة من الحفاظ على هويتها الدينية ولم ير أهلها حرجا من ترميدها وإقبار عظامها المحروقة في نفس الغرفة الجنائزية التي آوت رفات زوجها الإفريقي. كان الزوجان على مستوى من الحب والوئام جعلهما يتقاسمان بيت الحياة وغرفة المماة دون أن يفرّطا في الهوية الثقافية ولا في العقيدة والطقوس. فهو الحب والإعتراف بالخصوصية. إنّها روعة حضارية.
هكذا كان المجتمع القرطاجي البونيقي متفتّحا لا يعرف التعصّب ولا يعمل على إقصاء الآخر بل يفتح ذراعيه استعدادا لمعانقته دون أن يتنافى ذلك مع المنافسة الشريفة والمزاحمة في كل ما يتعلق بشؤون المادّة من صناعة وتجارة وتوسيع مناطق النفوذ. وأيّا كان الأمر، فالقرطاجيون يعترفون بالآخر. ولمّا أشعّت الرّومنة بعد عنف الحروب وضراوتها، توفرت لروما وقرطاج ظروف سلم ووئام، تلك التي ترنّم بها الشاعر اللاتيني ورجليوس Virgile تمجيدا للإمبراطور أوجستوس Auguste ومآثره. على أن الأفريقيين، يعتبرون قصيدة أنّيوس Enée أهزوجة تراقص أفريقة وتعانقها وترفع ذكرها. لقد ترومن الأفريقيون، ولا أدلّ على ذلك من مشاهدة المواقع والمعالم وهي عديدة في مختلف أقطار المغرب الكبير. وفضلا عن المعالم والمواقع مثل دقّة Dougga وتاوسدرة Thysdrus وجميلة Cuicul بالجزائر وليلى Volubilis بالمغرب الأقصى وسبراطة ولبدى Lepcis بليبيا، لا بّد من ملاقاة الرجال وقراءة مآثرهم، سياسية كانت أو عسكرية، ولآخرين مآثر أدبية روحية أو فلسفية وفنية : فهذا أبوليوس المداورشي وذاك افرونتون الكرتي و آخر يدعى كلوديوس ألبينوس الهدرمي، فنحن مدينون لبول مونسو Paul Monceau بكتاب أفرده إلى أدباء وشعراء وفلاسفة من أبناء أفريقة الذين أبدعوا باللّغة اللاتينية، ثم لا بدّ من إشارة إلى سبتميوس سيويروس وهو من عظماء الأباطرة وينتمي
تحميل كتاب تاريخ قرطاجة على
http://www.4shared.com/document/XVbzFfDx/__online.html