ظل السلطان الصالح المصلح "عالم كير" يحكم بلاد الهند كلها على اتساع ملكها، واختلاف شعوبها، وكثرة أعدائها بنفس الطريقة المرضية من قواعد الشرع والعدل، وقاد البلاد بمنتهى الاقتدار في فترة عصيبة شديدة الاضطراب من قتال داخلي وتسلط خارجي، ومع كثرة حروبه ضد أعدائه؛ فإنه لم يغير عاداته ولا نظامه اليومي؛ من عبادة وعلم وعدل وصلاح؛ لتوكله على الله عز وجل في سائر أحواله وأموره، حتى بلغت الهند في عصره ..
في أدبيات الشعوب المعاصرة والحديثة ترتبط كلمة السلطان، أو الحاكم، أو الملك، أو الرئيس، بكثير من السلبيات والنقائص، حتى أصبحت هذه الكلمة في حياة كثير من الشعوب المعاصرة والحديثة تعني الظلم والطغيان والاستبداد والديكتاتورية، ولعل أن تكون الشعوب معذورة فيما ذهبت إليه من ترادف؛ لما تراه من حال كثير ممن آتت بهم الأقدار، ورفعوا لهذه المناصب من غير استحقاق ولا جدارة إنما كابتلاء وتمحيص وتسليط، ووسط هذه النظرة السوداوية المتشائمة من الشعوب عن حكامهم يلمع بطلنا هذا الذي سنتكلم عنه، فهو سلطان جمع بين الإيمان والعلم والورع والتأليف والجهاد والشجاعة والعبادة والعدل والدعوة، ولم يترك بابا من أبواب الخير إلا كان له فيه يد بيضاء وسهم وافر، وهو مع ذلك يحكم مملكة شاسعة ضخمة وهي مملكة الهند الكبرى، فكان أشبه سلاطين الإسلام تشبها واقتداء بالراشدين.
النشأة
اسمه بالكامل أبو المظفر محيى الدين محمد أورنك زيب عالم كير بن شاه جهان بن نور الدين جهار كير بن السلطان جلال الدين أكبر. وتنطق أيضا أورنج زيب عالم جير؛ لأن الكاف باللغة الهندية القديمة تنطق جيم. ومعناها بالفارسية: زينة الملك جامع زمام العالم.
سليل السلاطين العظام في دولة مغول الهند الإسلامية، ولد سنة 1028 هجرية في أيام جده "جهان كير"، فنشأ وتربى في مهد السلطة تربية ملوكية، فتلقى العلوم والفنون القيادية والقتالية، فبرز ولمع نجمه منذ صغره في كثير من العلوم والفنون، وخاصة في علم الحديث والفقه، حتى أنه ألف كتاب الأربعين جمع فيه أربعين حديثا من أقوال النبي صلى الله عليه وسلم، وكما كان يضرب به المثل في حسن الحظ حتى إنه كتب مصحفا بيده قبل أن يتولى حكم البلاد، وبعثه إلى مكة ونسخ الألفية لابن مالك في صباه وأوقفها بمكة على طلبة العلم، كما كان ماهرا بالإنشاء والترسل وكتابة الرسائل.
و"عالم كير" وإن كانت ميوله علمية في المقام الأول إلا أنه برز أيضا في الشجاعة والفروسية وفنون القتال، فقد كان ماهرا في الرمي والطعن، وكان له موقف في صباه كشف عن ثبات وعزيمة وشجاعة، فلقد تصدى لثورة فيل من أفيال المصارعة أصيب بالهياج، وفر الناس من بين يديه إلا الفتى "عالم كير" وكان في الرابعة عشرة من العمر، فقام وشهر سيفه ورد عادية هذا الفيل الثائر.
وأبوه هو
: "السلطان شاه جيهان" أحد أعظم سلاطين دولة المغول المسلمين فى الهند , وهو بانى مقبرة "تاج محل" الشهيرة التى تعد الآن من عجائب الدنيا السبع , والتي قد تم بنائها فى 20 عاما ! وعمل على إنشائها أكثر من 21.000 شخص ! فقد كان مفتونا بمحبة زوجته جدا ! حتى أنفق تلك الأموال في بناء ذلك الضريح الأعجوبة لها ! وخصص لنفسه في قصره : غرفة خاصة بها شرفة تطل على ضريح زوجته ! فكان يجلس الساعات الطوال ينظر إليها حتى أوشك أن يذهب عقله من حزنه عليها !
تدريب الملوك
كان للسلطان "شاه جهان" العديد من الأبناء، وقد حرص هذا السلطان العاقل على تربية أبنائه تربية ملوكية؛ ليحملوا المسئولية من بعده، فجعل كل واحد منهم واليا على جزء من أجزاء الهند الواسعة، وكانت أشد ولايات الهند اضطرابا إثارة للفتن، هي ولاية "الدكن" في جنوب الهند، حيث كان أغلبية السكان من الهندوس، ولقد ثار الهندوس بـ"الدكن" عدة مرات، بهدف التخلص من حكم المسلمين وإقامة حكم "المراتها" في جنوب الهند وكان "شاه جهان" نفسه واليا على "الدكن" أيام سلطنة أبيه "جيهان كير"، وقد قلب "شاه جهان" فكرة فيمن يوليه من أبنائه على هذه الولاية الملتهبة، فلم يجد أفضل ولا أجدر من ولده "عالم كير" فعينه واليا على الدكن سنة 1045هـ 1636م أي و"عالم كير" في السابعة عشرة من العمر، فقام بدوره على أفضل ما يكون، وقمع ثورة الهندوس بمنتهى الشدة والحكمة أيضا، وظل واليا على الدكن حتى سنة 1066 هجرية، أي زيادة على عشرين سنة تمرس خلالها على كل فنون الحكم وسياسة الناس، والتعامل مع أرباب الثورات والفتن، فعركته الخطوب واشتد عوده وقوي فؤاده على مهام السلطة والحكم وهو في شرخ الشباب.
الإحساس بالمسئولية
أصيب سلطان الهند "شاه جهان" بمرض أقعده عن الحركة ومباشرة مهام الحكم، وكان ولي عهده من بعده أكبر أبنائه "داراشكوه" فبسط يده على البلاد وأصبح هو المرجع والسلطان الحقيقي، ولم يكن "داراشكوه" على المستوى الإيماني والأخلاقي والقيادي المناسب لهذا المنصب الخطير، وكان باقي إخوانه يكرهونه ولا يرضون بولايته، فلما تناهت إليهم أخبار ولايته بعد مرض أبيه نهض كل واحد منهم من الإقليم الذي يحكمه متجها إلى "دهلي" لخلع أخيه.
لم يكن "عالم كير" غافلا عما يجري على أرض الهند، وعما ستسفر عنه من الصراعات من تمزق للبلاد وتسليط للعدو الداخلي -وهم الهندوس-، والعدو الخارجي -وهم البرتغاليون- الموجودون على ساحل الهند في الجنوب الشرقي للبلاد، ولذلك قرر "عالم كير" أن يعمل بكل جهده على الوصول لكرسي السلطنة، ليس حبا في الإمارة ولا طمعا في الزعامة والتسلط، بل لأنه أحق من يتولى هذا المنصب الخطير، خاصة وأن باقي إخوانه مثل أخيهم في السلوك والأخلاق والمبادئ، ومن منطلق إحساسه بالمسئولية، ظل "عالم كير" في حروب طويلة مع إخوانه حتى استطاع أن يصل الى عرش الهندستان وذلك سنة 1068 هـ أي وهو في الأربعين من عمره، وكان أبوه "شاه جهان" مازال حيا مريضا، فأحسن إليه، وعمل على راحته وخدمته، وأنزله في قلعة كبيرة، وهيأ له كل وسائل الراحة، وتفقده بالزيارة حينا بعد حين حتى قضى أبوه وهو راض عنه، مبارك لسلطنته، وهنا تبدأ فترة حكم واحد من أعظم سلاطين الإسلام.
إستراتيجية تأليف القلوب
عانت البلاد كثيرا في الفترة التي سبقت سلطنة "عالم كير" حيث كان القتال على أشده بين الأمراء على الحكم، فلما تولى "عالم كير" عمل على تأليف القلوب المتنافرة؛ فكل أخ من إخوته كان له جنود ورجال وعشائر من خلفه تؤيده، وترغب مثله في الاستفادة من وصول أميرها للحكم، وهؤلاء لابد أن تختلف قلوبهم وتمتلأ نفوسهم بالضغائن ضد "عالم كير" ومن معه، ومن أجل تأليف القلوب وإصلاح النفوس عمل على إصلاح آثار الحروب وتعويض الأهليين عما أصابهم من شر، وذلك باتباع الخطوات الآتية:
1- قام بإبطال ثمانين نوعا من المكوس -الضرائب- التي كانت تثقل كاهل الرعية.
2- نهى المستوفين أن يطالبوا الأبناء بغرامات الآباء ويصادروا أموالهم في القضاء، حيث لا ذنب له
3- عمل على إصلاح المرافق العامة والحيوية، فرصف الطرق والشوارع في نواحي الهند، وحفر الآبار وأجرى العيون وأسس الجسور ورباطات الجهاد والحمامات والإسطبلات لأبناء السبيل في تلك المسالك؛ ليستريح الناس فيها، وبنى المساجد الكثيرة وعمر القديم منها، وأسس دور العجزة في كل الأقاليم وكذلك المستشفيات.
4- وضع نظام الحسبة كما كان في أيام الخلافة الإسلامية لمراقبة الأسواق والطرق وتأمينها من اللصوص والمفسدين.
5- أفاض من أموال الدولة وأمواله الخاصة على الفقراء والمحتاجين والغارمين، وضاعف من قيمة الأموال التي كانت تخرج بصورة دورية وموسمية من بيت مال السلطنة، وخصص جزءا من الأموال يصرف لصالح من أصيب في الحروب وتضرر منها في بيت أو أرض أو نفس.
وبهذه الخطوات الذكية الصالحة استطاع أن يستألف القلوب والنفوس وينشر السلم والهدوء بين صفوف المسلمين في الهند؛ ليتفرغ بعدها للعدو الحاقد ( الهندوس ).
السلطان العابد
كان "عالم كير" سلطانا من طراز نادر لا يعلم مثله إلا في القرون الفاضلة، فلقد كان عالما تقيا ورعا، شديد التمسك بأحكام الشريعة، محافظا على دينه، متبعا للمذهب الحنفي إلى حد التشدد فيه، فقد كان لا يتجاوزه في قول ولا عمل، وكان يأخذ نفسه بالعزيمة، محافظا على الصلوات في المسجد، مقيما للسنن والنوافل من صلاة وصيام، حريصا على شهود الجمعة في جامع دهلي الكبير، مداوما على اعتكاف العشر الأواخر من رمضان به، يرسل المئات سنويا للحج على نفقته؛ لتعذر خروجه من البلاد؛ لكثرة الأعداء المحيطين به، كثير الذكر، دائم الطهارة، يقيم الليل قدر استطاعته، وكان يحترز عن كل سوء ومكروه منذ نعومة أظافره، فلم يشرب الخمر قط، ولم يتلطخ بالزنا أبدا، ولم يستمع للغناء والموسيقى منذ أن تولى السلطنة مع أنه كان ماهرا بالعزف قبل ذلك، لا يلبس ما حرمه الله من ذهب وحرير، ولا يأكل في آنية الذهب والفضة، وكان ينهى أمراءه عن الخوض في مجالسه بغيبة وكذب ونميمة، حتى إنه أمرهم أن يعبروا عن كل الأمور المنكرة إن وقع لهم حاجة إلى ذلك بكناية أو استعارة، وكان شديد الزهد على الرغم من عظمة مملكته، حتى أنه مع سعة سلطانه يفطر في شهر رمضان على رغيف من شعير من كسب يمينه، وكان يتقوت من كتابة المصاحف وصناعة العمائم، ويصلي هو بالناس التراويح ويطيل فيها، حتى أن الانجليز كانوا يطلقون عليه اسم "القديس" من كثرة عبادته.
يوميات سلطان عظيم
كلنا يلتمس العذر لنفسه من أجل تبرير تفريطه وتقصيره في الواجبات والمستحبات الشرعية، فيقول الواحد منا لنفسه: المشاغل كثيرة والمسئولية جسيمة ولا أجد وقتا، ويومي كله مشغول بالأعباء ومتطلبات الحياة والحقيقة أن كلها مبررات واهية، وسيرة هذا السلطان الذي هو أضخم الناس مسئولية وانشغالا بحكم منصبه تفضح البطالين والكسالى ومدعي الانشغال، وسمع كيف كان هذا السلطان العظيم يقضى يومه.
كان "عالم كير" شديد التنظيم لأوقاته؛ فوقت للعبادة، ووقت للمذاكرة، ووقت لتفقد العسكر، ووقت لأصحاب الدعاوى والشكاوى، ووقت لقراءة الكتب والأخبار الواردة، لا يخلط شيئا بشيء، فلقد كان ينهض قبل الفجر، يتوضأ ويشتغل بالأذكار حتى طلوع الفجر، ثم يصلي الفجر بالمسجد، ثم يشتغل بتلاوة القرآن والأذكار الموظفة، ثم يذهب إلى ديوان الحكم؛ فيمثل الأمراء والوزراء بين يديه لسماع الدعاوى والشكاوى، ثم ينتقل بعدها للديوان العام ويجلس للناس، فيحضر عنده عظماء الهند وعامتهم والسفراء والأمراء، فيعرض عليهم الطلبات والأوامر، ويسمع منهم كل ما يريدون قوله، ويكون حاضرا عنده في الديوان العام الوزراء والولاة والمسئولين؛ ليكلف بعضهم بتلبية الطلبات، وإجابة الحاجات، ورفع المظالم، ثم يدخل بيته ويتناول اليسير من الطعام، ثم يقيل ساعة ثم يستيقظ لصلاة الظهر، فيتوضأ ويصليها بالمسجد، ثم يدخل "الخلوة" لقراءة القرآن، وكتابة المصحف بخطه البارع، ويطالع كتب العلم وخاصة الفقه الذي كان بارعا فيه لحد التمكن، وفي الخلوة يدعو علماء عصره للتباحث معهم في الأمور الفقهية، ثم يتجه إلى المسجد لصلاة العصر، وبعدها يعود إلى ديوان الحكم؛ ليباشر شئون الحكم وتوقيع المناشير وأحوال الجيش وأخباره وتحركاته وتسليحه وما يستجد من ذلك، ثم يصلي المغرب ويشتغل بالأذكار والأوراد، ثم يعود لديوان الحكم حتى صلاة العشاء فيصليها، ثم يدخل بعدها ولا يجلس لأحد، أما يوم الخميس فكان يتفرغ للذكر والعبادة من صلاة العصر، ويترك شئون الحكم ومتاعب الدولة.
ويكفي أن نعرف أن هذا السلطان العظيم قد حفظ القرآن كله بعد جلوسه على العرش، وأصبح من كبار فقهاء زمانه -أيضا- بعد جلوسه على العرش، وقد اشترك مع عدة علماء في تأليف كتاب "الفتاوى الهندية " في ستة مجلدات كبار، وقد اشتهر هذا الكتاب في سائر بلاد المسلمين في الحجاز ومصر والشام والدولة العثمانية، وصار مرجعا للمفتين على المذهب الحنفي، ومازال هذا الكتاب يطبع ويدرس تحت اسم "الفتاوى الهندية".
جهاده ضد الهندوس
لقد كان الهندوس حكام الهند قبل قيام دولة الإسلام بالهند، لذلك فلقد كانوا -وما زالوا- أشد الناس عداوة للإسلام والمسلمين، وكانت الهندوسية كعقيدة وديانة مليئة بالضلالات والوثنيات والشركيات والطبقية المقيتة، فاصطدم الهندوس كدين وعقيدة وحكم مع المسلمين، وقاموا بالكثير من الثورات ضد الحكم الإسلامي، وكانوا يتمركزون في وسط وجنوب الهند خاصة بهضبة "الدكن" وصحراء "الراجبوتا"، وكان من المتوقع أن يستغلوا فرصة إنشغال أمراء المسلمين بالاقتتال الداخلي؛ ليثوروا ثورة عنيفة، ويستولوا على عدة أجزاء من جنوب الهند، ولما أسفر الصراع الداخلي عن وصول "عالم كير" للحكم، زادت ثورة الهندوس لما يعلمونه من صلاح وديانة هذا الرجل وشدة سطوته وعزيمته، ولقد جربوه من قبل عندما كان حاكما على الدكن أيام حكم أبيه "شاه جهان".
كان "عالم كير" على دراية كاملة بالمخطط الهندوسي؛ لطرد المسلمين من بلادهم، وإعادة مملكة "رام" -أكبر معبودات الهندوس- على أرض الهند، لذلك أخذ يستعد لمحاربة أعداء الإسلام، واستعادة ما أخذوه من مدن في جنوب الهند، فقرر -أولاً- تنقية الجيش الهندي من عناصر الضعف والعمالة؛ فأصدر قراراً بتحريم دخول الشيعة -خصوصا الأفغان- إلى صفوف الجيش؛ وذلك لخيانتهم المتكررة، وتحالفهم مع أعداء الإسلام من أي نوع وملة وطريقة على المسلمين الذين يفترض أنهم إخوانهم في الدين، ثم أخرج الهندوس من سكان شمال الهند من كافة المناصب المهمة والحساسة في الدولة، وأبقى من ليس له تأثير وأهمية، ثم أقام علاقات مصلحة مع الإنجليز لخلق نوع من التوازن في الصراع؛ ذلك لأن الهندوس تحالفوا مع البرتغاليين.
أقام الهندوس تحالفا ضم فيه الستناميون "متصوفة الهندوس" و"الرجبوتايون" -وهم حكام شمال الهند سابقا-، والبرتغاليون والكل تحت زعامة "شيواجي بن شاهجي" زعيم جماعة المهراتا الدكنية، ودخلوا صراعا طويلا ضد المسلمين، ولكن "عالم كير" تصدى لهم بكل حزم وقوة، وظل يحاربهم لأكثر من عشرين سنة متصلة بلا هوادة حتى انتصر عليهم وقتل زعيمهم "شيواجي" وذلك سنة 1091 هـ.
وبعدها عمل "عالم كير" على نشر الإسلام في صفوفهم، ووضع الجزية على من بقي على دينه، وهو بذلك أول من وضع الجزية على الهندوس، وقام بهدم معابدهم، وأقام مكانها المساجد والجوامع، وبعدها تمكن من ضم ولايتي "آسام" و"البنغال" التي تعتبر معقل البوذية في الهند، وسادت الهند حالة من الهدوء والسلام بفضل جهود هذا السلطان العظيم.
تأديبه للإنجليز
كان الإنجليز قد وصلوا إلى الهند أيام السلطان "جهان كير" جد "عالم كير" وأقاموا عدة مراكز تجارية لهم بإقليم "الكجرات"، ورحب بهم أهل البلاد؛ لكراهيتهم للبرتغاليين ومبشريهم، واستغل "جهان كير" وأغرى الإنجليز بالبرتغاليين فدخلوا في حرب ضدهم، وانتصر الإنجليز في الحرب وكسبوا بذلك حقوقا على سواحل الهند.
فلما دخل "عالم كير" في صراع مع التحالف الوثني الهندوسي، استعان بالإنجليز في حروبه ضدهم واستولى الإنجليز على مراكز البرتغاليين، وأقاموا وكالة مركزية في مدينة "سورات"؛ لتشرف على الحركة التجارية في الهند كلها، واتسع نفوذهم حتى سولت لهم أنفسهم معارضة حاكم البنغال من قبل "عالم كير" وعندها قرر "عالم كير" تأديبهم وتذكيرهم بحقيقة أنفسهم وقدرها، وأنهم ضيوف وأجراء لا غير. فصادر جميع أملاكهم بالبنغال، وأنذرهم بالطرد النهائي من البلاد، فأذعنوا صاغرين، وعادوا للتجارة بشروط المسلمين، وابتعدوا عن التدخل في شئون البلاد طوال فترة حكم "عالم كير".
نصف قرن من الصلاح والإصلاح
ظل السلطان الصالح المصلح "عالم كير" يحكم بلاد الهند كلها على اتساع ملكها، واختلاف شعوبها، وكثرة أعدائها بنفس الطريقة المرضية من قواعد الشرع والعدل، وقاد البلاد بمنتهى الاقتدار في فترة عصيبة شديدة الاضطراب من قتال داخلي وتسلط خارجي، ومع كثرة حروبه ضد أعدائه؛ فإنه لم يغير عاداته ولا نظامه اليومي؛ من عبادة وعلم وعدل وصلاح؛ لتوكله على الله عز وجل في سائر أحواله وأموره، حتى بلغت الهند في عصره أوج قوتها واتساعها وغناها، وقد ظل يحكم البلاد طيلة خمسين سنة -أي نصف قرن من الزمان- حقق فيه ما لم يحققه سلطان قبله ولا سار أحد مثل سيرته في الناس ولا وفي نفسه، وما زال على هذه الحال المرضية من الصلاح والإصلاح حتى توفي -رحمه الله- بعد أن جاوز التسعين من العمر في المحرم سنة 1119 هجرية - 1707 ميلادية، وبموته انفتحت الشرور ونجم النفاق وظهر الأعداء من كل مكان، وأخذت شمس دولة الإسلام بالهند في الأفول.
أهم الدروس والعبر
1- التربية على أسس قيادية وإيمانية هو السبيل القويم لظهور القادة الربانيين الذي يقودون الأمة وقت أزماتها.
2- التدريب على المهام الجسيمة وإعطاء الفرصة لذوي الكفاءات أن يباشروا عظيم المهمات من أهم أدوات نجاح الأمة في الظهور والانتصار، ويؤخذ ذلك من تولية "عالم كير" لمنصب إمارة الدكن وهو في السابعة عشر من العمر.
3- الإحساس بالمسئولية وضرورة مبادرة ذوي الكفاءات لتولي المناصب الهامة من الأمور اللازمة عند النوازل والمهمات، وليس من الفطنة أو الورع انزواء الأحق بالمناصب بدعوى الورع والبعد عن الدنيا، وهذا ظاهر من مبادرة "عالم كير" بمحاربة إخوانه الذين لا يصلحون للسلطنة حتى تربع على العرش.
4- تنظيم الأوقات ووضع الأهداف وترتيب الأولويات والاهتمام بالنافع من أساسيات الوصول إلى العلى وتحقيق الأهداف، مأخوذ من تنظيم عالم كير ليومه وشئونه
5- أعداء الأمة يتحالفون فيما بينهم على اختلاف راياتهم ومذاهبهم من أجل محاربة الإسلام والمسلمين، مأخوذ من تحالف الهندوس مع البرتغاليين.
6- جواز الاستعانة بغير المسلمين؛ من أجل تحقيق مصالح المسلمين، على ألا يتجاوزا قدرهم ويعلوا فوق المسلمين، وتكون الاستعانة فيها ضرر على الأمة، مأخوذ من تحالف "عالم كير" مع الإنجليز ثم تأديبهم عندما طغوا.
طرفا من شمائله وأخلاقه وعدله :
قال عنه المرادي في ترجمته من كتابه : « سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر »
: ( سلطان الهند في عصرنا، وأمير المؤمنين وإمامهم ،وركن المسلمين ونظامهم ، المجاهد في سبيل الله ، العالم العلامة الصوفي العارف بالله ، الملك القائم بنصرة الدين، الذي أباد الكفار في أرضه ، وقهرهم وهدم كنائسهم ، وأضعف شركهم ، وأيد الاسلام وأعلى في الهند مناره ، وجعل كلمة الله هي العليا ، وقام بنصرة الدين وأخذ الجزية من كفار الهند ،ولم يأخذها منهم ملك قبله لقوتهم وكثرتهم ! وفتح الفتوحات العظيمة ، ولم يزل يغزوهم ، وكلما قصد بلداً سلكها ، إلى أن نقله الله إلى دار كرامته وهو في الجهاد ، وصرف أوقاته للقيام بمصالح الدين وخدمة رب العالمين من الصيام والقيام والرياضة التي لا يتيسر بعضها لآحاد الناس فضلاً عنه ! وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ،وكان موزعاً لأوقاته : فوقت للعبادة ،ووقت للتدريس ، ووقت لمصالح العسكر ، ووقت للشكاة ، ووقت لقراءة الكتب والأخبار الواردة عليه كل يوم وليلة من مملكته ، لا يخلط شيئاً بشيء ! والحاصل إنه كان حسنة من حسنات الزمان ، ليس له نظير في نظام سلطنته ولا مُدانِ ، وقد ألُِّفتْ في سلطنته وحسن سيرته : الكتب الطويلة بالفارسية غيرها فمن أرادها فليطلع عليها ..... )
ثم قال : ( واشتغل بالمملكة من سنة ثمان وستين وألف ، وأراد الله بأهل الهند خيراً ؛فإنه رفع المظالم والمكوس وطلع من الأفق الهندي فجره ، وظهر من البرج التيموري بدره ،وفلك مجده دائر ، ونجم سعده سائر ، وأسر غالب ملوك الهند المشهورين ، وصارت بلادهم تحت طاعته ، وجُبِيَتْت إليه الأموال ، وأطاعته البلاد والعباد ، ولم يزل في الاجتهاد في الجهاد ، ولم يرجع إلى مقر ملكه وسلطنته بعد أن خرج منه ، وكلما فتح بلاد أشرع في فتح أخرى ، وعساكره لا يحصون كثرة، وعظمة وقوته لا يمكن التعبير عنها بعبارة تؤديها حقها ! والملك لله وحده ، وأقام في الهند : دولة العلم وبالغ في تعظيم أهله حتى قصده الناس من كل البلاد ، والحاصل : أنه ليس له نظير في عصره في ملوك الاسلام في حسن السيرة والخوف من الله سبحانه والجد في العبادة ....) .
وقال عنه المحبي في : « خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر »
:
( وأورنك زيب : ممن يوصف :بـ الملك العادل الزاهد ،وبلغ من الزهد مبلغا أناف فيه على ابن أدهم [ يعني : إبراهيم بن أدهم الزاهد المشهور ]!
فإنه مع سعة سلطانه : يأكل فى شهر رمضان رغيفا من خبز الشعير من كسب يمينه !ويصلى بالناس التراويح ، وله نعم بارَّة ، وخيرات دارَّة جدا ، وأمر من حين ولى السلطنة : بـ : رفع المكوس والمظالم عن المسلمين ، ونصب الجزية بعد أن لم تكن على الكفار، وتم له ذلك مع أنه لم يتم لأحد من أسلافه : أخْذُ الجزية منهم؛ لكثرتهم وتغلبهم على إقليم الهند ، وأقام فيها : دولة العلم ، وبالغ فى تعظيم أهله وعظمت شوكته ،وفتح الفتوحات العظيمة ، وهو مع كثرة أعدائه وقوتهم غير مبال بهم ، مشتغل بالعبادات ، وليس له فى عصره من الملوك نظير فى حسن السيرة والخوف من الله تعالى والقيام بنصرة الدين رحمه الله تعالى .....)
وقال عنه العلامة الأديب الشيخ علي طنطاوي في كتابه : « رجال من التاريخ » :
( ووفِّق إلى أمرين لم يسبقه إليهما أحد من ملوك المسلمين : -
الأول : أنّه لم يكن يعطى عالما عطية أو راتبا إلا طالبه بعمل , بتأليف أو بتدريس , لئلا يأخذ المال ويتكاسل , فيكون قد جمع بين السيئتين , أخذ المال بلا حق وكتمان العلم !!
الثانى : أنّه أول من عمل على تدوين الأحكام الشرعية فى كتاب واحد , يُتخذ قانونا فوضعت له وبأمره وبإشرافه وتحت ناظره كتاب "الفتاوى الهندية – العالمكيرية" على المذهب الحنفى .....)
قلتُ : وبلغ من زهده وورعه : أنه كان يكتب بخطه المصاحف ويبيعها ويعيش بثمنها لما زهد فى أموال المسلمين وترك الأخذ منها !!
وقد حرص شديدا : على بناء المساجد ، ودور العبادة ، وكذا بناء الأسوار والحصون العريقة المنيعة في مملكته .