زائر زائر
| موضوع: الطب الإسلامي في الجامعات الأوروبية في فجر عصر النهضة للأستاذ الدكتور سعيد عبد الفتاح عاشور الجمعة مارس 12, 2010 6:07 am | |
| [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] الطب الإسلامي في الجامعات الأوروبية في فجر عصر النهضة للأستاذ الدكتور سعيد عبد الفتاح عاشور الكويتجاء سقوط الإمبراطورية الرومانية في الغرب الأوربي سنة 476 م مصحوبا بموجة كثيفة من التأخر الحضاري استمرت عدة قرون من أواخر القرن الخامس حتى أواخر القرن العاشر، وهي القرون التي شملت الشطر الأول من العصور الوسطى والتي أطلق عليها في التاريخ اسم العصور المظلمة. وترجع هذه الظاهرة إلى أن سقوط الإمبراطورية الغربية في أواخر القرن الخامس واكبته حركة غزوات الجرمان لأراضي الإمبراطورية. وقد أطلق الرومان على هؤلاء الجرمان- وغيرهم من العناصر التي أحاطت بدولتهم- اسم البرابرة، بمعنى المتخلفين عنهم حضاريا. وكان أن ترتب على هذه الغزوات انكماش الحضارة الرومانية تدريجيا وذبولها في مختلف الأقاليم والمدن بحيث لم يبق منها إلا بصيص خافت من النور ظل ينبعث من بعض المؤسسات الدينية كالكتدرائيات والكنائس والأديرة. ومن المعروف أن العصور الوسطى اشتهرت في التاريخ باسم عصور الإيمان لتغلب الدينن ورجاله على كافة مناحي الحياة. وفي تلك، العصور اتصف التعليم بطابع ديني واضح، بحيث صار محوره الإنجيل واللاهوت ودراسة أقوال القديسين وتراثهم ، فضلا عن القراءة والكتابة. أما العلوم الدينية، فاقتصرت على ما عرف باسم الفنون السبعة الحرة Seven Liberal Arts وهي تنقسم إلى مجموعتين: الأولى ثلاثية شملت النحو والبلاغة والجدل . والثانية رباعية شملت الموسيقى والحساب والهندسة والفلك. حتى المعلومات التي احتوتها تلك الفنون اتصفت بمظاهر وأهدافا دينية كنسية، فالنحو والبلاغة والجدل، الهدف منها جميعا تمكين رجال الدين من إلقاء مواعظهم على وجه سليم وإقناع الناس بما تبثه الكنيسة من آراء، في حين كانت الموسيقى دينية تخدم التراتيل الكنسية،: والحساب لتدوين حسابات الكنيسة ودخلها ومصروفاتها، والفلك لمعرفة مواقيت الأعياد الدينية، وهكذا. ومعظم المعلومات التي احتوتها تلك الفنون كانت مستمدة من التراث الروماني، كما أن اللغة اللاتينية ظلت لغة الكنسية الغربية، ولغة العلم والمتعلمين في- غرب أوروبا طوال العصور الوسطى . وكانت هيمنة الكنيسة عام الحياة الفكرية والتعليمية في غرب أوربا في العصور الوسطى من العوامل الأساسية التي أدت إلى عدم ترك مجال للدراسات العملية والعلوم التجريبية، لأن العقيدة المسيحية- كما قال المعاصرون- تقوم عام أساس الإيمان في حين يعتمد العلم على التعقل. هذا إلى أن أصرار الكنيسة على توجيه أنظار المعاصرين نحو الحياة الباطنية كان من شأنه أن أعمى أنظارهم عن العالم الطبيعي الميط بهم. من ذلك أن القديس اوغسطين (354- 430) أبدى دهشته من أن الناس يذهبون بتفكيرهم بعيدا للتأمل في ارتفاع الجبال أر دراسة مدارات الكواكب، ويهملون التأمل في ذواتهم أو في الآخرة. بل إن القديس أوغسطين نفسه يهزأ من فكرة كروية الأرض. وأدى هذا الاتجاه إلى انحطاط التفكير العلمي في الشطر الأول من العصور الوسطى، فانتشرت الخرافات والاعتقاد في المعجزات بين أهالي غرب أوروبا، حتى قضى السحر على البقية الباقية من المعرفة العلمية عند الأوربيين. ومهما يقال من أن غرب أوربا شهد نهضة في أوائل القرن التاسع- على أيام شارلمان- فإن هذه النهضة جاءت مفتعلة، وليدة إرادة حاكم أحد، أراد أن تكون هناك نهضة فكانت هناك نهضة. لذلك جاءت هذه النهضة- التي أطلق عليها اسم النهضة الكارولنجية نسبة إلى البيت الذي ينتمي إليه شارلمان- ضعيفة الجذور، ضيقة الأفق، قصيرة العمر، سريعة الزوال. ولم يلبث أن خبا نورها بسرعة ليعود الظلام مرة أخرى يخيم على الغرب الأوربي حتى القرن الحادي عشر . أما عن نصيب الطب في غرب أوربا في تلك العصور فكان الإهمال، بحيث لم يحظ بأدنى قسط من عناية الأفراد والجماعات والهيئات، وذلك في مجتمع اتصف بالجهل والتخلف، سيطرت فيه الكنيسة ورجالها على عقول الناس ومشاعرهم، ووجهت حياتهم وجهة قصيرة المدى، وحصرت أفكارهم داخل دائرة ضيقة، أحاطتها بسياج منيع من التزمت والتعسف، كان من المتعذر على إنسان أن يتجاوزه. ويكفي أن بعض رجال الدين في غرب أوربا في تلك العصور نادوا بأن المرض نوع من العقاب الإلهي، ولذا لا يصح للإنسان أن يتداوى منه لأن هذا يعتبر تحديا للإرادة الإلهية فالمريض مرض لأن الله أراد أن يعاقبه بالمرض، ولذا فإن تطبيبه ومداواته لا يعنيان إلا مساعدته على التهرب من تنفيذ الحكم الإلهي عليه. ولم يسع الناس في تلك العصور- في حالة المرض أو انتشار وباء- سوى الهروع إلى الأديرة والكنائس ، واللواذ بها، والتمسح بأسوارها، وتقديم النذور وفروض الولاء لرجال الدين فيها، والسجود أمام ما فيها من أيقونات وتماثيل وصور، عسى الله أن يرحمهم ويكشف الغمة عنهم . وبالإضافة إلى ضعف المستوى الفكري والثقافي لرجال الدين في غرب أوربا في تلك العصور، فإن التراث اليوناني في شتى العلوم والفنون لم يكن معروفا، حتى عند الخاصة. ربما عرفت اللغة اليونانية في بقاع محدودة من جنوب إيطاليا وصقلية، ولكن مؤلفات أرسطو وأبقراط وجالينوس وغيرهم من رجال الفكر والعلم عند قدماء اليونان نم تكن معروفة في الغرب الأوربي. هذا فضلا عن أن الكنيسة ورجالها وقفوا منذ البداية موقفا معاديا صريحا من تراث العصر الوثني، فلم يكتفوا بإعدام جزء كبير من ذلك التراث، بل رفضوا مطلقا الإفادة منه ومحاولة فهمه وتعلمه أو تعليمه. ويكفي مثلا أن أحد أساقفة كتدرائية أوتونAutun تساءل " كيف يمكن تنقية الروح وتهذيب النفس عن طريق قراءة حروب طروادة وجدل أفلاطون وأشعار فرجيا، وغيرهم من الوثنيين الذين يصلون الآن نار جهنم ومن الواضح أن هذا التساؤل كان في أواخر النشرة المظلمة من العصور الوسطى، عندما بدأت تتردد على مسامع الغربيين أسماء بعض أعلام العصر الوثني. ولا أدل على ضعف مستوى الطب عند الأوربيين الغربيين في تلك المرحلة من الوقوف على الأسلوب الذي كانوا يعالجون به مرضاهم في بلاد الشام في عصر الحروب الصليبية ، الأمر الذي استثار سخرية أطباء المسلمين وكتابهم في القرن الثاني عشر. على أنه مه نهاية القرن العاشر أخذت تنقطع تدريجيا موجة الظلام التي اكتنفت الغرب الأوربي منذ أواخر القرن الخامس للميلاد ، وظهر بصيص خافت من النور أخذ ينمو تدريجيا معلنا بشائر نهضة جديدة في غرب أوربا اكتملت معالمها في القرن الثاني عشر، مما جعل المؤرخين يطلقون عليها اسم " النهضة الأوربية في القرن الثاني عشر " ويؤكد الباحثون أن هذه النهضة الوسيطة لم يخب لها نور بعد ذلك، إذ استمرت تزدهر وتتسع تدريجيا حتى استكملت صورتها في النهضة الإيطالية في القرن الخامس عشر. وبعبارة أخرى فإن البداية الحقيقية للنهضة الأوربية الحديثة ترجع إلى القرن الثاني عشر، وإن ظلت هذه البداية تسير سيرا حثيثا حتى برزت صورتها واضحة فى القرن الخامس عشر. وليس هذ1 مجال التوسع في خصائص هذه النهضة ومعالمها وآفاقها ، وإنما نكتفي في حدود أهداف هذا البحث أن نؤكد على عدة نقاط:- أولا : إن هذه النهضة الأوروبية في القرن الثاني عشر جاءت بحالة من الاستقرار عمت غرب أوربا بعد أن انكسرت حدة غزوات المجريين من الشرق وغزوات الفايكنج من الشمال وغزوات المسلمين من الجنوب. ثانيا: مهدت لهذه النهضة حركة إصلاح ديني واسعة النطاق استهدفت إصلاح المؤسسات الدينية كالأديرة والكنائس، والارتفاع بالمستوى الفكري والثقافي لرجال الدين، والقضاء على المفاسد التي اعترت النظام الكنسي أو التي عمت- حياة رجال الدين العامة والخاصة. ثالثا: إن هذه النهضة واكبتها حركة انفتاح واسعة على الحضارة العربية الإسلامية ، إذ أفاق كثيرون في غرب أوربا من غمرة الجهل والظلام التي عمت مجتمعهم طوال عدة قرون، ليجدوا أنفسهم أمام بناء حضاري إسلامي ضخم، لم يترك علما ولا فنا ولا أدبا إلا أسهم فيه بسهم وافر، فضلا عن حياة اجتماعية واقتصادية وفكرية نشطة، نعم بها المسلمون بعيدا عن روح التزمت والانغلاق والتشدد التي سادت المجتمعات الغربية في ظل قيود الكنيسة وجهل رجال الدين . وكان أن نزح كثيرون من طلاب المعرفة إلى حيث يجدون ما ينشدونه من ثمار التراث العربي الإسلامي، فعكفوا على تعلم العربية، لترجمة أمهات الكتب إلى اللاتينية، الأمر ائذي أتاح لغيرهم في غرب أوربا دراسة هذه الكتب ، غير مبالين بالأوامر التي أصدرتها البابوية بين حين وآخر لتحريم دراسة كتب المسلمين . أما أشهر مراكز الترجمة من العربية إلى اللاتينية- بين القرنين الحادي عشر والخامس عشر- فكانت الأندلس وصقلية ، فضلا عن بعض أجزاء بلاد الشرق الأدنى في عصر الحروب الصليبية. رابعا: جاء الإقبال على حضارة المسلمين والرغبة في الإفادة من علومهم مصحوبا في غرب أوربا بحركة تمرد- وخاصة من جانب الشباب وطلاب العلم- ضد الكنيسة وسطوة رجالها، بعد أن ضاق كثيرون بالإرهاب الفكري والاجتماعي، الذي فرضته الكنيسة ورجالها على الناس أمدا طويلا . وجدير بالذكر أن بعض المستنيرين من رجال الكنيسة رأوا الاستفادة من علوم المسلمين ومعارفهم، فشجعوا حركة الترجمة عن العربية إلى اللاتينية. ومن هؤلاء نذكر ريموند أسقف طليطلة في القرن الثاني عشر، وقد أقام مكتبا للترجمة في أسقفيته ، أسهم إسهاما كبيرا في ترجمة كثير من المؤلافات العربية في شتى ضروب المعرفة . كذلك يلاحظ أننا عندما نشير إلى مؤلفات العرب وعلومهم، فإننا لا نعني أن كان هذه المؤلفات،والعلوم ذات أصول عربية بحتة، أو أن كل ما فيها من معارف جاء من خلق علماء المسلمين وابتكارهم. فالحضارة الإسلامية اتصفت بسعة الأفق والتسامح وعدم التزمت، ونادى الإسلام بطلب العلم ولو في الصين مع معرفة المسلمين ببعد الصين من ناحية وبأن أهلها وثنيون من ناحية أخرى. ومنذ البداية لم يتردد المسلمون في الاستفادة من معارف السابقين ونقل ما صادفه من مؤلفاتهم إلى العربية ، بصرف النظر عن عقيدتهم ومللهم ونحلهم. ومن هذا المنطلق شرع المسلمون في ترجمة الكثير من كتب اليونان والفرس والهنود وغيرهم إلى العربية (17). ولكن دور علماء المسلمين لم يقتصر على الإفادة من جهود غيرهم، ونقل مؤلفات السابقين إلى لغتهم ، وإنما يأتي إسهامهم العظيم في ميدان الحضارة في تفنيد ما في هذه الكتب والمؤلفات من معلومات، وتصحيح ما فيها من أخطاء، والربط بين ما جاء في أطرافها من معارف متناثرة وشذرات متباعدة ، وشرح تفسير ما قد يكون غامضا منها.. ثم إضافة الجديد من المعلومات التي توصل إليها علماء المسلمين ولم يعرفها غيرهم من السابقين. وبذلك نجح علماء المسلمين في إقامة بناء حضاري لا يمكن أن يوصف إلا بأنه بناء إسلامي . وعلينا أن نوضح في هذا المقام أنه لا يقلل من قيمة الحضارة الإسلامية مطلقا أنها أقامت بنيانها في بعض المجالات- كالفلسفة والعلوم التجريبية أو العقلية على أسس غير إسلامية، من معارف السابقين ذميين كانوا أو وثنيين ذلك أن ارتقاء الحضارة البشرية يقوم على مبدأ استفادة الخلف من جهود السلف، وبفضل ذلك ارتفع صرح الحضارة البرية طبقة بعد أخرى. ولو التزم كل جيل بأن يبدأ المسيرة الحضارية" من نقطة الصفر، معرضا عما توصل إليه السابقون من إنجازات، لما نزل الإنسان في القرن العشرين على سطح القمر، ولوجدنا أنفسنا اليوم نشعل النار عن طريق قدح حجرين بعضهما ببعض، أسوة بما فعل الإنسان الأول، ولكن عظمة الحضارة الإسلامية تنبع من أن دورها لم يقتصر على النقل عن السابقين، وإنما تعدى ذلك إلى التصحيح والربط والتوفيق، ثم الابتكار والخلق والإبداع والإضافة. ثم إن بناة لحضارة الإسلامية لم يفعلوا كما فعل رجال الكنيسة والأديرة من إحراق كتب الوثنيين وهدم معابدهم ونبذ تراثهم ، دون تفرقة بين الصالح منه وغير الصالح. وإنما احترم علماء المسلمين ما خلافه السابقون- وثنيين كانوا أو ذميين- من تراث، وأشادوا بعلمائهم واعترفوا بفضل أولى الفضل منهم، دون تعصب لدين أو لمذهب، ودون اعتبار لجنس أو ملة. فالعلم النافع في نظرهم يأتي فوق كافة الاعتبارات العقائدية أو العنصرية. وها هو ابن أبي أصيبعه- على سبيل المثال لا الحصر- يستهل مؤلفه المعروف (عيون الأنباء في طبقات الأطباء) بذكر الأطباء اليونانيين القدامى- مثل أسقليبيوس وأبقراط - فيقول عن الأول " هو أول من ذكر من الأطباء، وأول من تكلم في شيء من الطب على طريقة التجربة ". ويشيد بالثاني، ممتدحا العهد الذي وضعه " قسم أبقراط "، واصفا إياه بالطهارة والفضيلة . وعندما يتطرق ابن أبي أصيبعه إلى مشاهير الأطباء في ظل دولة الإسلام في المشرق أو المغرب، لا يسقط من تعداده طبيبا مسيحيا أو يهوديا، وإنما يصف الواحد منهم بأنه صابئي أو مسيحي أو يهودي، ويقرن ذلك بالثناء على علمه وفضله معددا إنجازاته ومؤلفاته.. كل ذلك في تسامح وسماحة لا نظير لهما إطلاقا في عالم العصور الوسطى، الأمر لذي دفع أحد الكتاب الأوربيين المحدثين إلى القول بأن " الحضارة الإسلامية نمت بسبب تسامحها إزاء العناصر الأجنبية " . هذا إلى أن فضل الحضارة الإسلامية على المسيرة الحضارية العالمية لا يقتصر على النقل عن السابقين، وشرح ما صعب من كتاباتهم، وتصحيح ما وقعوا فيه من أخطاء وإضافة الجديد إلى ما تحتويه من معارف.. وإنما يضاف إلى هذا كله الإسهام بدور كبير في حفظ جانب هام من تراث السابقين. وقد ثبت أن هناك كتبا ومؤلفات عديدة ألفها علماء اليونان في العصور القديمة- وبخاصة في الفلسفة والطب- ضاعت أصولها اليونانية، ولم يعد العالم يعرفها إلا من خلال الترجمات العربية وحدها . ومع تدفق علوم العرب ومعارفهم على غرب أوربا، اتضح أن المؤسسات التعليمية القائمة في الغرب لا يمكن أن تتسع لهذا الكم أو الكيف من المعارف الجديدة. ذلك أن الغرب الأوربي لم يعرف طوال الشطر الأول من العصور المظلمة- وحتى القرن العاشر- سوى المدارس الديرية والكتدرائية ، وهذه بحكم طبيعتها وتكوينها وإشراف رجال الدين عليها إشرافا تاما كاملا ، كانت لا يمكن أن تتقبل أو تستوعب دراسات في الفلسفة أو العلوم العقلية التجريبية كالطب والكيمياء والفيزياء وغيرها . ولما كان التيار كاسحا، والرغبة في استيعاب الجديد من المعارف جامحة ، فإنه مع تطلعات طلاب العلم في غرب أوربا، صار لزاما أن تظهر مؤسسات جديدة تستوعب ما في كتب المسلمين من معارف وعلوم جديدة ، سواء كانت هذه المعارف ذات أصول عربية إسلامية، أو غير عربية إسلامية ولكنها صارت جزءا من التراث العربي الإسلامي بعد أن استوعبتها مؤلفات المسلمين وعالجها علماؤهم بالشرح والتصحيح والإضافة، قبل ترجمتها إلى اللاتينية. وهكذا عرف الغرب الأوربي الجامعات لأول مرة في تاريخه، وكان ذلك قي أواخر القرن الحادي عشر وأوائل القرن الثاني عشر للميلاد ، وتحيط بنشأة الجامعات الأوربية موجة كثيفة من الغموض، كما هو الحال في كثير من النظم التي ظهرت نتيجة لتطور ظروف وأوضاع معينة وليس نتيجة لإجراءات وقوانين محددة. فمن الجامعات الأوربية ما يدين بنشأته لظهور عالم مبرز في فرع معين من فروع المعرفة، وذلك في مدينة أو منطقة محددة، فيهرع طلاب العلم إلى ذلك المكان للتتلمذ على يديه مما يشكل نواة لبيئة علمية تنبت فيها الجامعة. ومنها ما ترجها أصوله إلى مدرسة قديمة- دينية أو غير دينية- أخذت تتطور، وفتحت أبوابها أمام المعرفة الجديدة مما جعلها بؤرة للمعلمين والمتعلمين. وكثيرا ما كان طلاب العلم قي مدينة يتعرضون للاستغلال وسوء المعاملة من بلدية المدينة وأهلها ، فيهاجر بعضهم وبصحبتهم فريق من أساتذتهم إلى بلدة أخرى قريبة أو بعيدة، حيث تطيب لهم الإقامة، فيكونون نواة لجامعة جديدة، مما جعل بعض الباحثين يمثل ظاهرة انتشار الجامعات في غرب أوربا في ذلك الدور بتكاثر خلايا النحل. وعندما غدت الجامعات حقيقة واقعة، اعترف بها الحكام من أباطرة وملوك وأمراء كبار، وأصدروا مراسيم وبراءات تحدد روح هذه المؤسسات الجديدة، مما ضمن لها وجودا رسميا معترفا به من الدولة. ثم كان أن وجد بعض الحكام والملوك في الجامعات أداة لتدعيم سلطانهم وتنفيذ سياستهم، أو إضفاء قدر من الجاه والعظمة على أنفسهم، فقاموا بإنشاء جامعات جديدة في بلادهم، وأصدروا مراسيم تحدد أفق هذه الجامعات ونظمها. وربما أدركت بعض المدن أن وجود أعداد كبيرة من رجال العلم داخل أسوارها من الممكن أن يشكل مصدر دخل لها، وخاصة أن الجامعات استرعت الطلاب، من مختلف البلاد والجنسيات، وهؤلاء كانت تأتيهم نفقات معيشتهم من ذويهم بالخارج . لذلك قامت بعض بلديات المدن بإنشاء جامعات فيها، ووفرت لأعضائها الضمانات الكافية لسلامتهم. ولم تستطع الكنيسة نفسها البقاء طويلا خارج دائرة هذا النشاط ، لأنه لم يكن من صالحها خروج هذه المؤسسات الجديدة من قبضة يدها، فأصدرت عدة براءات عن البابوية وكبار الأساقفة للاعتراف ببعض الجامعات، أو لتحديد مسيرها، أو منعها من تدرس بعض المواد التي تتعارض وسياسة الكنيسة مثل فلسفة أرسطو وشروح (بن رشد عليها- أو إلزامها بتدريس مواد معينة تخدم سياسة الكنيسة . ومهما يكن من أمر، فإن هناك إجماعا على أن أولى الجامعات التي ظهرت في الغرب الأوربي هي جامعات بولونا وباريس وسالرنو. أما جامعة بولونا فقد ظهرت في وسط إيطاليا واشتهرت بالقانون، وبنت هذه الشهرة على أساس سمعة أحد كبار المشرعين وفقهاء القانون في أوائل القرن الثاني عشر، هو أرنريوس. وأما جامعة باريس فقد قامت في فرنسا واشتهرت بالمنطق والفلسفة والدراسات الإنسانية، وارتبطت هذه الشهرة بالعالم الكبير أبيلار (1079- 1142) . وأما جامعة سالرنو فقد قامت في جنوب إيطاليا في أواخر القرن الحادي عشر، واشتهرت بالطب، وبنت هذه الشهرة على أساس سمعة قسطنطين الإفريقي Constantine Africanus . والواقع أن البذور الأولى للاهتمام بعلم الطب في غرب أوربا في الشطر الأخير من العصور الوسطى، يحيط بها الغموض الشديد مما يجعل أن الصعب في كثير من الحالات الدخول في تفصيلاتها . ومع ذلك فإنه يمكن تتبع تلك الجذور في سالرنو منذ أواخر القرن التاسع وقبيل منتصف القرن العاشر، إذ جاء في الوثائق- المعاصرة أنه حدث لقاء في بلاط لويس الرابع ملك فرنسا سنة 946 بين أسقف فرنسي له إلمام بعلم الطب، وطبيب شهير وافد من سالرنو له خبرته في ممارسة صنعة الطب- ومن خلال التفصيلات المتعلقة بهذا اللقاء يبدو أن سالرنو كالت قد أدركت في ذلك الوقت شهرة، لا بوصفه، مركزا علميا لدراسة الطب على أسس أكاديمية، وإنما بوصفها مكانا يمارس فيه العلاج الطبي كمهنة أو حرفة تطبيقية . وإذا كان من الصعب أن نعثر على أدلة كافية تثبت وجود مدرسة لتعليم الطب في سالرنو في ذلك الدور المبكر فإن كل ما نستطيع أن نجزم به هو أن سالرنو اشتهرت في القرن العاشر بأنها مكان طيب للعلاج الطبي كما اشتهرت بتواجد مجموعة من الأطباء المتمرسين فيها. وإذا كان أوردريكوس فيتاليسOrdericus Vitals في النصف ا الأول س القرن الثاني عشر قد وصف مدرسة سالرنو لتعليم الطب، بأنها عريقة وقائمة منذ القدم ، فإن تعبير" عريقة " هنا عائم ومن الممكن أن يكون تعبيرا نسبيا قصد به الرجوع إلى الوراء خمسين أو مائة سنة. والغالب أن شهرة مدرسة سالرنو في الطب ذاعت في غرب أوربا منذ منتصف القرن الحادي عشر، أي قبل بزوع نجم مدرسة بولونا في القانون ، وذيوع شهرة مدرسة باريس في الفلسفة والعلوم الإنسانية بنصف قرن على الأقل. ويميل بعض الباحثين إلى عدم إضفاء صفة " الجامعة " على مؤسسة سالرنو الطبية لافتقارها [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط] |
|