الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين .... وبعد
ضمن لأوراق المقدمة في المؤتمر الدولي الثاني للتعلم الالكتروني المقام في العاصمة السعودية الرياض خلال فبراير 2011 أعرض لكم إحدى أعمال الدكتور محمد سامي عبد الصادق أستاذ القانون المدني المساعد بكلية الحقوق – جامعة القاهرة والمعار لكلية الحقوق - جامعة الكويت والتي حملت عنوان (حقوق الملكية الفكرية في مجال التعلم الالكتروني) آملا أن تحقق الفائدة المرجوة
مقدمة
ليس من شك في أن التعليم هو طريق التقدم لأي مجتمع من المجتمعات، فهو – وبحق – المحرك الرئيسي لعجلة الإنتاج الفكري الذي يشكل عنصراً أساسياً في ازدهار ورقي الشعوب، لاسيما وأن ما وصلت إليه الأمم المتقدمة في مجالات الآداب والفنون والعلوم يرجع الفضل فيه إلى الأدباء والعلماء والمخترعين وغيرهم من المبدعين والمبتكرين الذين يستحقون كل تقدير ورعاية.
والمتتبع لمسار العملية التعليمية في العديد من دول العالم يدرك – بما لا يدع مجالاً للشك – التطورات التي طرأت على هذا المسار في السنوات الأخيرة، خصوصاً مع التوسع في استخدام الحاسبات الآلية وبرامجها وشبكاتها وغيرها من وسائل الاتصال الحديثة التي تقوم بنقل المعارف وتبادل المعلومات، فقد أحدثت التطورات التي شهدها العالم في مجال تقنية المعلومات والاتصالات نقلة نوعية أثرت إيجاباً في مسار التعليم وبخاصة ما يتعلق بطرق وأساليب التدريس ووسائل اكتساب المعارف والمهارات، لتتخطى بذلك قيود الزمان والمكان.
وهكذا ظهر ما يسمى بالتعلم الالكتروني، وهو نظام تعليمي حديث يستخدم تقنيات المعلومات والاتصالات في تدعيم وتطوير وتوسيع نطاق العملية التعليمية، بحيث يعمل هذا النظام على تقديم محتوى تعليمي قابل للتفاعل النشط من خلال وسائط إلكترونيه معتمده على برامج الحاسب الآلي وشبكة الانترنت، وبحيث يقدم هذا المحتوى إلى الدارس، أينما كان، وسواء بمفرده أو كمجموعات من الدارسين، إما بصوره متزامنة أو غير متزامنة.
والملاحظ أن التطور الهائل الذي طرأ على تقديم الخدمات التعليمية من خلال التعلم الالكتروني استتبع بالضرورة ظهور أنماط جديدة من المعاملات لم تكن معروفة من قبل، الأمر الذي يستلزم بالضرورة السعي إلى وضع تنظيم محكم لهذه المعاملات بالرجوع إلى القوانين والأنظمة السارية أو باستحداث قوانين وأنظمة جديدة تواجه ما يكشف عنه الفراغ القانوني في هذا الإطار. ويمكن القول إن من بين القوانين المعنية تلك المرتبطة بالمعاملات الإلكترونية وحماية المستهلك وحماية حقوق الملكية الفكرية، وكلها يمكن أن تساعد في إرساء حقوق وواجبات القائمين على تقديم الخدمات التعليمية المستحدثة فضلاً عن المستفيدين منها.
وإذا كانت حقوق الملكية الفكرية هي الحقوق الأدبية والمالية التي تتقرر لصاحب الفكر والإبداع على ما ينبثق عن قرائح ذهنه، كحق العالم على مراجعه العلمية وحق الأديب على مؤلفه وحق المخترع على اختراعه، وهي بالمعني المتقدم تنسحب على حقوق أصحاب المحتوي التعليمي على ما يقدمونه في خدمة التعليم، أياً كان نوعه أو طريقة التعبير عنه، لذلك سوف نتطرق من خلال هذا البحث إلى موضوع "حقوق الملكية الفكرية في مجال التعلم الالكتروني"، وهو موضوع يكتسب قدراً كبيراً من الأهمية لاعتبارات تقنية وإحصائية وفقهية.
ومن هذا المنطلق، تأتي أهمية هذا البحث الذي نسلط من خلاله الضوء على تناول قوانين وأنظمة حقوق الملكية الفكرية لوسائط التعلم الالكتروني كمصنفات محمية، والحقوق التي يمكن أن تتقرر للمؤسسات التعليمية على هذه المصنفات، فضلاً عن كيفية التعامل مع مشكلات النشر الالكتروني، باعتباره وسيلة الإتاحة للمحتوى التعليمي للدارسين عبر شبكة الانترنت، والتعامل مع قضايا القرصنة الفكرية لبرمجيات التعلم الالكتروني.
والواقع أن المؤسسة التعليمية، في إطار تقديمها لخدمة التعلم الالكتروني، كثيراً ما تتعامل على المصنفات المحمية بموجب قواعد الملكية الفكرية، وهذا التعامل لا يخرج – من وجهة نظرنا – عن ثلاثة فروض: الفرض الأول- أن تكون المؤسسة التعليمية هي صاحبة الحقوق على هذه المصنفات، سواء بإعدادها لها في إطار المصنفات الجماعية أو بشراء الحقوق المالية الواردة عليها، والفرض الثاني – أن تستخدم المؤسسة التعليمية المصنفات المحمية استخداماً مشروعاً بغرض الإيضاح التعليمي أو بغرض النقد والتحليل، وذلك دون حاجة إلى الحصول على ترخيص من أصحابها إعمالاً للاستثناءات التي تقررها قوانين وأنظمة حقوق الملكية الفكرية، أما الفرض الثالث- أن تنتهك المؤسسة التعليمية حقوق المؤلفين بالتعدي على المصنفات المحمية عن طريق إتاحتها للدارسين بعيداً عن الفرضين الأول أو الثاني. ولأجل توضيح الفوارق الجوهرية بين الفروض السابقة، سنتناول حقوق المؤسسات التعليمية على المصنفات في إطار التعلم الالكتروني، واستخدام المؤسسات التعليمية للمصنفات المحمية لأغراض التعلم الالكتروني، فضلاً عن مسئولية المؤسسات التعليمية الناشئة عن التعدي على حقوق الملكية الفكرية.
المبحث الأول
حقوق المؤسسات التعليمية على المصنفات في إطار التعلم الالكتروني
تمهيد وتقسيم:
إذا كان المؤلف هو صاحب الحقوق الأدبية والمالية على المصنف الذي أبدعه، فإن التساؤل الذي يطرح نفسه في هذا الصدد هو: هل مصطلح "المؤلف" قاصر على الشخص الطبيعي أم أنه يمكن أن يمتد للشخص الاعتباري ؟ ... لقد سمحت الكثير من قوانين وأنظمة الملكية الفكرية في العالم للشخص الاعتباري باكتساب صفة المؤلف شأنه في ذلك شأن الشخص الطبيعي، بحيث تثبت ملكية المصنف للشخص الاعتباري مثلما تثبت للشخص الطبيعي، مع ملاحظة أن وصف حق المؤلف على المصنف بالملكية هو على سبيل المجاز، لأن الملكية ترد في الأصل على الأشياء المادية، وإذا كان من طبيعة حق المؤلف أن يكون مقصوراً على المالك وحده، فإن حق المؤلف ينفر من تلك الطبيعة، فلا يمكن قصر الاستفادة بالمصنف على المؤلف وحده، كما أن الأخير لا يريد أن تكون الأفكار قاصرة عليه وحده، بل على العكس يهدف إلى نشرها بين أفراد المجتمع. فإذا كانت الملكية لا تؤتي ثمارها إلا بالحيازة والاستئثار فإن الفكرة تؤتي ثمارها بالذيوع والانتشار .
ومفاد ما تقدم، أن المؤسسات التعليمية – وهي كيانات قانونية اعتبارية – من الممكن أن تثبت لها ملكية المصنفات الأدبية أو الفنية أو العلمية التي قامت بإعدادها كمحتوي تعليمي الكتروني، ومن ثم تستطيع أن تباشر كافة الحقوق الأدبية والمالية على هذه المصنفات، أو من الممكن أن تباشر الحقوق المالية دون الحقوق الأدبية إذا لم تقم بإعداد المصنفات وإنما اكتفت بشراء حقوق الاستغلال الواردة عليها كما سنرى.
المطلب الأول
ملكية المؤسسات التعليمية للمصنفات الجماعية في إطار التعلم الالكتروني
المصنف الجماعي كما يعرفه الفقه هو المصنف الذي يضعه أكثر من مؤلف بتوجيه من شخص طبيعي أو اعتباري يتكفل بنشره باسمه وتحت إدارته، ويندمج عمل المؤلفين فيه في الهدف العام الذي قصد إليه هذا الشخص بحيث لا يمكن تخويل أحدهم حقاً مميزاً على مجموع المصنف. ومن أمثلة المصنفات الجماعية: الإصدارات الصحفية، والقواميس اللغوية، والموسوعات العلمية، وغيرها من المصنفات التي يبادر الشخص الاعتباري بدعوة جماعة من المؤلفين لإعدادها تحت إدارته وإشرافه لتخرج إلى الجمهور حاملة اسمه. والمصنفات الجماعية، على نحو ما سبق، تستلزم توافر شرطين أساسيين أجمعت عليهما قوانين وأنظمة الملكية الفكرية في مختلف دول العالم: الشرط الأول – يتمثل في مبادرة شخص طبيعي أو اعتباري يقوم بتوجيه عمل المشاركين، ثم ينشر المصنف تحت إدارته وباسمه ، والشرط الثاني – يتعلق باندماج مساهمات المؤلفين المشاركين بحيث لا يمكن تخويل أحدهم حقاً مميزاً على مجموع المصنف.
وبالنظر إلى ما تقدم، يتضح أن المؤسسة التعليمية إذا بادرت بتوجيه الدعوة وتعاقدت مع عدد من الباحثين أو المتخصصين في مجال من مجالات المعرفة ووضعت لهم التصور العام للمحتوى التعليمي الذي ترغب في إعداده كمصنف وأشرفت على هذا الإعداد وأنفقت عليه ونشرت هذا المحتوى منسوباً إليها بعد إعداده، فإنها تكتسب الحقوق الأدبية والمالية على هذا المصنف، لأنه إعمالاً لأنظمة الملكية الفكرية فإن المصنف الجماعي يعتبر – فيما عدا حالة إثبات العكس – ملكاً للشخص الطبيعي أو الاعتباري الذي ينشر المصنف تحت اسمه، وبمعنى آخر يكون للمؤسسة التعليمية التي وجهت ابتكار المصنف الجماعي التمتع وحدها بمباشرة حقوق المؤلف عليه .
ويلاحظ أن العلاقة بين المؤسسة التعليمية والباحثين أو المتخصصين أصحاب الإبداع الفعلي في المصنف التعليمي غالباً ما تتم عن طريق مجموعة من العقود الثنائية التي تنهض المؤسسة على إبرامها مع كل مشارك على حده، وتتخذ العلاقة بين أطرافها إما الشكل الخاص بعقود العمل، كما لو كانوا عاملين لديه، أو عقود المقاولة، حيث يكونون مستقلين لا تربطهم بها علاقة تبعية، وإن كان لها حق الإشراف عليهم بالنسبة لهذه المصنفات. وفي جميع الأحوال، تتضمن تلك العقود حقوق والتزامات كل طرف، إذ نحن دائماً أمام اتفاقات ملزمة للجانبين ، فالمؤسسة – وهي التي تبادر بإعداد المصنف – تلتزم في مواجهة الباحثين والمتخصصين بدفع الأجر أو المقابل المالي للمساهمات الأدبية أو الفنية أو العلمية المقدمة، في حين يلتزم كل باحث ومتخصص بتنفيذ العمل المكلف به وفقاً لما هو متفق عليه.
ومفاد ما سبق، أن المؤسسة التعليمية متى اكتسبت حقوق الملكية الفكرية على مصنف تعليمي جماعي فإنها تملك الحقوق الأدبية والمالية الواردة عليه، بمعنى أن المصنف ينسب إليها، وأن لها وحدها الحق في إتاحته، أي تحديد وقت خروجه للجمهور للحكم عليه، كما أنها صاحبة الحق في الدفاع عن المصنف في حال التعدي عليه، ولها أيضاً الحق في منع طرحه أو سحبه من التداول أو في إدخال تعديلات جوهرية عليه إذا ارتأت ذلك، هذا بالإضافة إلى حقها المالي في استغلاله وفي اختيار طريقة هذا الاستغلال ومداه والغرض منه، بحيث يحق لها استنساخ المصنف ونشره في مطبوعات ورقية، أو على الأقراص مدمجة، أو عبر شبكة الانترنت، أو بثه عبر شاشات التلفاز حياً أو مسجلاً، أو توزيعه في شكل تسجيلات صوتية أو تسجيلات سمعية بصرية، أو تحويره، أو ترجمته، أو تأجيره، أو إعارته، أو حتى التنازل عن هذه الحقوق المالية وإتاحته للدارسين وغيرهم من عامة الناس دون مقابل.
المطلب الثاني
حق المؤسسات التعليمية في استغلال مصنفات التعلم الالكتروني
يحدث في كثير من الأحيان أن تتوجه المؤسسات التعليمية إلى المؤلفين أصحاب الإبداع على المصنفات أو الناشرين المتنازل إليهم عن حقوق الاستغلال الواردة عليها، لشراء كل أو بعض هذه الحقوق المالية لأجل طرح المصنفات على الدارسين في إطار التعلم الالكتروني، وبحيث لا يشكل طرحها لهذه المصنفات تعدياً على حقوق الملكية الفكرية. والمؤسسة التعليمية عند شرائها لحقوق الاستغلال المالي على المصنف، يجب أن تراعي الاشتراطات القانونية التي تتطلبها أنظمة الملكية الفكرية لصحة التنازل عن كل أو بعض الحقوق المالية الواردة عليه، إذ يلزم أن يكون التصرف الصادر من المؤلف أو الناشر إلى المؤسسة التعليمية مكتوباً ، مع ملاحظة أن الكتابة ليست وسيلة للإثبات وإنما هي شرط لانعقاد التصرف، بمعنى أنه إذا لم تكن هنالك كتابة فلا وجود للتصرف من الأساس، كما يلزم أن يبين هذا التعاقد المكتوب بين المؤسسة التعليمية والمؤلف أو الناشر حدود التصرف من حيث الزمان والمكان وطريقة الاستغلال والغرض منه ، بحيث يحدد مدة الاستغلال التي لا يصح أن تكون مؤبدة، كما يحدد نطاق الاستغلال (مثال: داخل الحدود الجغرافية للدولة، أو في منطقة الخليج، أو في الشرق الأوسط، أو في جميع أنحاء العالم)، كذلك يبين التصرف الطريقة التي ستستغل بها المؤسسة التعليمية للمصنف، سواء بقصر إتاحته في شكل مطبوعات ورقية أو على أقراص مدمجة أو من خلال تسجيلات صوتية أو سمعية بصرية أو بإتاحته عبر شبكة الانترنت، مع بيان عدد النسخ المسموح طرحها إذا كنا نتحدث مطبوعات أو وسائط الكترونية، أو مع بيان حدود النشر الالكتروني عبر شبكة الانترنت حفاظاً على حقوق المؤلف، بحيث تلتزم المؤسسة التعليمية عند تعاقدها على شراء الحق في استغلال المصنف عن طريق نشره الكترونياً عبر موقعها الالكتروني على شبكة الانترنت بأن تقوم بالترخيص الحصري للأساتذة العاملين بالمؤسسة والدارسين فيها دون غيرهم بالدخول على صفحات هذا الموقع والاستخدام الشخصي له مع إمكانية قصر حقهم على الإطلاع على المحتوى التعليمية دون تحميله وإنزاله على الأجهزة أو عدم تعديل هذا المحتوى إلا بموافقة كتابية صريحة.
المبحث الثاني
استخدام المؤسسات التعليمية للمصنفات لأغراض التعلم الالكتروني
تسمح الكثير من قوانين وأنظمة الملكية الفكرية في العالم للمؤسسات التعليمية والعاملين بها باستخدام المصنفات الأدبية أو الفنية أو العلمية المحمية لغرض الإيضاح التعليمي، تحت ما يتعارف على تسميته بنظام "الاستخدام الحر للمصنفات المحمية"، بحيث يحق للمؤسسات التعليمية والعاملين بها بموجب هذا النظام استنساخ المصنفات المحمية للأغراض التعليمية دون الحصول على إذن أصحاب الحقوق على هذه المصنفات، وذلك عن طريق المطبوعات أو البرامج الإذاعية أو التسجيلات الصوتية أو السمعية البصرية أو من خلال البث التليفزيوني للمصنفات المتاحة – لغايات مدرسية أو تربوية أو جامعية أو لغايات التدريب المهني – بثاً بغرض التعليم. وتساؤلات عدة تفرض نفسها في هذا السياق: ما هو مضمون هذا الحق ؟ وما هي الضوابط التي تحكمه ؟ وهل ينسحب هذا الحق على النشر الالكتروني، بحيث يحق للمؤسسات التعليمية إتاحة المصنفات المحمية للدارسين بها عبر شبكة الانترنت ؟